أخي القارئ الكريم يقول الله تعالى في سورة ق الآية 18( ما يـلفـظ من قـول إلا لـديه رقـيب عـتيـد ) ، وهـي اخـتيار الله تعـالى لـكلمة ( قـول ) في هـذا المـقـام ، فـيا تـرى لماذا قال : ( ما يلفـظ من قـول )، ولـم يـقـل مـثـلا : من يعـمـل من عـمـل إلا لــديه رقـيب عــيـد ، والملكان يكـتبان الأعـمال كما يـكتبان الأقـوال ؟
يـبـدو أن ذلك عـائـد إلى كـون الناس لا يعـدون أقـوالهـم من أعـمالهـم ، ويعـتبرون الـكلام مجـرد ريـح الأفـواه ، وهـذا خـطـأ مهـم كـبير ، فالله تعالى يـريـد أن يبين بهـذا التـعـبير أنـه حـتى القـول الـذي لا يـعـتبره الناس من عـملهـم يسجـل ويـدون ، وسـيجـدونه حاضـرا ولـذلك لما أخـبر النبي صلى الله عـليه وسـلم الصحـابة ، بأنهـم سـيـؤاخـذون بما يتـكلمـون به قالوا له : يا رسول الله أنـؤاخـذ بما نتكـلم به ؟
لأنهـم لم يكـونـوا قـبـل ذلك يـعـتبـرون كـلامهـم من الأعـمال ، التي تكـتب عـليهم ويحاسبـون عـليها ، ويجـازون عـليها خـيرا أوشـرا ، وسـؤالهـم هـذا يـدل عـلى هـذا ، إذ كانـوا يـظـنـون قـولهـم مجـرد كـلام يــذهـب أدراج الـرياح ، ولهـذا قال الحـكماء :( مـن عـد كـلامه من عـمله قـل كـلامه إلا فـيما يعـنيه) 0
فإذا كان القـول يسجـل وعـليه رقـيب عـتـيـد ، فالأعـمال الأخـرى من باب أولى وأحـرى ، وربما لـو قال : ما يعـمـل من عـمل إلا لـديه رقـيب عـتيـد لـقـلنا : إن هـذا الحـكـم يخـص أعـمال الجـوارح فـقـط ، أما كـلام اللسان فـلا يتعـلـق به ، ولـكـن ذكـر كـتابه كل قـول تبتين لنا أنه ما كان عـملا كان من باب أولى 0
بـعـض الحـديث : عـن مـعـاذ بن جـبـل رضي الله عـنه ، عـن النبي صلى الله عـليه وسـلم كـنت مـع النبي صلى الله عـليه وسلم في سـفـر فأصبحـت يوما قـريبا منه ، ونحـن نسير فـقـلت : يا رسـول الله أخـبرني بعـمـل يـدخـلني الجـنة ويـباعـدني مـن النار 00 ثم قال : ( ألا أخـبرك بمـلاك ذلك كله ) ؟ ، قـلـت : بلى يا نبي الله ، فأخـذ بـلسانه فـقـال : ( كـف عـليـك هـذا ) قـلـت : يا نبي الله ، وإنا لـمـؤاخـذون بما نتكلـم به ؟ ، قال : ( ثـكلـتـك أمـك يا مـعـاذ هـل يكـب الناس عـلى وجـوهـهـم في النار إلا حـصائـد ألسنتهـم ) أخـرجه ابن ماجة 0
الـرقـيب :هـو المـراقـب أو هـو الحارس الـذي يـرقـبك ، ويلحـظ أعـمالك وأقـوالـك ويتتبع حـركاتك وسـكناتك ، والعـتيـد : هـو الـقـوي الشـديـد المتمـكـن من عـمله ، القائم به أحسن قـيام لا يـفـوته قـول من الأقـوال ، ولا عـمـل من الأعـمال ، مهما كان صـغـيرا إلا ويسجـلها ، وكلمة ( عـتـيـد) تـلحـق بالأوصاف ، تقـول مـثـلا : هـذا حارس عـتيـد ليـس حـارسا فاشـلا ، وفي الحـديث العـتـيـد كـذلك معـنى المـلازمة والثـبات 0
قال الله تعالى: ( وجـاءت سـكـرة المـوت بالحـق ذلك ما كنـت منه تحـيـد )سورة ( ٌق ) 19 ، ذكـر الخـلـق أولا ثـم ذكـر سـكـرة المـوت ، وقـد تبـدو لنا المسافة طـويلة بين الخـلـق الأول وبـين سـكـرة المـوت ، ولـكـنها في الحـقـيقة قـصيرة وقـصيرة جـدا ، حـتى بالنسبة لمن طـالت أعـمارهـم ، وأعـمار هـذه الأمـة غـالبا بين السـتين والسـبعـين ، روى أبـو هـريـرة رضي الله عـنه ، أنه قال : قال النبي صلى الله عـليه وسـلم : ( أعـمار أمتي بـين السـتين والسـبعـين ، وأقـلهم من يجـاوز ذلك ) ولـذلك تسمى هـذه المـرحـلة مـعـترك المـوتى، كما سـماها أبـو نصـر فـتح بن نـوح الملـو شـائي النـفـوسي اللـيبي :

أراني عـلى الستين عـام ونيفا ** بمعركة المـوتى كهـدن عـلى دخـن
والبـيت من قـصيـدته في أصـول الـدين ، وأولـها :
سلام على الإخوان في كل موطـن ** بنجـد وخيف والسهـولة والحـزن

وقـد تـوفي النبي صلى الله عـليه وسـلم وعـمـره ثـلاثة وسـتـون عـاما ، وكـذلك سـيـدنا أبـو بكـر الصـديق وعـمـر بن الخـطاب والإمام عـلي بن أبي طالـب رضي الله عـنهـم وقـد يطـول عـمـر الإنسان إلى أن يـبلـغ أرذل العـمر ، أو يعـيش مـثـل عـمـر النبي نـوح عـليه السـلام وكل تـلك الأعـمال إن هي إلا مـدة قـصيرة ، يمثـلها الناس بـقـولهـم : ( مصباح في ريـح ) فـما أقـصر المسافة بين الـولادة والمـوت ، وإن بـدت لنا طـويـلة ، فـكـم هـو عـمـر الإنسان بالنسبة لمـن عاش سـبعـين أو ثمانين سـنة ، ولـكـن ما أكـثر من يـمـوتـون في اليـوم من الـولادة ، ولله تعالى في كل لحـظة وفي كل سـاعـة ، وفي كل يـوم نـفـوس يـقـبضها ، فالـعـمـر إذن قـصير ، والله تعالى بـين لنا أن كل ما يكسبه الإنسان ، من قـول أو عـمـل ما بـين المـيـلاد والـوفاة إلا عـليه رقـيب عـتـيـد يسجـلها عـليه ويحصـيه 0
عـبر بسـكـرة المـوت وهـذا التعـبير يـدل عـلى أمـر شـديـد ، لا نعـلم مـقـدار شـدته ، وقـد تكلم العـلماء كـثيرا في شـدة المـوت وصـعـوبته ، وشـبهـوها بأشـياء لا نـدري ما حـقـيقـتها ، إن المـوت لشـديـد حـقا ، ولكـننا لا نعـلم مـقـدار شـدته ، ويـبـدو أنها تخـتـلـف عـنه سـكـرات الموت خـفـفها الله عـن نبيه ، وقـال صلى الله عـليه وسـلم وهـو يـعـالج سـكـرات المـوت : ( لا إلـه إلا الله إن للـمـوت لـسكـرات ) ، ومـن أراد الله أن يشـددها عـليه شـددها ، والأمـر غـيبي لا نـدخـل فـيه ، ونحـن لا نشـك بأن الأعـمال الصالحات ، تخـفـف مـن سـكـرات المـوت ، وإلا فهـي تصـيب حـتى الأنبياء والرسـل وكل إنـسان طـائـعـا أو عـاصـيا .
فهـذا النبي صلى الله عـليه وسـلم لما حضـرته الـوفاة ، كان بجـانبه إناء فـيه ماء بارد ، وكان يضـع فـيه يـده في الماء ، ويمسـح بها وجهه ، ويـقـول : ( لا إله إلا الله، إن للمـوت لـسكـرات) ، وهـذا ما روته السـيـدة عـائشـة أم المؤمـنـين رضي الله عـنها ، قالت : مات النبي صلى الله عـليه وسـلم بـين نحـري وسـحـري .
قالت عـائشـة : إن مما أنعـم الله عـلي أن رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ، قـبـض في بيتي ويـومي ، وبـين سـحـري ونحـري ، وإن لله جـمع بين ريقي وريقـه عـنـد المـوت ، قالـت : دخـل عـلي أخي عـبـد الرحـمـن بن أبي بـكـر وأنا مسـنـدة رسـول الله صلى الله عـليه وسـلـم إلى صـدري ، وبيـده سـواك فـجـعــل ينظـر إليه فـقـلت : آخـذه لـك فأومأ بـرأسـه أن نعـم : فـليـنته له ثـم ناولته ، فأمـره عـلى ثـغـره وبين يـديه ركـوة أو قالت : عـلبة فـيها ماء ، فجـعـل يـدخـل يـده فـيها ، ثـم يمـسح بها وجهه ، ويـقـول : ( لا إله إلا الله إن للمـوت لـسكـرات ) ثـم يـصـب عـلى يـده ثـم يـقـول : ( في الـرفـيـق الأعـلى ، حـتى قـبض ومالت يـده صلى الله عـليه وسـلم ) أخـرجه الطـبراني في المعـجـم الكـبير 0
وعـن عائشة رضي الله عـنها قالت : كان النبي صلى الله عـليه وسـلم يـقـول وهـو صحـيح : ( إنه لم يـقـبض نبي حـتى يـرى مقـعـده من الجـنة ثـم يخـير فـلما نـزل به ورأسه عـلى فـخـذي غـشي عـليه ، ثـم أفاق فأشخـص بصـره إلى سـقـف البـيت ، ثـم قال : ( اللهـم الـرفـيـق الأعـلى ) ، فـقـلت إذا لا يخـتارنا ،وعـرفـت أنه الحـديث الـذي كان يحـدثـنا وهـو صحيح ، قالت فـكانت آخـر كـلـمة تـكلـم بها : ( اللهـم الـرفـيـق الأعـلى ) أخـرجه البخـاري في كتاب الرقائق .
وهـذا يـدلنا عـلى أن النبي صلى الله عـليه وسـلم نفـسه كان يعـاني مـن سـكـرات المـوت ، وهـو خـير خـلـق الله ، وهـو بالطـبع أخـفـنا ، وكان مما قاله في تلك اللحـظـات الأخـيرة : ( الـرفـيـق الأعـلى ، الـرفـيق الأعـلى ) يعـني اللهم إني أسـألك أن تلحـقـني بالـرفـيـق الأعـلى ، وهـم الـذين قال الله تعالى فـيهـم : (ومـن يـطـع الله والرسـول فأولـئـك مـع الـذين أنعـم الله عـليهـم من النـبيين والصـديقـين والشـهـداء والصالحـين وحـسن أولـئـك رفـيقا ) سـورة النساء 69 .
أي ما أحـسن أولـئـك الـرفـقـاء ، ونحـن نـؤمـن بأن النبي صلى الله عـليه وسـلم هـو سـيـد الـرفـيـق الأعـلى ، ولـكـنه لا يأمـن مـكـر الله ، لأنه لا يأمـن مـكـر الله إلا القـوم الخاسـرون ، ولـذلك كان يـدعـو الله ويسأله ، وإنما ابـتلاه الله تعالى بسكـرات المـوت ليعـظـم أجـره .
ومن العـجـيـب أن يضطـرب بعــض المـفـسرين في قـوله تعالى : ( وجـاءت سـكـرة المـوت بالحـق ) ، فـقالـوا يعـني : فجـاءت سـكـرة الحـق بالمـوت ، أو جـاء المـوت بالحـق ، ولـكن لا معـنى لهـذا الاضـطـراب والآية واضحـة ، ومـعـناها قـريب جـلي لا يحـتاج إلى تأويـل ولا إلى تقـديم أو تأخـير ، فـقـوله تعالى : ( وجاءت سكـرة المـوت بالحـق ) ، يعـني وجاءت سكـرة الموت صاحبها بالحـق ، والحـق هـوما كان الإنسان يكـذب به قـبـل المـوت ، سـيظهـر له عـنـد ما تجـيئه سـكـرة المـوت ، فـلا يخـرج من الـدنـيا حـتى يـريه الله تعالى إياه ، فـيـؤمن بأن ما كان ينـكـره بالأمس من الـوحـدانية والرسالة والبعـث حـق .
وللحـديث بقـية إن شـاء الله نـوا صله في حـلقة قـادمة ..