[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
إن المسرحية تهدف إلى تصوير الانحلال الذي يمكن أن يصيب المجتمع البشري، نتيجة التفسخ في مجتمع رأسمالي متطور، ونتيجة تطور المجتمعات البرجوازية التي تسعى إلى سحق زعزعة القيم الإنسانية وسحقها تحت سيطرة المادة.. في ظل عقل علمي، يستخدم قدراته في إيجاد أساليب، يسيطر بواسطتها على الإنسانية، ويقضي على آمالها في الحياة الحرة الكريمة..

وليد بن أحمد عون الله إخلاصي، ولد في إسكندرونة ٢٧ أيار/مايو عام١٩٣٥. درس الابتدائية في مدرسة "الحمدانية" والثانوية في "التجهيز الأولي - المأمون" في حلب، وأكمل دراسته الجامعية في كلية الزراعة بمدينة الإسكندرية "١٩٥٤ - ١٩٥٨"، وحصل على دبلوم الدراسات العليا القُطنية عام ١٩٦٠، وعمل موظفا في المؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان في حلب. ترأس فرع نقابة المهندسين الزراعيين في حلب، وفرع اتحاد الكتاب العرب. ساهم في تأسيس وتطوير مسرح الشعب، والنادي السينمائي بحلب.
حصل على جائزة اتحاد الكتاب العرب التقديرية عام ١٩٩٠، وعلى جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية عام ٢٠٠٦ مناصفة مع جمال الغيطاني، وعلى وسام الاستحقاق السوري عام ٢٠٠٨ ترجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الهولندية، الأرمنية، الروسية، اليوغسلافية، البولونية.
كتب وليد إخلاصي: القصة القصيرة، والرواية، والمسرحية، والمقالة، وله ما يقرب من أربعين عملا في هذه الأجناس الأدبية… وأكثر إنتاجه المسرحي نصوص قصيرة، ومعظم هذا الإنتاج لم يُعرَض على المسرح. وسنرى بعض معالم فنه المسرحي، وكيفية معالجاته للأفكار والمواضيع والحوادث التي تناولها، ووظف لها شخصيات رسمها، وأسلوبا في الحوار والأداء اختاره، وذلك في مقاربة لبعض نصوصه المسرحية، ومنها:
مسرحية: اللذة ٢١
اللذة ٢١، مسرحية في فصل واحد، تدور حوادثها في نادٍ، افتتحه أحد أصحاب رؤوس الأموال، لعِلْيَة القوم من بني طبقته، وسعى لأن يفسح هذا النادي أمام أعضائه، فرص متعة جديدة. وتنتسب للنادي فتاة أجنبية، ابنة مهندس، هي الأرواح كما يسميها مدير النادي. ويسعى الجميع للاحتفاء بها، وتقديم ما يُمتعُها.. ونحس من الجو العام، ومن سياق الحوار، أننا بين أناس لم يعد لهم أي هم في العالم، سوى البحث عن أساليب جديدة للمتعة، وقد فقدوا كل طموح إنساني. ونحس أيضا بجوِّ انحلال القيم الإنسانية جميعا، وبوصول العلاقات وأمور التواصل والتعامل، إلى درجة تفسخ وصفوه بأنه "حضاري"، أودى بكل القيم، وبين الموجودين في النادي طبيب، يحاول أن يصل إلى نتائج اختراع له.
ويمر جزء كبير من المسرحية، نشاهد فيه الشخصيات تبحث عن أسلوب متعة جديد، سواء أكان ذلك بالإثارة الجنسية، أو بالتسلية على معاناة زنجي أسود، يُسام سوء العذاب، ضمن قفص. وفي غمرة هذا الجوِّ المائع، يحضر شخص من قرية قريبة من المكان، ويخبر بأن جائحة عظيمة توقِع ضحايا، وتصيب العالم بالشرور، وتقضي على كل أثر للحياة.. إن الهواء يتجمد ويتقطَّن، فيموت الإنسان. ويفرح الطبيب، لأن اختراعه أصاب نجاحا كبيرا، ولكنه يدرك، من الحاح الشخصيات عليه، ومن حوارهم معه، أنه هو نفسه لا يستطيع النجاة من ويل هذا المختَرَع..
وتستمر الأمور في انتظار بطيء للموت.. وخلال هذا الانتظار، تحاول الشخصيات تقطيع الوقت.. بعضهم يدعو الآخر لممارسة اللذة الجنسية، و.. والبعض يُصاب بالهلَع، لدرجة يفقد معها أية قدرة على التصرف. أمَّا ابنة المهندس فلا تجد القناعة الكافية لديها، في أن تبقى هكذا بانتظار الموت.. إن شيئا يتحرك في داخلها، وكل ما يتحرك في داخلها يمت إلى المتع الجسدية بصلة.. ثدياها يتفتحان كنرجس الجبال. ودمها يتدفق في جداولها.. وهي تبحث عن فرص فيها متع الحياة.. ولا تجد أمامها إلا تصرفا واحدا ممكنا، إنها تأخذ معها الزنجي الذي كان مدير النادي قد قدمه لها هدية، في أثناء تعذيبه له.. إنها تأخذه وتهرب إلى الغابات، طمعا بحياة جديدة في أحضان الطبيعة، وبين يدي زنجي أسود، يحمل حرارة إفريقيا.
إن المسرحية تهدف إلى تصوير الانحلال الذي يمكن أن يصيب المجتمع البشري، نتيجة التفسخ في مجتمع رأسمالي متطور، ونتيجة تطور المجتمعات البرجوازية التي تسعى إلى سحق زعزعة القيم الإنسانية وسحقها تحت سيطرة المادة.. في ظل عقل علمي، يستخدم قدراته في إيجاد أساليب، يسيطر بواسطتها على الإنسانية، ويقضي على آمالها في الحياة الحرة الكريمة: "مخترعات علمية تسعى لإيجاد سموم مهلكة، قنبلة 1". وقد نجح الكاتب في نقل صورة المخاوف هذه، بصورة غير مباشرة، ولكن بأسلوب رمزي غامض، يقترب من اللغز أكثر مما يشف عن الرمز، في بعض الأحيان.. وتبدو بعض الأفكار والأحداث محمولة على الشخصيات، وليست نابعة من تكوينها.. أما الحوار فيشوبه سرد، يفقده كثافة الجملة المنطوقة وتأثيرها.
مسرحية: قطعة وطن على شاطئ قديم.. مسرحية في فصل واحد وستة مشاهد.
على من يود مرافقة وليد إخلاصي في جولة على شاطئه القديم، أن يوطن النفس على مضغ الحصى، ورؤية الصخور جنة خضراء، وعليه ألا يرتدي ملابس السباحة أو يحملها، فالشاطئ غير مأمون، كما أن من واجبه، إذا كان على صلة طيبة بمعارفه، أن يودعهم وداعا ربما لا تكون بعده لقاءات ولا حتى رجعة، لأن سفره سوف يطول، وربما أبحر من فوق تلك الصخرة التي تصبح وطنا له، ولثلاثة من شخوص المؤلف، ربما أبحر إلى عالم مجهول، لأنه سيغدو في ملكوت البحر.. " واحدا من سكان اللامكان، في مكان لا يعرف الأبعاد والحدود"، وسيلقي خطبة مع عابر القارات ـ إحدى شخصيات المؤلف ـ على الملوحة واللانهائية، مخاطبا حورية تخرج من البحر، بقوله: أيها الذيل الحر، أيتها الطمأنينة في بحر صاخب، يا صخب الطمأنينة والحرية.."؟! وسوف يجد في فمه طعم كلمات ونداءات ومعانٍ لم يألفها.. ولا يستغرب أن يقول لها: "حورية أيها الصخب الهادئ، حورية، أيتها الهدوء الصاخب، حورية، امنحيني القدرة على الصمود، يا جبار.. يا ثلج النار، يا شاعل أمواج البحار..". وكل ذلك المصير الذي ينتظره متوقع. إنه سوف يجد شخوصا مثل سيد المدينة، وسيد المراكب، وسيدة الرجال والنساء.. ولكل صنف من المخلوقات والأشياء سيد.. كلهم يتأمرون عليه، كما تآمر على عابر القارات الذي وقف مع الحق والإنسان، وكلهم يعرضون عليه الرشوة أو الإغراءات الجسدية، أو يهددونه، إذا لم تفلح معه الرشوة، كي ينسحب من الانتخابات حتى تنجح القائمة بالتزكية.. ولكنه يصر في البداية ويصمد إلى أن يأتيه تهديد بالاستيلاء على الصخرة التي يقف عليها، حيث يخاطب أحياء البحر على شاطئه القديم، عندها يجثو عند قدمي سيد المدينة، ويقبل الأرض من تحته، ليبقيَ له صخرته تلك. ويتنازل من أجل تلك الصخرة عن قضيته وعن العدالة والناس، وعن القيم التي يريد أن يدافع عنها، وعن كل شيء، ما عدا صخرة.. ولا يلبث سيد المدينة أن يوافق له على هذا الطلب، بعد أن وفر عليهم مصاريف عديدة، ووقاهم شر وجوده في معمعة الانتخابات.. وعندها يسوِّر عابر القارات صخرته، ويعلن عن السفر عبر البحر الواسع، وينضم إليه مُقعد مسكين كان يروج الدعايات الانتخابية. ومن الطبيعي أن تكون معه حورية التي اصطفاها من بين مخلوقات البحر، واصطفته من بين مخلوقات البر. ويريد عابر القارات، بعد أن استعد للسفر، أن ينقذ، أو أن يصطحب معه من يريد من خلق الله، الذين كان يريد دخول الانتخابات من أجل حريتهم.. حتى ينعموا معه بالحرية. ويبدأ حملة عرض بطاقات مجانية على الناس، ليسافروا معه من فوق صخرته، التي تحولت إلى ميناء إبحار عريق، بقدرة الخيال الجامح.. ولكن أحدا لا ينضم إليه، ويبدأ خطبة من على الصخرة، موجها كلامه للناس، كل الناس: "وقود سفينتنا حلم لا ينقطع، مؤونتنا إيمان لا يتزعزع، الريح تدفعنا. ها هو أوان التحرك عبر حرية البحر. اسمعوا معي غناء الحوريات، يباركن الصخرة التي باتت لكم. هيه.. هيه من كان منكم في شغل عن نفسه، فليسرع.. ومن كان في غفوة فليستيقظ.. لقد بات لنا وطن صغير، ولكنه يطل على البحر الفسيح. هيه.. هيه يا أهل الشاطئ.. يا أهل المدينة..".. "ثم يغيب صوته مع ألحان البحر ويسقط الظلام". ويعيد لنا المؤلف ضوء المسرح، ليرينا الناس بعد مرحلة ما، لا ندري كم من الوقت مضى حتى بدأت.. ليرينا الناس، وهم يقبلون على أخذ البطاقات المجانية لتلك الرحلة البحرية، من فوق صخرة غدت وطنا جديدا. أمَّا المدينة، حيث الناس والقضايا والنضال، حيث الواقع بكل أبعاده وأثقاله.. وحيث الاستغلال والتلاعب، واستعمال كل الأساليب، المقبولة وغير المقبولة، للوصول إلى الغايات.. فلم تعد ميدانا لنضالهم ولا هدفا لتحركهم. لقد هجر عابر القارات أرض المشكلة، وقرر السفر عبر البحر اللانهائي، بحثا عن الحرية والصاحبة، وعن كل شيء"؟! .. واتخذ صخرة على شاطئ قديم وطنا، بعد أن فسد الوطن بنظره، من فعل الفاسدين المُفسدين.
لست بحاجة، بعد هذا، إلى استعراض أوجه السلبية الكامنة في مواقف الشخوص الصالحة، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن المؤلف، أظهر مقومات التحرك في الجانب المعادي لعابر القارات: المال، والجنس، والقوة.. وما يخطر لك على بال.. ولكنه لم يظهر من مقومات التحرك والنضال في الجانب الذي أيده هو، جانب عابر القارات، إلا كلمات شاعرية غامضة، وتهويمات في دنيا المجهول، وأبحر في غموض الهدف، بمثالية بلا سلاح.. وكانت النتيجة المُستَخلَصة من هذا: الهروب من أرض الصراع، والارتماء عند أقدام الخصم، في سجدة استجداء، من أجل صخرة تشرف على الماء المالح، لتكون منطلقا نحو البحر.
إن وليد إخلاصي، في هذه المسرحية، يهيم خلف الصورة الطريفة، والتعابير غير المطروق، وتستهويه لعبة الكلمات، إلى درجة يُشغل معها عما عداها في بعض المواقف.. ولكن حواره في هذه المسرحية يمتاز عن حواره في بعض مسرحياته الأخرى، برشاقته وإيجازه. وتعتمد المسرحية أسلوب المشاهد المتعددة، والمنظر الجذاب.. ولا يقيم المؤلف وزنا كبيرا لصدام الشخوص وتصارعها، ولقاءاتها الحيوية من خلال وحدة الأضداد.. أي تنافسها وصراعها المستميت من أجل أن يبلغ كلٌّ منها هدفه الذي يستميت من أجله، ويحول دون وصول منافسه أو غريمه إليه. كما أن الحديث عن قصة، أو حادثة تتنامى لتصبح قضية.. فأمر مفقود هنا، إذ تبدأ المسرحية من نقطة النهاية، لتأخذ بالانحدار البطيء الذي لا يشعرك إلا بأنه الاستسلام. ويعود رفيق وليد إخلاصي في هذه الرحلة، ببعض العبارات غير المعروفة، وبصور من فساد المدن والناس، مألوفة معروفة.. وزاده في طريق عودته إلى ذاته، ومشكلات حياته: تهويمات في أفق الخيال، وملء رئته من هواء البحر، مع تكثف بعض رذاذ الماء المالح على وجهه، وفي فمه.
مسرحية: طبول الإعدام العشرة.
طبول الإعدام العشرة مسرحية في فصل واحد، تدور حوادثها في كهف، ينفذ إليه النور من كوة، ويبدو الكهف أخضر مُزرَقا، سُمِّر في أحد جدرانه شخصان، رجل وامرأة.. وعلى بابه وقف سجان، ومن جدرانه تُنز المياه بصورة متصلة. الرجل والمرأة محكومان بالإعدام.. لماذا؟ إن التهمة المعلقة على جدار الكهف التي قرأها السجان تقول: "تحدي روح العصر ـ طعن السلطة ـ تعلٌق شديد بمفاهيم بادت. العقوبة: الموت قبل الإعدام وبعده". هذا هو نص التهمة، ونص العقوبة، وقد عُزِلا، الرجل والمرأة، عن العالم، وعاشا بانتظار الموت، مصلوبين إلى جدار الكهف. وكانت هناك بقية من أمل.. فقد يدخل منقذ ما، الملك أو غيرهُ، من كوة الكهف. ولكن الطائر نقّار العيون، هو الذي يَدخُل، ويحاول أن يَنقر عيونهما، لولا تدخُّل الحارس، ونَشِّه للطائر بسيفه من الكهف.
لقد كانت الكوة، مَبعَث النور والأمل، ولكن العنكبوت، ينسجُ خيوطهُ عليها، وتُقفَل نافذة الأمل إلى الأبد، بالنسبة لهما. ويأتي الملك وحاشيتُه لينفذوا حكم الإعدام، ويدخلُ الملكُ الكهف.. ومعه (عشرةٌ من الكهنة)، يضعون الشَّعرَ المستعار.. ويفاجأون جميعا بموت اللذين ينوون إعدامَهما.. فيثور الملك، ويَرفُس الجثتين، لأن عدالتَه لم تستطع أن تنفذ فيهما الحكم بالموت شنقا. وتنتهي المسرحية بأصوات تلعن الآبقَيْن المتمردَين. ما الجُرم الذي قام به كل من الرجل والمرأة؟ المرأة نبيلة؟ ما معنى هذه الكلمة اليوم.. تعنى أنها ابنة أسرة لها أملاك كبيرة، ولها سلطة وجاه عريض، تتحكم بالناس وتُحكم.. إنها من أسرة الملك. الكاتب من سوريا، ولم يكن في سوريا ملوك وأسرة ملكية، فلنقل إذن إنها من أسرة حاكمة.. من أسرة برجوازية.. من أسرة تدعى النّبالة.. أحبت رجلا ترفعُه عقليته، ويستطيع أن يعيش بجهده، ويبلغ مركزَه الاجتماعي بكفاءته وعَرَقه.. بقلمه.. بإمكاناته الشخصية.. فكانت تلك اللعنة من اللعنات التي سقطت عليها من أسرتها الحاكمة.. لأنها لوثت سمعه الأسرة. وحكم عليها وعلى عشيقها، بالموت شنقا. وقرر الملك/الجاكم، غسلا للعار، أن يحضر هو بنفسه تنفيذ الحكم، بعد أن أجبر رجال العدل، أو أوحى إليهم، وهم أولئك الذين يَضعون على رؤوسهم الشَّعْرَ المستعار المتدلي، بأن يُصدروا حكما بالإعدام على المجرمَيْن!؟
يتسم حوار المسرحية بالغموض، والجمل فيه متضاربة أحيانا، وبعض الكلمات في غير مكانها، ولا يمكن أن تؤخذ على أنها تَخدم صورة رمزية أو صورة موحية برمز، أو ترسمهما. ومن أمثلة ذلك: "ضجة من نور".. قول المرأة: أراك بوضوح تَسرقُ نظرةً من أذني، سمعتُكَ يومئذ تقذف بعينيك سمعي ـ أنشودة محرمة ـ انتصرنا.. فلم يَرنا حرس العواطف البائدة. وقولُها أيضا: تسرني كيفما شئت أنت.. كيفما أريد أنا.. فالمؤلف شغوف بتصيّد الغريب أو اصطناعه. أمَّا الحركة الدرامية في المسرحية فهي باهتة، والشخصيات لا تتصف بأبعاد إنسانية متناسقة، ولا نقول متكاملة.. ولا يوجد في المسرحية عنصر تشويق وجاذبية. وقد قصد المؤلف إلى إبراز الدور الذي يلعبه الشخص الطليعي في مجتمع متخلف، حيث يتحمل، بخرقه للعادات والتقاليد، وبخروجه على المألوف.. المسؤولية عن مشاكل جسيمة، وقد يدفع حياته ثمنا لمثل هذا الخرق، ولكن حياته المهدورة تكون شمعة على طريق الأجيال المقبلة.. ويستطيع بضرباته تلك أن يفتح الأبواب الموصدة ويكسر السدود.. هذا الهدف الذي نَخاله للمؤلف في هذا النص، لم يُخدم فنيا بما يليق بأهميته ومشروعيته. والفكرة غير موضحة في النص بما فيه الكفاية، حتى أنني أشك بإمكانية وصول أية فكرة واضحة، من هذا النص، إلى المتفرج في المسرح.
مسرحية: إطلاق النار من الخلف:
مما نشر لوليد إخلاصي، في مجلة الموقف الأدبي التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب بدمشق، مسرحية بعنوان "إطلاق النار من الخلف". وهي تقع في قسمين، وتدور حوادثها في بيت قديم، تعيش فيه أسرة مكونة من أب وأولاده الثلاثة، وخادمة، أخذت مكان الأم ومنزلتها. تلجأ إلى البيت، ذي الشرف القديم، فتاةٌ طيبة، تجبرها الظروف على طلب الحماية، فقد تعرضت للاغتصاب من رئيس عصابة، وأراد أن يبلغ منها كل ما يريد، من دون أن تبدي احتجاجا، ولكن احتجاجها عرضها للتهدد بالقتل، من قِبَلِ رجاله الذين لهم القدرة على بلوغ أهدافهم بكل الوسائل، ويملكون، بسبب نفوذه، وسائل الوصول إلى ما يريدون، والظهور، حتى من خلال تنكرهم، بدور رجال الأمن. وفي البيت القديم، يجمع الأب المُقعَد أبناءه الثلاثة، وهم معاوية والأمين والمهدي، ويبلغهم مهمة الدفاع عن شرف الأسرة، وشرف البيت الذي ينتمون إليه، وذلك بحمايتهم لفتاة لجأت إليهم. وتبدأ عمليات رجال زعيم العصابة تهدد البيت، وتثير الفزع، وترعب الفتاة التي يثير رعبُها حميَّة الشيخ وحمية أبنائه. وفي الليل تبدأ عمليات الحراسة التي ينظمها الشيخ، وتنام الفتاة في مكان قريب من موقع حراسة الشباب. وفي أثناء عملية الحراسة، يدور بين كل شاب من الشباب وبين الفتاة حديث، نتعرف من خلاله على ميوله وتطلعاته وشخصيته، ونتعرف أيضا على جوانب المشكلة كلها، من وجهة نظر الفتاة. ونجد الشباب يمثلون نماذج بشرية ثلاثة: معاوية مستهتر، أميل إلى الانحلال، وهو في أثناء نوبة حراسته يغازل الفتاة، ويغريها بالهرب معه من سرادب في البيت، إذا ما ساءت الأمور، ويُظهر لها علاقاته برجال السلطة، ويبين لها أيضا أنه لجأ إلى طلب الحماية من رجال الأمن الذين يحرسون الدار من الخارج، من دون معرفة الأب. وهذا يجعل الفتاة تزداد رعبا، لأنها تدرك أن رجال العصابة قد يتسللون من خلال رجال الأمن. وعندما تبدأ نوبة الأمين نشعر بوجود رجل متماسك، عسكري النزعة، يغريه الشرف، وفيه بساطة ووضوح. أمْا المهدي فهو المتدين الذي يعاني الكبت، ولا يستطيع أن يفصح عن ميوله نحو فتاة، ويُظهِر إيمانه واتكاله على الله واستسلامه للقدر.. ويكون للفتاة موقف من آرائه، إلا أنها تسايره باستمرار. وفي أثناء نوبة الأخ المتدين، يتدخل معاوية متهما أخاه بمغازلة الصبية، الأمر الذي يثير الأخ المتدين ويدفعه إلى رفع سلاحه بوجه أخيه.. ثم يتدخل الأخ الثالث ليفصل بين الاثنين. ويسبب هذا الأمر ألما وحرجا للفتاة، لأنها تعتقد أنها سببت خلافا، وصل إلى حد رفع السلاح بين الإخوة، وتقرر أن تضع حدا لهذا، ولو كان ذلك على حساب حياتها، فهي لا تريد، بأي حال، أن تكون سببا في تدمير أسرة، وجر العار عليها، بعد أن حافظت تلك الأسرة على شرفها، وفتحت لها صدرها وبيتها لتحميها. وتركض الفتاة متجهة إلى نافذة في البيت.. وربما كانت تود أن تلقي بنفسها منها.. ولكنها ما أن تصل إلى النافذة، حتى تصاب بطلق ناري من الخارج.. وتقع ميته. ويأتي الأب ويكيل لعناته لأولاده، ويندب الحظ والمصير الذي آل إليه، نتيجة وجود شباب لم يقدروا المسؤولية، ولم يحفظوا شرف أسرتهم، ولم يقدروا خطر ما يجره التنافر الداخلي من ضعف ودمار، سواء أكان على مستوى الأسرة، أم على مستوى الوطن. وفي الختام يقول الأب كلمات حارة، يختم بها مسرحية "إطلاق النار من الخلف".. يقول: "كانت الرصاصة من الخلف.. أجدتم التصويب. كانت هنا.. الطهر كان هنا.. قتلوا الصبية من أمام ومن الخلف. العدل.. الصدق.. الحق.. الحب. القَتَلة.. إنني أراهم في كل مكان. يا لعجزك أيها العجوز.. ماذا بقي؟! هل أنت حقا من أهل هذه الدار؟! يا لضعفك. يا لضعفك".
المسرحية بصورة عامة مقبولة، ولو أن هدف المؤلف يحتاج إلى توضيح وبلورة، لكي يصل إلى أكثر جماهير الناس كثافة وتنوعا، من خلال العرض على المسرح. البنية الفنية لا بأس بها، والشخوص تحافظ على حيوية الأدوار.. وتحمل عبء نصٍ لتؤديه، خلال مدة العرض، مع المحافظة على اهتمام المتتبع.