عرض ـ حسام محمود
في ظل ما يعصف بوطن العراق من براكين العنف وعواصف السياسة الجامحة , والقلاقل الأمنية التي تحمل معها رائحة الموت أصبح هناك حاجة ماسة لتغيير ثقافات العنف المدمرة للمجتمع عن طريق بعث أوجه اطلاع جديدة برسالة فنية سامية لعل تكون إحدى وسائل انتشال العراق من براثن إخطبوط العنف الجامح بعد سلسلة من الحروب أعقبها سنوات احتلال تلاها تفجر دوائر القتل والخراب فى كل مكان , فليت رسالة الفن تصلح ما دمرته السياسة , لهذا هناك توجه لإطلاق صيحات السلام المجتمعي بالعراق عبر أبواق الفنون والمسرح بمفاهيمه الجديدة .
معايير جديدة
هذا الكتاب لمؤلفه الدكتور عقيل مهدى يوسف يصور لنا أن المسرح العراقي ينفرد بكونه بوقا لا مثيل له بين وسائل التواصل الجماهيري مع الرسالة الثقافية والفنية عبر بوابة الإبداع فالكل ينغمس في بوتقة كيفية تضمين جوهر المعطيات لصياغة نمط ثقافي يصلح ما تبعثر من حال الوطن العراقي الممزق , فهناك كثير من المسرحيات العراقية التي باتت تركز على قضايا مكافحة التشدد والتنازع بين العراقيين والصراعات العرقية والدينية , ودرء مفاسد العنف والإرهاب التي تشل أركان المجتمع وتجعله رهنها وتعوق أي تقدم أو بوادر نحو الصعود من مستنقع الإرهاب والعنف والدمار الذي لا يرحم الشعب العراقي. ويفرد المسرح ببلاد الرافدين مساحات للفن الشعري للتعبير عن ملكات وأحاسيس الشعب وتطلعاته ورسم مضمون ثرى نحو علاج مشكلات المجتمع من منطلق كيفية التحول والتغيير النابع من رفض الواقع المذري الذي تعيشه تلك البلاد . وينسق فنانو وكتاب المسرح بالعراق مع أكاديميات الفنون لإعداد بانوراما فنية ومسرحية تجذب مساحة عريضة من الجمهور لرفع درجة الوعي بقضايا المجتمع , وكيفية التوصل لحلول حاسمة لها عن طريق النفاذ لشخصية البطل في البناء الدرامي , والجمع بين مقتضيات الإصلاح وفن الكتابة النقدية للمجتمع التي يمكن من خلالها تسليط الضوء على أوجه القصور في محاولة لتوسيع شخصيات الأعمال لتعبر عن مكنونات الشخصية العراقية متعددة الطبقات والمجالات . وتركز فنون ولمحات المسرح العراقي الحديث على مشاهد القصائد المطروحة والحالات العديدة للسلبيات التي تنبع من عدم وعى بعض فئات الشعب بأهمية السلام المجتمعي القائمة على المصالحة مع الذات , وتغليب فكر الخير على الشر حتى بالنسبة لمسارح الأطفال . وتحول تلك الأهداف إلى مفردات درامية تنبض نبضات متفرقة تنبع من قلب واحد هو إغاثة الوطن المنكوب بالعنف والإرهاب وانعدام الأمن والأمان . ويضع القائمون على المسرح دواوين الشعراء ضمن أولوياتهم الفنية من حيث كيفية صياغتها وإلقائها على المشاهدين , وتكوين حلقة تواصل بين الأبطال الملمين بثقافة التغيير لمحو أمية الجمهور حيال القضايا التي تمس حياتهم حيث إن الكثيرين منهم لا يدركون أن حلولها قد تنبع من أفكار قديمة وجديدة من خلال استحداث صورة جديدة للمسرح تتدفق منها ثقافات مغايرة , وقد تكون من خلال سرد القصص والحكايات على المتابعين كما لدى بعض الكتاب من تجارب مضيئة في هذا السياق. ووصل الأمر لحد إضافة بحوث ومقالات في الصحف ولقطات بوسائل الإعلام عن قضايا عراقية تبحث بشكل معالج على خشبة المسرح من خلال تناغم الجمهور مع الأبطال بأسلوب راق . وذلك بتطوير الموسيقى والمؤثرات والخدع المسرحية لتواكب متغيرات العصر , فالمسرح العراقي الحديث جامعة للأمة ومدرسة للشعب وقلعة حصينة للناس لسانها الفصيح هو التزام فكرى وفني بمعناه الإنساني واتصالا بالعمق التاريخي لبلاد الرافدين عبر ظاهرة عبقرية التواصل اللغوي العربي بين شعوب المنطقة التى أهلتهم للتعاطف مع قضايا العراق وآلامه .
متطلبات العصر
يوضح الفن المسرحي المعاصر أيضا كيفية مكافحة أعداء الثقافة والفكر المستنير الذين يريدون لدوائر الانتقام من الآخر أن تستمر في الدوران لتطحن برحاها الشعب العراقي كله , رغم ان حضارته تجلت بين الحضارات وشهد لها العالم بالعراقة والتميز . فالفكر المسرحي الحديث يقوم على توضيح واقع الأمة وخطورة الانغماس فى المشكلات الماضية التي تطمس طموحات المستقبل , وتقضى على الواقع , والثقافة المسرحية الراهنة تركز على كيفية لفظ الدخلاء وأصحاب الفكر الضيق ومتربحى الفن الذين ينظرون له كتجارة وليس كرسالة سامية يمكن أن تساهم إيجابيا فى حل مشاكل استعصت على السياسيين . وليس بغريب على المسرح العراقي استحضار كتابات كبار الكتاب الوطنيين , وحتى روايات الأدباء الغربيين الأفذاذ كشكسبير وجابريال ماركيز , بما يعمق ثقافة المجتمع ويقضى على الجهل الذي هو ألد أعداء الشعب . ولا يزال الجمهور العراقي معظمه يميل للكلام العفوي في حين يتوهم أن الفصحى مجبرة على الاستماع , لهذا جمع المسرح العراقي الحديث بين الفصحى والعامية , والشعر والنثر , وتجارب كبار الكتاب العالميين لحل شفرات المشكلات من خلال صياغة أنماط جديدة للتواصل بين المتلقي والفنان . إن التجارب لا تستوفى شروطها الإبداعية سواء أكانت بالفصحى أم بالعامية إن لم يكن خلفها موهبة المبدع وثقافته وأصالته. ربما تنجح الفصحى في مسرحية وتخفق في تلك , وكذلك النص المكتوب بلغة العامية الدارجة إنما المهم المحاولة , والجمع بين تيارات الثقافة الفنية وخدمة المجتمع , والبحث عن مكنونات إصلاح المعوج برغبة في النفاذ لصفوف الجماهير بكلمات تخفق لها القلوب المتعطشة للمبادئ والأخلاقيات والإنسانيات بعدما افتقدها طويلا فى ظلمات اللهث من قبل بعض المرتزقة وراء التشدد والعنف والفكر القائم على الحوار بالبارود , والرقص على الجثث , والمتاجرة بالقضايا من خلال تغليب الحوار بدلا من الصدام. فالرقى الحضاري الذي يحمله المسرح يمكن به غرس مبادىء توارت تحت تراب الفتن والدسائس , وصوبت تجاهها بنادق الموت , ويضرب الكاتب أمثلة مسرحية حديثة بالمسرح العراقي المعاصر فى مقدمتها : الحلزون والمعزى , والتوأمان , ومقامات أبوالورد , وجزيرة الماعز , والأطفال يجوزون , ورسالة الطير ما بين الفلسفة والفن , وبين المالك والملوك , والساحرة والشر الجاهز وغيرها من مقتنيات الفنون المسرحية العراقية الغزيرة التى تفضح أسرار مشكلات ما ينوء به الناس من تحديات جمة وخطيرة , ومحاولة ايجاد مخرج منها يقوم على نقد الذات , والتطلع لبناء الوطن بفكر مستنير وثقافة سامية وتطلع حضارى , فكم من قضايا يصورها المسرح العراقي المعاصر بحكايات بسيطة لتعميق مفاهيم الخير والحق والجمال بدلا من الاصطدام بالآخرين فى خلافات لا طائل منها , وصولا إلى غرس مفاهيم صحيحة فى العقول برسالات تعلى شأن القيم والمثل والنقد البناء الذى يغير المضمون نحو الأفضل . وقد استحدث المسرح أيضا بالعراق مسرح المعركة , وهو يقوم على رافد مناهض لفكر الحروب وثقافة القتل لفرض الفكر بالقوة , وهؤلاء صامدون أمام معتركات الواقع يصيغون بالدراما ثقافة جديدة ترفض استمرار المعارك والحروب والقتال , ويدعو لمقارعة الباطل بالحق فى الصراعات الداخلية المريرة التي يكتوي بنيرانها الشعب العراقي العريق .