دخلت الحرب العدوانية الإبادية على غزة أسبوعها الرابع. كافة صنوف أسلحة ترسانات الموت الغربية أدلت وتدلي بدلوها في صناعة هذه المحرقة التي يديرها الصهاينة هناك، والتي بات بنك استهدافاتها يتسع لكافة تفاصيل الحياة الغزاوية، بشرًا وشجرًا وحجرًا. لم يعد من داعٍ لملاحقة إحصائيات كم سقط ويسقط وسيسقط من شهداء غزة من الأطفال والنساء والشيوخ، وكم من البيوت هدمت على رؤوس عائلات بكاملها، لأن القوائم هنا طويلة ومتوالية الزيادة على مدار اللحظة بحيث بات يصعب اللهاث خلف آخر أرقامها. فعل البرابرة الغزاة كل ما بوسعهم. تفننوا على راحتهم في كيفية إفراغ تليد أحقادهم المعتَّقة، وتحويل هذا المعتقل الكبير العنيد المشاكس إلى كومة من دمار ورماد، وهذه البقعة المقاومة المستفرد بها إلى بحيرة من الدم المراق المستباح. وإذ لا ما يدعو للهاث خلف ما تترى على مدار الساعة، بل دقائقها، من قوائم آلاف الضحايا والمستهدف بالتدمير الممنهج، فلا ما يدعو أيضًا لمزيد من الشرح أو التوثيق، ذلك لأن المشهد المتوحش باتت فظاعاته تطوف، بالصوت والصورة، أربع جهات الكون دالفةً، عبر وسائل الإعلام، إلى كافة بيوت المعمورة من دون استئذان، ورغم تعاظم مظاهر التعاطف الشعبي غير المسبوقة في العالم مع ضحاياه، إلا أنه ومع الوقت ربما بات هذا المشهد لكثرة من ساكنيه حدثًا معتادًا، وحتى مملًّا، وأقله مزعجًا، أو غير المرحب بمتابعته، أو من المريح أن تتم الإشاحة عنه.
...لكن للمشهد الغزِّي وجهًا آخر، شهده ويشهده وسيشهده كل هذا العالم، راضيًا كان أم مكرهًا، وبات من الآن، راغبًا أم مجبرًا، الشاهد عليه، وهو أن هذه البقعة الصغيرة جدًّا، وحتى المجهرية بالنسبة لترامي هذا الوطن العربي الكبير الغاط في غيبوبته غير القابلة للإعراب، تسطِّر الآن بدمها المراق أرقى إعجازاتها النضالية، ويحفر صمودها الأسطوري في جدران القهر أجل وأسمى معاني التضحيات التي عرفتها البشرية، وتذهل مفاجآتها وجديد أشكال ابتكارات مقاومتها البطولية عدوها قبل سواه، مسجلةً في مثل راهن المنعطف المصيري بالنسبة لأمة بكاملها ونيابة عنها صفحة جديدة في معادلات قائم صراعها التناحري المديدمع جبهة أعدائها، والذي لا من عنوان له في قاموس العرب الفلسطينيين، والفلسطينيين العرب، بالأمس واليوم وغدًا، إلا: إما فلسطين أو فلسطين... والأهم هو أن هذ المشهد بوجهيه هو كافٍ لجلاء بعض ما عششت من أوهام تسووية، وإسقاط ما تهافتت من رهانات متواطئة على أريحية أعداء الأمة، وفضح ما كان المستور من ضروب الانحطاط الرسمي العربي... ومع دخان المحارق وإعجازات الدم المقاوم في غزة، تكشَّف ما لا يمكن تجاهله من الحقائق، ومنها:
أولًا: إن كل ما جلبته الغزوة الاستعمارية الصهيونية معها وحشدته من بشر في كيانها الغاصب في فلسطين، بطبيعته الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية، هم مستعمرون، وكلهم جيش، وبالتالي كلهم صهاينة، ومن شذ عن هذه القاعدة فهو مجهري وهامشي وبلا لون أو وزن أو تأثير، وموضوعيًّا، ديكوري يوظَّف في محاولات تمويه قبح مجمَّع لقتلة في ثكنة للموت... بدا هذا جليًّا لمن كان يجهله في العالم في الأيام الأولى من أسابيع غزة الدموية، وعبَّر عنه واحد منهم هو يؤاف ليمور الكاتب في صحيفة "إسرائيل اليوم"، الذي كتب يقول:"إسرائيل عادت هذا الأسبوع إلى السبعينيات: كل الشعب جيش. آباء يستدعون للاحتياط، أطفال يجهدون لإعداد رزم للجنود في الجبهة، جنرالات عُدوا أبطال الساعة، الجمهور معهم بأغلبيته الساحقة، إن هذه ليست معركة على غزة وإنما معركة على إسرائيل، ويتصرف على هذا الأساس: دعم الجيش بلغ السماء"... أجمعت كافة استطلاعات الرأي الأخيرة لديهم بأن أكثر من 80% منهم هم مع استمرارية الحرب على غزة، وإذا ما احتسبنا أن العشرين في المئة المتبقية إنما هي نسبة الفلسطينيين المتبقين في هذا الكيان الغاصب بعد النكبة، فهذا يعني أنهم جميعًا مع هذه المحرقة التي يديرونها في غزة، وإن المراهنة على قليل الأصوات التي بدأت ترتفع منتقدةً أداء إدارة الحرب هي من السخف بمكان، لأن هذه الأصوات ما ارتفعت، ولسوف تزداد وتزداد ارتفاعا"، إلا نتيجة لفشل كافة استهدافاتهم المعلنة، فلا الأنفاق دُمِّرت، ولا الصواريخ توقفت، ولا غزة استسلمت، وإنما تتزايد أعداد التوابيت العائدة بجثث جنودهم.
ثانيًا: ورغم الإعلان عن التوصل إلى هدنة الـ72 ساعة الإنسانية مؤخرًا، والتي بالنظر إلى مصير ما سبقها، وبالنسبة لطرفيها، ليست أكثر من استراحة محارب، فإن كافة المبادرات والوساطات التي طرحت أو ستطرح لإيقاف الحرب تحركها أساسًا حاجة هذا العدو لإنجاز ما فشلت في إنجازه آلة حربه الهائجة، ويظل الهدف الأساس منها هو الالتفاف على منجزات الدم الفلسطيني الغزِّي، ذلك لأنها لها مايسترو واحد هو الولايات المتحدة وغربها، أو العدو الأول للأمة العربية، ويكفي أن البنتاغون يفتح الآن مستودعات احتياطي أسلحته في الكيان لتعويض المعتدين ما استنفدوه من ذخائر خلال محرقتهم في غزة، وإن ستة آلاف من حملة الجنسيات الأوروبية يقاتلون الآن في جيشهم على جبهتها...
ثالثًا: إنها ليست سوى واحدة من حروبهم الدورية على غزة، وليست سوى حلقة من حلقات استهداف تصفية القضية الفلسطينية إياها، هذه التي بدأت بضرب مرتكزات نهوض الأمة وروافع قيامتها، بدأ بإخراج مصر من الصراع العربي ـ الصهيوني، ثم تدمير العراق، وتمزيق ليبيا، وجارٍ الحرب التآمرية المستمرة على سوريا، إلى جانب نفث سموم الطائفية البغيضة في جسد هذه الأمة بغية إعادة تجزئة المجزأ منها.... لكنما، هذه هي غزة، التي لن تستسلم، والتي تعيد براهن ملحمتها البطولية الجارية مديد هذا الصراع التناحري مع عدوها إلى سابق أساسياته، كل الشعب مع المقاومة، والمقاومون هم كل الشعب، ومعهما كل الأمة، هذه التي لم تعد أنظمتها تمثلها...

عبداللطيف مهنا كاتب فلسطيني