ذكرى مولد الحبيب ذكرى غالية على قلب كل مسلم، لذلك لا ينبغي للمسلم أن تمر عليه هذه الذكرى كغيرها من الذكريات العابرة، وإنما عليه أن يجعلها محطة يستقي منها الدروس والعبر، ويربطها بواقعه الذي يعيشه، فإذا كان الإنسان العاقل ينظر إلى الماضي والحاضر لاستخلاص العبر، ويتأمل الغدَ ليصنع مستقبلا يحقّق العزّة والسعادة له في الدنيا والآخرة، فكيف إذا كان ذلك الماضي هو سيرة النبي العظيم الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وكانت سيرته قدوة للناس أجمعين قال تعالى :" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة "
ومما ينبغي على المسلم أن يستشعره وهو يتفيؤ ظلال هذه الذكرى الخالدة نعمة الله علينا نحن معاشر المسلمين ببعثته -عليه السلام-، فما أعظمها من نعمة وما أجلها من منة فبمولده أشرقت الأرض بنور ربها، وببعثته انقشع الظلم وانتشر العدل، وانمحت ظلمات غشيت العقول وأعمت البصائر والأبصار، وصدق الله إذ قال :" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "
لقد أرسل الله نبيه العظيم بالهدى ودينِ الحقِّ، بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فأنقَذَ به مِن الجهالة، وهَدى به من الضلالة، وبَصَّر به من الْعَمَى، وعَصَم به من الرَّدَى، وأعزَّ به من الذِّلَّة، وأغْنَى به من القِلَّة، وأخْرَج به من الظلمات إلى النور، ودخَلَ الناس في دين الله أفواجًا، ورَجَع الكفر خاسئًا حَسيرًا أدراجًا، وتحقَّقت مِنَّة الله على المؤمنين؛
﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾
ومما يستشعره المسلم في ذكرى مولده -عليه السلام- حجم التضحيات التي قدمها النبي العظيم من أجل تبليغ رسالة رب العالمين إلى الناس أجمعين، وما تعرض له في سبيل دعوته من الأذى النفسي والجسدي من قبل قومه، لقد تعرض -عليه السلام- للسب والشتم، فاختارت له قريش أقبح الألقاب وأقذر الشتائم لترميه بها، فقالوا عنه كذاب، ووصموه بالجنون، وأتهموه بالسحر والشعوذة، وهو أكرم خلق الله وأحبهم إلى ربه تعالى، وأمتدت إليه أيديهم الأثيمة فوضعوا سلا الجزور على ظهره الشريف وهو ساجد بين يدي ربه، ورموه بالحجارة حتى أدمت قدماه الشريفتين، وحاولت قريش قتله وبذلت الأموال الطائلة في سبيل تحقيق ذلك، واضطروه للهجرة والخروج من أحب البقاع إلى قلبه، وآذوا أتباعه، وقتلوهم وأخرجوهم من ديارهم، فما زاده ذلك إلا يقينا بدعوته وصبرا على محنته، فجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين صلوات ربي وسلامه عليه.
إن تذكر المسلم لتلك التضحيات الجسيمة التي قدمها النبي العظيم يدفعه إلى حبه -عليه السلام- وتقدير تلك التضحيات التي قدمها من أجل أمته، ويدفعه للحرص على التمسك بشريعته، ويشعره بعظم مسؤوليته تجاه دينه، مدركا أن الدعوة إلى الله تتطلب منه البذل والجهاد والصبر والتضحية، ويدفعه إلى لوم نفسه على أي تقصير أو تخاذل تجاه دينه،وفي ذكرى مولده عليه السلام يتذكر المسلم سيرته العطرة وشمائله الزكية، فقد كان عليه السلام المنارة التي يهتدي بها السائرون في ظلمات الجهل، لقد استطاع عليه السلام بالمنهج الرباني الذي أوحي إليه أن يبني أمة من لا شيء، وأن يقيم حضارة بنت دعائمها على الأخلاق فهو القائل عليه السلام :" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ، ويكفي النبي - صلى الله عليه وسلم- شرفا ومكانة أن الله رب العزة والجلال هو الذي أمتدح خلقه فقال :" وإنك لعلى خلق عظيم "، فكان عليه السلام مثالا للرحمة والتواضع ومثالا للصدق والأمانة ومثالا للكرم والوفاء.
واستحضار المسلم لسيرة النبي الكريم وخلقه القويم يجعله يدرك أن السبب في الانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه الأمة هو بعدها عن النهج الذي رسمه لها نبيها العظيم، وأنه منقذ لها من هذا الفساد إلا بتجسيد أقوال النبي وأفعاله واقعا حيا ملموسا في حياتها، ومما يستحضره المسلم في ذكرى مولده -عليه السلام- ذلك العهد الزاهر الذي عاشته الأمة الإسلامية في ظل قيادته -عليه السلام- ذلك العهد الذي كانت فيه الأمة الإسلامية تتصدر الأمم، كانت أمة قائدة يحسب لها الأعداء ألف حساب، وعندما يقارن حالها في ذلك العهد بحالها اليوم، كيف أصبحت ذليلة مهانة، تتكالب عليها الأمم من كل حدب وصوب، تنهش لحمها المتآكل، وتضغط على جراحها، يدعوه ذلك إلى البحث عن سبب ضعضعتها واستكانتها وليفتش عن عوامل نهضتها وسبل استعادة مجدها التليد، واستحضار المسلمون لهذه المعاني لا يجعل احتفالهم بالمولد النبوي مجرد عاطفة لا تكاد تشتعل حتى تنطفئ، وإنما تكون نقطة ينطلقون منها لتجديد عهدهم لهذا الدين ولم شملهم، واستعادة عزتهم ومجدهم .