[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
حين وصلت مدينة كُلْكَتا Kolkata، وبدأت ولوج شوارعها، في الزحام الكثيف، أشار مرافقي إلى منطقة، قال إن فيها بيت الشاعر رابيندرانات طاغور.. ذاك اسم لـه وقعٌ خاص وقوي في نفسي، وقد قرأت معظم أعماله المُترجَمة، لا سيما الشعر والمسرحيات، وسبق لي أن زرت بيته زيارة سريعة لا أتذكر من تفاصيلها شيئا يذكر.. كان ذلك في زيارتي الأولى لهذه المدينة قبل عقدين من الزمن تقريبا. طلبت من مرافقي أن أزور البيت، قبل أن نصل إلى الفندق، وتمت الزيارة..

.. وأنا في شهر رمضان المبارك، هذا العام، وجدتني في بعض لياليه، أستعيد أياما رمضانية، كانت لي في أثناء زيارة للهند، خلال شهر رمضان 1425 هـ ـ تشرين الثاني/ نوفمبر 2004م. ووجدتني أجول في حقول الذاكرة، أستعيد بعض ما كان لي هناك، حيث كانت لي لقاءات مع الكتاب في أكاديمية ساهيتيا التي رتبت زيارتي ولقاءاتي، ومع أساتذة وطلاب في الجامعة المِلِّية الإسلامية في نيودلهي، ومع كتاب وأدباء في مدينة " كُلْكَتا Kolkata"، وزيارات لبعض المدن والمواقع الأثرية.. وأول ما فرض نفسه عليَّ، بحيوية، ذلك التجوال في مدينة أغرا Agra. في الطريق إليها، الذي يبلغ 250 كم، لم ألْحظ قطعة أرض واحدة غير مستغَلَّة.. كانت الأرض محتشِدة، إمَّا بالأشجار على جانبي الطريق، وإمَّا بالحقول الممتدة على مدِّ النظر. عندما وصلت، نسيت التعب والمشقة اللذين تكبدتهما من نيودلهي إلى أغرا.. ففي رحاب تاج محل، وعلى ضفة نهر يامونا، تنتصب أعجوبة من أعاجيب الحُب والبناء والإبداع والوفاء، تنسيك التعب، وتأخذك إلى عوالم أغنى. هناك وقفت في مساحتين: نباتية خضراء، ومَرْمرية بيضاء، وكلٌّ منهما ذات طعم خاص.. والمَرمرية منهما، بصورة خاصة، أخَّاذَة، تسرقك من نفسك، وتسرح بك في مدى الزمن. وقفت أتأمل وأنظر إلى الماضي، من بين مئذنتين، منارتين، مائلتين، إحداهما باتجاه نهر يامونا، والأخرى باتجاه داخل الضريح المَرمري والجهة المقابلة لـه.
في تاج محل حديقةٌ ممتازة، تتوسطها بحيرة مستطيلة الشكل، ذات نوافير مائية أنيقة، تمتد أمام الضريح بساطا زاهيا.. العناية بالخضرة، والماء المتدفق من النوافير، ذكرتني بنوافير جَنَّة العَريف وقصر الحمراء في غرناطة، مع اختلاف بيِّن في المناخ، وطبيعة التوظيف، ودرجة الذوق.. ففي جنة العريف، ما يجعل المقارنة بينها وبين جنَّة دنيوية أخرى، مشوبا بنوعٍ من التلفيق.
الضريح الذي أقامه الإمبراطور شاه جهان، لزوجه ممتاز محل، صرحٌ عجيب.. رائعة معمارية خالدة، تعطيك خلاصة تقول بتفوق إرادة الإنسان على المرمر الصلد، المُشرَّب بالضوء حتى الثمالة، لدرجة القول إنه ضوء القمر في صورة رخام، أو إن النور تقمَّص رخاما. إنه رخام "ما كرانا" ـــ وهي منطقة هندية، رشَّحها من كلفهم الإمبراطور شاه جهان بالبحث عن نوع رخام لبناء الضريح ـــ هناك تحول المرمر إلى قصيدة وإيقاع.. ويقدم الصقيل المنقوش منه، الذي أجبر على الخضوع لإرادة الفنان المُسلم وعبقريته وإزميله الرشيق.. يقدم شهادة للعصور، على عصر شهد ذلك التقدم في البناء والجمال والوفاء والازدهار. توفيت ممتاز محل، زوجة شاه جهان، قبل أن يكتمل الصرح، ودفنت هناك في أثناء الاستكمالات، بينما توفي زوجها شاه جهان بعد انتهاء البناء الذي دام العمل فيه ما يقرب من عشرين سنة، ودُفن إلى جانبها.
من ضريح جهان شاه وزوجه ممتاز محل، نظرت إلى ماضِ قريب وآخر بعيد.. عشرون سنة استغرقها عشرون ألف معمار وعامل فني، في بناء ذلك الصرح الخالد.. الذي في صحنه الخارجي ثلاثمئة غرفة، لسكن الفنيين والعمال.. وعبر السور، إلى يمين الداخل إلى الضريح، تقع دار ضيافة للمتميزين من الأشخاص، وإلى اليسار مسجد. أما الضريح المَرمري الأبيض، فقد كتب على مداخله بالمَرمر الأسود، آياتٌ من القرآن الكريم، زُرعت ضمن صفحات المرمر، وجاءت روح ذلك الأداء متكاملة، فهي لا تقدم ترصيعا، وإنما إبداعا فنيا رفيعا. وعلى سياج الضريح، بدَت الزنابق المرمرية بارزة نتيجة حفر وترصيع في صفحات من المَرمر الأبيض، على طول زنَّار عريض، يزيد على متر ونصف المتر، ابتداء من أرضية الضريح.. وهي تقدم أروع شهادة وأعمقها، على الأداء الفني الرفيع لفناني ذلك العصر.
يوجد في أعلى الإطار الذي يحيط بالضريح 64 زهرة لوتس حمراء وردية، صنعت من المرمر، ولُوِّنت، ثم حُفر لها مكان في صفحة المرمر الأبيض النقي، وأدخلت في أماكنها، وعُشِّقت به تماما، فبدت من روحه، وهي شفافة مثل المرمر الذي شف عن نقاء، حيث يرتد إليك الضوء المركز عليه شفافية ملونة جذابة. جُثتا الملك وزوجه دفنتا في مدفنين أرضيين، تحت المدفنين العلويين، وهما في ضريح من المرمر أيضا، وحجم قبر الملك أعلى قليلا وأكبر من قبر زوجه.
أورانزيب، ابن الملك جيهان شاه من زوجه ممتاز، الذي اشتد على الناس وعلى أقاربه، وقتل أخويه الاثنين، ليستقر لـه الحكم، بعد أن اعتلى سدته.. بنى لنفسه ضريحا بالرخام الأسود في أغرا، مقابل ضريح والده، على الضفة الأخرى المقابلة لموقع تاج محل، من نهر "يامونا".. لكن ضريح أورانزيب لم ينجَز، عمل فيه العمال مدة أربع سنوات، وكأنما الزمان والمكان رفضا هذه النِّديَّة بين الابن وأبيه، ولم يسمحا بأن يجاور ضريح الوفاء ضريحٌ مغاير.
أربع من المنارات المتناظرة في تاج محل، شدَّتني إلى الوراء قليلا، إلى منارة أخرى، أتيح لي أن أزورها في نيودلهي، هي "قطب منار" أو منارة قطب، التي بناها قطب الدين إيبك، وهي آية معمارية أخرى، لم أر مثلها أبدا.. إنها تجمع عشرة مآذن أو أكثر في تصميم مئذنة واحدة شديدة الارتفاع، وتُزاوِج بين بناء "الباغودا" الصيني ـــ البوذي، والمئذنة الإسلامية، في تحفة معمارية متميِّزة، تدل على التمازج الحضاري العميق، والانفتاح النابع من تسامح فذ، سكن أعماق الناس، وعبَّر عنه فن العمارة، فانطلق إبداعا فريدا في أداء فني رائع.
هناك في منطقة قطب منار Qutb Manar، عدة صروح معمارية من الحجر الأسود والورديّ، السقوف ذاتها من الحَجر، وقد تنوع فن المِعمار بين القناطر التي تسقف المَكان، والأقواس، وأنواع المُقرْنَصَات الحجرية، والنقوش على الأعمدة والواجهات التي أخذت وحداتها الزخرفية من فنون وحضارات وديانات عدة. وفي أنواع وأشكال بناء منارة قطب الدين وما جاورها من مباني "سري"، التي شيدها علاء الدين خَلْجي في القرن الرابع عشر الميلادي، وفيما أحاط بها من صروح معمارية.. ما ذكّرني بأنموذج معماري وجدته في بلدي، وفي منطقتي، لا سيما استخدام الحجر الأسود البازلتي في السقوف، حيث "الرَّبذ أو الرَّبَض، من رَبَض"، وحُنُوت الدُّور، "جمع "حِنْت"، والجسور القصيرة المستخدمة للجَسْرِ في البناء، وتصل بين القناطر الحجرية المتجاورة، وتستَند إليها شرائح السقوف الحجرية، والأعمدة، والمنحوتات الفخمة الأخرى.. كل ذلك من الحجر البازلتي.
وقبل زيارتي لقطب منار، كنت زرت ضريح همايون وأسرته.. وفي ذلك المكان، وفي الأبنية المحيطة به، تميُّزٌ ملحوظ.. لكن لم أزُر قصورا ومنشآت لأيٍّ من ملوك المَغول والغزنويين والمماليك، إذ لم تتح لي فرصة رؤية شيء من ذلك في زيارتي تلك.. وكان معظم ما رأيته مما تركوه، أضرحة في مساحات واسعة من الحدائق، حيث بدت لي المساحات الخضراء التي تحتوي تلك الأضرحة أو المنشآت، لافتة للنظر.
بعد خروجي من تاج محل، وجدتني في مفارقة اقتضت المُقارنة بين الحجر والبشر.. فقد خِلْت أنني خرجت لتوِّي من ازدحام صور الإبداع، إلى صور الأشخاص والأشياء في شارع متخمٍ بالبؤس والشقاء.. ففي الطريق بين نيودلهي و"أغرا" Agra، وفي المدينتين، شاهدت الناس في المدن والقرى والمزارع التي مررت بها.. وبقيت في ذهني صورٌ من البؤس تثير الشفقة.. "من مُستحمٍّ في الشارع، إلى نائم على الرصيف، إلى من يقود عربة "الرَّكْشي" على دراجة عادية، بينما يجلس على كرسيها الخلفي ثلاثة أشخاص أو أربعة، إلى جَمَلٍ أو ثور أو حمار، يجرُّ عربة، إلى مُعْدَمٍ حافي القدمين، يسير فوق الإسفلت الساخن، يجرُّ عربة يركبها الناس، لقاء مبلغ يبدأ بخمسة روبيات وقد يصل على خمس وعشرين.. وكل ذلك يتم في ظل فوضى سير لا نظير لها.
ولا أدري، أَلَفَّتْ الأرضُ بي، أم أدخلتني دوامةً عنيفة، فَدُخْت.. فيا الله كم في هذا العالم من متناقضات.. وكم فيه من تعب وفقر وبؤس، وكم فيه من غنى فاحش وفاقة، ومن ظلم وطغيان وجور، وكم فيه من فجورٍ وتهتّك وخداع، وكم فيه من تنوّع.. ومن فرص تعايش بين الأجناس والأنواع، يهملها كثيرون من أبناء الأجناس والأنواع.. وما الهند إلا عالم من التنوع والألوان، من الفقر والغنى، ومن التداخل الغريب العجيب بين المستويات المعيشية، والديانات والثقافات والتقاليد، والمهارات والشطارات.. وفي بلدان العالم الأخرى مثل ما في الهند، من ذلك الكثير المُثير.
* * *
حين وصلت مدينة كُلْكَتا Kolkata، وبدأت ولوج شوارعها، في الزحام الكثيف، أشار مرافقي إلى منطقة، قال إن فيها بيت الشاعر رابيندرانات طاغور.. ذاك اسم لـه وقعٌ خاص وقوي في نفسي، وقد قرأت معظم أعماله المُترجَمة، لا سيما الشعر والمسرحيات، وسبق لي أن زرت بيته زيارة سريعة لا أتذكر من تفاصيلها شيئا يذكر.. كان ذلك في زيارتي الأولى لهذه المدينة قبل عقدين من الزمن تقريبا. طلبت من مرافقي أن أزور البيت، قبل أن نصل إلى الفندق، وتمت الزيارة، على الرغم من أن الوقت كان ضيقا، وهناك موعد بعد وصولي إلى الفندق.
زرت بيت طاغور، ولاحظت أن هناك جامعة مبنية في محيط البيت وإلى جواره.. ومررت بغرف البيت كلها، بما فيها الغرفة التي ولِد فيها عام 1865 والغرفة التي توفي فيها في (7 آب 1940) وغرفة العمل، وبقية أماكن البيت الذي يشرف على ما يذكِّرك بمسرح شكسبير القديم، القابع في ستراتفورد، تلك القرية البريطانية في يوركشاير.
عمل طاغور في الرسم والتمثيل والموسيقا، وكتب الشعر والمسرح ونصوصا أخرى، وزار عدة بلدان، وقابل عددا من مشاهير عصره، وترك صورا لزيارته ولقاءاته تلك في البيت، المتحف.. ومن ذلك زياراته وإقامته في بريطانيا، حيث درس هناك مدة سنتين ولم يكمل دراسته، وزياراته لكل من: باريس واليابان وموسكو والصين وبورما والإسكندرية، وبلدان آسيوية أخرى.. وله صورة مع أينشتاين وأخرى مع ستالين، وصورة وهو يلقي الشعر بحضور غاندي، وصورة مع الكاتب البريطاني ويل ديورانت.
بعد زيارتي لبيت الشاعر الكبير، ذهبت إلى فندق Nikko، وهو فندق ياباني جديد، بدأ عمله حديثا في المدينة المكتظة بالسكان، ومن بعد إلى لقاء مع الكتاب في فرع أكاديمية ساهيتيا.. وكان لي هناك وقتٌ طيّبٌ، قدمت فيه لمحة عن الحياة الثقافية، وعن المُشكلات والقضايا الرئيسة التي تشغلنا، ويستلهمها أدباؤنا وكتابنا.. ورغب إليَّ مشاركون في اللقاء، سماع موسيقا الشعر العربي، وهو يلقى من الشعراء، فكان ذلك.
بعدها زرت نهر الغانج Ganga المُقدَّس، وهو من أكبر الأنهار في العالم، ينبع من جبال هيمالايا، ويعبر الهند إلى المحيط.. هناك شاهدت من يجمع الطين المُقدس من النهر المُقدس في الليل.. كان العمال يُخرِجون من نهر الغانج، "المهاتمي المقدس"، الـ ماتي MATI أي الطين، ويصنعون منه "قُرَّاصات وكرات بحجم رغيف الخبز"، يبيعونها للناس، لأن ذلك يدخل في المُقدَّس.. ولم تغادرني منذ تلك اللحظة صورة ذلك الطين ومدلولاتها.. كان ماء النهر عكِرا، والمنطقة تعج بحشرات طائرة، مشيت على الرصيف قليلا.. وفي مكان قريب من مَجْبَل الطين، الواقع عند أسفل أعمدة الجسر الذي يمر فوق النهر، وعلى مقربة من الشاطئ، كانت هناك شمعة صغيرة مضاءة، تنوس وتقاوم النسمة الخفيفة، تشبه منارة مرفأ مهجور، كأنما هي روح لكائنٍ ذُرَّ رمادُ جسده في النهر حَديثا، وما زال يصارع من أجل دخول البرزخ الذي يفصل بين عوالم: الحياة، الموت، الحياة الثانية، أو التجسُّد في كائن، حسب تناسخ الأرواح.. أو كأنما ذلك الروح، في شدة مخاض ولادة، و"دخول" في جسد كائنٍ جديد تقمصه، بعد رحلة حياة، لم تؤد إلى تطهُّره تماما، ومن ثمَّ لا بُدَّ من معاناة جديدة، قد تجلب له التطهر والخلاص.
وفي لحظة توهج فكري عابرة، مرت في رأسي فكرة كالسهم المُنطلق من قوس ذي عزم وقوة: "أليس في هذا الطين بقايا الرماد الناتج عن حرق جثث المَوتى، وعن ذَرِّ رمادها في النهر؟! الطين الذي يجمعه عمال في شاطئ نهر الغانج، أعاد إلي فكرة في مجال القداسة التي يضفونها على ذلك الطين.. إنهم عمليا يجمعون شيئا من أجساد بشر، منهم أقارب وأصدقاء وأبناء وطن.. رماد أجساد، يدفعه النهر المقدس إلى الشاطئ، فيتكون منها ذلك المُعطى، مُعطَى القداسة عند أولئك الناس.. إن أمواتهم الذين أحرقوا هم أجسادهم، يعودون إليهم في رماد خالط كتل الطين، بعد أن قدسها "الغانج" على نحو ما.. ألا يخالط الرمادُ الطين، ويتجمع في زوايا معينة من المَجرى، لا سيما إذا كان هناك جسر وأعمدة يلتف حولها الماء، ويتراكم الطمي المُحمَّل برماد الأجساد؟! أليس ذلك هو مصدر التقديس الذي يجعل "الـ ماتي" Mati، مطلوبا وله ثمن؟! فكيف ولماذا؟! إننا نحن البشر نبحث عن بقايانا، وعن بقايا أحبائنا، في التراب والماء والغبار والنور، وفي أشعة الشمس ونسيم الهواء، ونتوق لعودة ما، واستعادة ما.. فيا لنا من أنموذج لكائن حائر مُحيِّر، تزداد معاناته كلما طالت حياته وتجددت رغباته، في حياة مُثقَلَة بالإبهار والأوزار والأسرار،يتعلَّق بها أكثر كلما عانى منها أكثر؟!
كل شيء في كُلْكَتَا لم يطمئنّي، لا أعرف السبب، وكلما تذكرت أن الخضار والفواكه تروى من مياه نهر الغانغ المُقدس الذي يُذرُّ فيه رماد الجثث البشرية المُحروقة، أُحجِم عن تناول شيء منها، أو أكاد.. ليس لأن النهر مقدس، ولكن لأنه ذلك النهر الذي شهدت على شاطئه جمع الطين المقدس "الماتي"، ورأيت مقدار تلوث مائه، وأعرف، وأتذكر دائما، أنه النهر الذي يُلقي فيه الهنود رماد جثث موتاهم التي يحرقونها، ويذرّون رمادها في النهر على امتداده الطويل.. حسب عادتهم في التعامل مع جثة من يموت لهم أو منهم.
في المدينة كمٌّ من البشر يتجاوز 15 مليونا، في ذلك الوقت، وفيها كما قال لي مرافقي، أبو ذر الهاشمي الكُلْكَتّي، حوالي مليون مسلم، وهو رقم غير دقيق في تقديري.. الأشجار كثيرة هناك في ساحات واسعة، وحدائق عامة كبيرة، وكذلك في ميدان سباق الخيل القريب من المكتبة الوطنية.. والشوارع ضيقة وكثيرة الحُفَر، وعلى جانبيها الأشجار الباسقة.. والناس في هذا الازدحام، يبدون أشباه بشر، كأنما يخرجون من عصور قديمة، والمَحلات التجارية، معظم واجهاتها لا تغريك، وقد تشكِّك بما تفكر في شرائه.
فيKolkata زرت المتحف الشعبي.. هناك تتجلى الروح الشعبية في تماثيل وتقاليد وصناعات، ذات مدلول ديني أو اجتماعي بسيط جدا، وهي مصنوعة من الخشب أو الحجر أو الطين أو القماش، مثل "السلطة والمعرفة". في البنغال روح شعبية بسيطة.
وزرت المَكتبة الوطنية التي أسسها أحد أجداد طاغور، وفيها ما يقرب من 2.5 مليون كتاب، ومليون مخطوط متنوع.. كما زرت قاعة المطالعة في المبنى القديم، وقسم المخطوطات العربية والفارسية، وشاهدت نسخة مخطوطة من القرآن الكريم بحجم كبير، وأخرى بحجم صغير جدا. أما القسم العربي من المَكتبة، ففيه عدد من الكتب، بعضها قديم، متآكل نسبيا، ويعلوه غبار أسود يشبه الصدأ، شأن الكثير من الكتب التي لا تَلقى اهتماما أو عناية كافية، وهناك كتب مُعتنى به نسبيا. ولم تتم حَوسبة المَكتبة بعد، ونظرا لحجمها الكبير، فلا أظن أن حوسبتها يمكن أن تنتهي في سنوات قليلة. وهناك قاعة مطالعة واسعة جدا، في القسم الحديث من البناء.
وفي متحف للتماثيل والمصنوعات الشعبية، وقفت أمام معروضات في الإطار الطقسي التعبدي، وأخرى مكرَّسة للاحتفالات الشعبية المتنوعة.. وهي تماثيل بسيطة، ومنسوجات شعبية، وأدوات يحملها الهنود في تلك المناسبات. وفي المتحف الوطني، مررت بتماثيل "لبودها Boudha"، وهي من البرونز والمعادن الأخرى والخشب، تعود إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وتتسلسل من بعد ذلك الزمن، حتى عصور متأخرة، وتبدو متأثرة بفنون بعض الحضارات الأخرى، الفارسية والفرعونية، وحتى بعصور إسلامية، مما وصل إلى الهند، أو تواصل معه الهنود من حضارات، وأدى إلى تفاعل حضاري. وكان اللافت الحالات والتحولات التي قدم فيها الفنانون "بودها"، من التجسُّد الغريزي إلى النرفانا التامة.
في ذلك الوقت، احتفل الهنود بعيد الآلهة السوداء كالي.. وكانت الموسيقا الملائمة أو المُلازمة لذلك العيد، تنبعث من كل مكان. وتبدو الآلهة الهندية "كالي"، ببشرة سوداء، وتمثالها مزيّن بالكثير من الأشياء التي تحيط وجهها ورأسها بما يشبه التيجان، وتبدو في أكثر الحالات، واضعة قدمها فوق جسد تمثال آخر، قد يكون حالة من تجليات الموقف من "شيفا، أو سيفا، أي المُهلِك". في مهرجان "كالي"، كل بيت في المدينة يصنع قماشةً أو سجادة دائرية الشكل، مزينة بقطع من النقود والمرايا الصغيرة، وحولها قناديل من "زيت وفتيل من القطن". وعيدُ كالي هو، فيما بدا لي، عيد "والي" ذاته الذي يُعد أكبر أعياد الهنود، ويُحتفل به في كل أنحاء الهند.. وصادف في ذلك العام، أن اجتمع عيد الفطر عند المسلمين، وعيد كالي عند الهنود، في وقت واحد.
في الفجر، وعبر ضباب يلف المدينة وشوارعها، وصلت إلى المطار في طريقي إلى نيودلهي، وبعد إجراءات سريعة، جلست في قاعة المسافرين بانتظار وقت المُغادرة. وهناك، اتضحت لي وجوه الهنود وسماتهم أكثر فأكثر.. الزيارات الرسمية، واللحظات القصيرة العابرة مع الناس، وصخب الشوارع وازدحامها، كل ذلك لم يعطني الكثير من تلك التفاصيل، لأتيقَّن من قدرتي على امتلاك ما يساعد على إصدار حكم. كان الناس من حولي في القاعة يجلسون بهدوء.. نظرت إلى الوجوه.. إنها سمراء مُشرَّبة بحمرة، وذات قسمات إنسانية عميقة، فيها نظافة ورونق مستَحَب، وفي صفحات بعضها كتب الزَّمن خلاصاته بتجاعيد وخطوط عميقة رفيعة.. إنهم هنا شيء آخر غير ما تبدَّى لي في بعض الأماكن والشوارع... تُرى أين كنت على خطأ، هنا أم هناك؟!.. أم أن لكل لحظة من زمان، ونظرة في مكان، لونها وتجلياتها وشفافيتها ومعطياتها.. لكن من شبه المؤكد، أنه يتوقف ما يعلق في الذاكرة، أو يرسخ فيها.. على المُشاهَد فقط، بل وعلى المَشهد، وعلى الحالة النفسة للراني إليه، وعلى المَرنو إليهم أيضا؟!
والله أعلم.