من حكمة الله سبحانه وتعالى ، وابتلائه لعباده أن جعل الدنيا دار عملٍ للمكلفين ، ونوَّع لهم فيها سُبُلَ طاعته ، وطُرق الوصول إليه ، والإقبال عليه .
كما يوجد في الدنيا شهوات وشبهات تصد عن سبيل الله تعالى ، وتُلهي العبد عن طاعة ربه ، وتجره إلى المعاصي والذنوب .
ومن سمة دروب النجاة ، وسُبُل الفوز والفلاح أنّ فيها من المشقة على النفوس ما فيها ، مما يجعل العبد محتاجاً إلى مجاهدة النفس ، واصطبارها على طاعة الله تعالى ، كما أن من خصائص دروب الهلاك والردى سهولة نيلها والوصول إليها ، ومحبة النفوس لها ، وميل الغرائز البشرية إليها ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" حُفَّت الجنةُ بالمكاره ، وحُفَّت النار بالشهوات " .
والواحد من الناس يعيش في الدنيا ما كتب الله تعالى له من عمر ، والساعاتُ والأيام تمضي على الناس سواءً بسواء ، فلا تتقدم لبعضهم ولا تتأخرعن آخرين ، والعبرة بالأعمال التي قضيت فيها الساعات والأيام ؛ فهي مكتوبة على العباد ، وسيجازون بها يوم القيامة (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) .. (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ) ..
إنها إيام تمضي ، وسنوات تذهب ، وأعمالٌ تُدوَّن ، وكما أن شهر رمضان كان يُنْتظر هاهو قد ولىَّ وانتهى ، وكم من رمضانات انتظرها العباد وصاموها ثم ذهبت سريعاً ، ومن عاش منهم فسينتظر رمضانات أخرى ،وسوف تمضي كما مضى غيرها ، وهكذا عُمر الإنسان .
والموفق من عباد الله من جعل حياته كلَّها رمضان ، يصوم فيها عن المحرمات ، ويجتهد في الطاعات ، وينافس في الخيرات ؛ حتى ينتهي أجله ؛ كما قال الحسن البصري رحمه الله :" من نافسك في دينك فنافسه ، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره "
ومن نظَّم وقتهُ في رمضان ، وقسَّمهُ بين أنواع العبادات فإنه يستطيع أن يفعل ذلك في غير رمضان .
لقد رأينا كثير من الناس يحافظون على صلاة القيام ، ويخصصون وقتاً للقرآن ، ويُبكرون للذهاب إلى المساجد ، ولا يتركون النوافل والسنن الرواتب ، ويلتزمون بأذكار الصلوات ، وأذكار الصباح والمساء وغيرها ، ولربما كان لهم عبادات كثيرة قد خصوها بوقت من الأوقات ، فما الذي يمنعهم من الاستمرار على ذلك بعد رمضان ؟ .. وتنظيم الوقت ومعرفة قيمة العمر من أعظم ما يعين العبد على ذلك ، وكما أن الواحد منهم شحيحاً بوقته في رمضان ، محاسباً لنفسه أن تضيع منه الدقائق في غير عبادة ، فلماذا لا يكون هذا دأبهم بعد رمضان ؟؟ قال الحسن رحمه الله " أدركت أقواماً كان أحدهم أشحَّ على عمره منه على دراهمه ودنانيره " لأن الإنسان سيسألُ عن هذا العمر وهذا الوقت الذي عاشه ؛ فيما أبلاه وضيَّعه .
إن كثيراً من الناس لما دخل رمضان عرفوا قيمته وفضله ، وأحسوا أن أوقاتاً منهم كانت تضيع في مجالس الكلام ، واللهو ، والأعمال غير النافعة للدنيا ولا للآخرة .. فعزموا على استثمار تلك الأوقات الضائعة ، ومنعوا أنفسهم من فضول المخالطة والمجالسة والكلام والأعمال غير المفيدة ، وصرفوا أوقاتها في طاعة الله تعالى ؛ فحصَّلوا الخير الكثير ... ولو نظرنا في اعمالنا اليومية لوجدنا أن كثيراً منها لا يعدو أن يكون فضولاً لا نفع فيه بوجه من الوجوه ، فلماذا لا تستثمر مثل هذه الأوقات الضائعة فيما يعود على العبد بالخير في الدنيا والأخرة ؟؟.
قال عطاء بن رباح رحمه الله :" إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام ، وكانوا يعدون من فضوله ما عدا كتاب الله عزَّ وجلَّ أن تقرأه ، وتأمر بالمعروف أو تنهى عن منكر ، أو تنطلق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها ، أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين ".
وقال الأوزاعي رحمه الله : " كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله برسالة لم يحفظها غيري عنه : أما بعد ، فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومن عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما ينفعه ". .. بل إن بعض الصالحين كانوا يُعدُون من فضول الكلام سؤال المرء عن أمور الدنيا مثل الطعام والشراب والملابس والدواب والمراكب ..
قال إبراهيم بن سليمان : " كنت جالساً مع سفيان الثوري فجاء رجلٌ ينظرُ إلى ثوبٍ كان يلبسه سفيان ، فقال : يا أبا عبدالله ، أي شئ كان هذا الثوب ؟ فقال سفيان : كانوا يكرهون فضول الكلام " .. يعني كان الصحابة والصالحون لا يتكلمون فيما لايفيد من الكلام ..
قارنوا هذا بحال كثير من الناس ممن لا يتركون شاردة ولا واردة من امور الدنيا إلا ويسألون عنها ، وتطول مجالسهم في الحديث عن المطاعم ، والمشارب ، والمراكب والسيارات، والمباريات والمسابقات ، والملابس وأنواعها وموديلاتها ، ومميزاتها ، وخصائص كل نوع منها ، وما إلى ذلك من كثير كلامٍ لا يفيد ، اللهم إلا من كان يعمل في مثل هذه الأشياء ...
ويدلّك على تمكن هذه الكماليات من قلوب الناس : شدَّةُ التنافس عليها ، والاختلاف من أجلها ، والمباهاةُ بها . فما يُلبس في العام الماضي من الملابس والعمائم والمصار لا يلبس في هذا العام ، وما يناسب هذا العيد لا يكون مناسباً في العيد القادم ؛ لأن تجار الكماليات يُحدثون تغييرات مستمرة في كل عام بقصد جني الأرباح ، والاستحواذ على أموال الناس ، وضعف الناس أمام هذه الموجة العاتية من الاستهلاك جعلهم يستسلمون لها ، ولا نقول بعدم الاستمتاع بالدنيا ، وعدم التنعم بما سخره الله لنا فيها ، وعدم إظهار نعمة الله وأثرها على عبيده ؛ لكن العجيب أن نرى أناساً يكون هذا هو شغلهم الشاغل ، بل ترى منهم من يتنافس على شراء رقم هاتف أو سيارة أو غيرها ، ويبذلون في ذلك باهظ الأثمان ، وهذا كله مما لا فائدة فيه ، وهو من الفضول ، بل ومن فضول الفضول وزيادة الزيادة الذي لا يسلم صاحبه من الوقوع في الإسراف المحرم .
والسلامة من هذه الأمراض التي تأسر العبد ، وتفتك بإرادته تكون بقهر النفس على التنافس في الأمور النافعة ، والبعد عمَّا لا ينفع ولو وقع فيه الناس ، وتفاخروا به .
والشفاء من هذا الداء يكون بتعويد النفس على الجد في الأمور ، وتحصيل المنافع ، ومجالسة أصحاب الهمم العالية ، والاهتمامات الكبيرة ... حكى الفقيه الأندلسي الكبير أبومحمد بن حزم رحمه الله عن نفسه فقال :" كانت فيَّ عيوبٌ ، فلم أزل بالرياضة (يعني ترويض نفسي وقهرهاعلى الطاعة) واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم ، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس ، أعاني مداومته حتى أعان الله عزَّ وجلَّ على أكثر هذه العيوب بتوفيق من الله "
لابد من استمرار الطاعة بعد رمضان ، فرمضان كان ميداناً للتدريب والتأهيل لما بعده ، لا يمكن أن يكون حال المؤمن قبل رمضان مثل حاله بعد رمضان ، إن دليل قبول العمل هو استمرار الطاعة كما بيَّنا . لا يمكن أن يقبل المؤمن قول القائل الذي كان يعبد الله في رمضان فقط :
رمضانُ ولىَّ هاتها يا ساقي ... مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ .... المؤمن ليس كذلك أبداً ..
فرمضانُ إن ولىَّ فدينك باق ... دينُ التُقى ومكارم الأخلاق ..
احرص على تُقى رمضانَ عمرك ... كله تلقى رضا رب الهُدى الخلاَّقِ ....
نعم هذا هو شأن المؤمن ... فمن عوّد نفسه على قراءة ورد معين أو مقدار معين من القرآن في رمضان فهو قادر بإذن الله على أن يحافظ على بعض ورده بعد رمضان ، ولا يهجر القرآن بالكلية إلى أن يأتي رمضان القابل ، ومن حافظ على وردٍ يوميٍ من القرآن نال خيراً كثيراً .
قيل لنافع رحمه الله : ما كان ابن عمر يصنع في منزله ؟ قال:" الوضوء لكل صلاة ، والمصحف فيما بينهما " ... وقيل لأخت الإمام مالك رحمه الله :" ما كان شُغل مالك في بيته ؟ قالت : المصحف والتلاوة " ... وكان وكيع رحمه الله لا ينام حتى يقرأ جزءه من كل ليلة وهو ثلث القرآن ؛ يعنى عشرة أجزاء ، ثم يقوم الليل فيقرأ خمسة أجزاء ، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر ...
ومن عوّد نفسه على ذكر الله في رمضان ، وحافظ على الأذكار في الصباح والمساء فإنه يستطيع الاستمرار على ذلك بعد رمضان ، وذكرُ الله فيه لذةٌ للقلوب ، وقوةٌ للنفوس والأجساد على الطاعات الأخرى ، قال مالك بن دينار رحمه الله :" ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجلَّ " وقال ابن تيمة رحمه الله " الذكر للقلب مثل الماء للسمك ، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء "
ومن حافظ على صلاة التراويح والقيام في رمضان يستطيع أن يحافظ على على قدرٍ من صلاة الليل في أول الليل أو آخره حسب ما يتيسر له ولا يقطع ذلك بالكلية ، ويحافظ على الوتر فلا يتركه أبداً ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم فيُطيل القيام حتى تتفطر قدماه الشريفتان صلوات الله عليه . .. وقال نافع :" كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته صلاة في جماعة صلى الى الصلاة الأخرى ، فإذا فاتته العصر جلس يسبح حتى المغرب ، ولقد فاتته يوماً صلاة العشاء في جماعة فجلس يصلى حتى طلع الفجر " وقال ابن وهب: " رأيت الثوري في المسجد الحرام بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نُودي بصلاة العشاء " ..
نعم ..ومن استطاع ترك الشراب والطعام وامتنع عن اتيان أهله في رمضان وكلها من الأمور المباحة ومن الحلال الذي أحله الله سبحانه وتعالى ، يستطيع أن يمتنع الحرام الذي حرَّمه الله تعالى ،.. إن من روَّض نفسه على الطاعة ارتاضت عليها ، ومن ركن إلى الكسل صارت الفرائض ثقيلة عليه ، وكما أن الناس لهم من قوة عجيبة في أعمال الدنيا جمعاً وتحصيلاً وإدارة ؛فكذلك أعمال الآخرة إذا روضت النفوس عليها اعتادتها .
ومن أحب الله تعالى أحبَّ ما يحبه الله من أنواع العبادات ، ومن رجا رحمة الله ربه وجنته اجتهد فيما يوصله إليها ، ومن خاف عذاب الله وغضبه اجتنب أسبابه من اضاعة الفرائض ، واتيان المعاصي ، وكلما قوي إيمان العبد بالله تعالى والدار الآخرة قويت نفسه على العبادة وضعُفت عن المعاصي ..
نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا ، وأن يُخلف علينا رمضان بخير ، وأن يتقبل منَّا الصيام والقيام ، اللهم كما سلمتنا لرمضان ، فتسلمه منَّا متقبلا .. إنك سميع مجيب .. كما نسأله سبحانه أن يوفقنا لمراضيه ، وان يجنبنا مناهيه ، وأن يجعل مستقبل حالنا خيراً من ماضيه ، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

أحمد محمد خشبه