الخرطوم ـ أحمد حنقه
السودانيون القدامي كانوا يرون في النيل كائناً مقدساً ، وفي كثير من المناطق لا زالوا يعمدون المواليد بمائة أصبح النيل مرادفاً للوطن ورفعته الحركة الوطنية كرمزدعاة الوحدة بين السودان ومصر كان شعارهم وحدة الوادي، والنيل في الوجدان السوداني يتمدد الي خارج دائرة الحس .
كما أن النيل في الذهن الجمعي السوداني لا يعني فقط ذلك النهر الذي تعارف العالم علي اطلاق هذا الاسم عليه ، وانما يعني كل تلك النهيرات التي تنحدر من بحيرة فكتوريا وخط تقسيم المياه بين السودان وكل من يوغندا والكنغو التي تلتقي جميعاً لتكون النيل الأبيض ، بالاضافة الي النهيرات التي تنحدر من بحيرة تانا والهضبة الأثيوبية والتي تلتقي لتكون النيل الأزرق ، ثم يجري النيلان الأبيض والأزرق ليلتقيا في (مقرن النيلين) عند الخرطوم ليكونا النيل الذي يعرفه الآخرون .. كل ذلك هو النيل في الذهن السوداني ، ولذلك ارتبطت كلمة (النيل) في هذا الذهن بالوطن كله معنى ومبنى ، ومن هنا يكون الحديث عن النيل حديثاً عن تاريخ السودان وآدابه وفنونه وعاداته وتقاليد أهله ومجاهداتهم الوطنية عبر التاريخ .
معني الاسم
يفرد الدكتور فتح الرحمن حسن التني حيزاً طيباً لمعني اسم النيل في مؤلفه المعروف (النيل في الشعر السوداني) ، وهو من اصدار دار الجيل ببيروت والدار السودانية للكتب بالخرطوم ، وقد صدرت طبعته الأولي عام 1988م .
ويرجع المؤلف الي الكثير من المراجع التي عنيت بتفسير معني اسم النهر الخالد ، ولكننا هنا سنورد الخلاصة مع اغفال المراجع لانها لا تدخل في خدمة هذا الموضوع الذي يهتم أساساً بالمدلولات التي يمثلها النيل في وجدان الانسان السوداني وبصفة خاصة في جانب الوطنية .
وورد في السفر المذكور ان اسم النهر كان (حابي) أي اله النهر ، كما كان يدعي أحياناً (بي يوما) أي النهر ، وهناك من يرجع الاسم الي اللفظ الفارسي (نيل) التي تعني اللون الأزرق ، وبعضهم يرجع الاسم الي كلمة (نخل) الفينيقية أو كلمة (نحل) العبرانية وكل منهما تعني النهر .ويقول ديودور الصقلي ان النهر كان من قبل يدعي (ايجيبتوس) ثم أطلق عليه اسم النيل تخليداً لذكري ملك يدعي (نيلوس) ، أما العبرانيون فقد أطلقوا عليه اسم (شكور) التي تعني الأسود .وننحاز تماماً للرأي الذي نقله الدكتور التني عن الدكتور صلاح الدين الشامي ، والذي يري ان اسم النيل ينحدر من لفظ (أيال) القبطي الذي استخدم للتعبير عن النهر الكبير العظيم بعد اضافة المقطع (ني) كأداة تعريف للجمع كما هو مستخدم في اللغة القبطية ، ويعني ذلك ان الاسم قد ظهر حسب هذا الرأي مكوناً من مقطعين هما (اني أيال) وتصبح في النطق العادي (نيالو) ، وقد أضاف اليونانيون اليها المقطع (OS) لكي تصبح نيالوس ثم حذف بعد ذلك في استخدام العرب ، وللنيل عند العرب معان كثيرة كالسحاب ونبات العظلم ، كما ان الكلمة أطلقت علي نهر آخر وقريتين بالكوفة ويزد ، وهذا يدل علي ان الكلمة كانت شائعة ومتداولة ، ولكن فيما بعد اقتصر اطلاقها اصطلاحاً علي نهر النيل .
غموض وأساطير
السودانيون كغيرهم من سكان المعمورة كانوا علي جهل مطبق بمنابع هذا النهر الذي شغل الناس في العصور الخوالي ، وان كان أهل السودان قد عانوا من هذا الجهل الغزوات من جهة الشمال والتي كان هدفها الوصول الي هذه المنابع
وللمكانة الهامة التي كان يحتلها النيل في الوجدان السوداني ، وبعضهم يؤكد أن البحرين اللذين جاء ذكرهما في القرآن الكريم وان الله مرجهما هما النيل الأبيض والأزرق ، وان البرزخ المذكور في القرآن الكريم هو (المقرن) في الخرطوم حيث يلتقي النيلان فلا تمتزج مياههما لمسافة ، وهذا الرأي يعتقد فيه ويذيعه بعض الأجلاء من علماء الدين السودانيين المعاصرين .
أما في العصور القديمة فقد عاشت الأساطير عن النيل عموماً ومنابعه علي وجه الخصوص ، والأسطورة كما هو معروف كانت هي الوسيلة الوحيدة للانسان قديماً لتفسير ما يقف أمامه حائراً من ظواهر وأشياء ، وهكذا كان السوداني يري في النيل الهاماً ، وكائناً مقدساً ، وانه ينبع من السماء ، وبعد دخول الاسلام للسودان أرجعت هذه المنابع الي الجنة . وبالطبع تلاشت اساطير المنابع علي يدي المستكشفين سبيك ، وجرانت في مطلع القرن الماضي ، ولكن حتي الآن يري السودانيون في النيل كائناً مقدساً – عن وعي أو دون وعي – وفي كثير من المناطق لا زالوا يعمدون المواليد بماء النيل ، كما ان للنيل أثر واضح في الكثير من عادات وتقاليد أهل السودان ، واختلاط الغيبيات بالنيل في الذهن السوداني شواهده أكثر من ان تحصي ، ولعلها من الوضوح بمكان في أبيات التجاني يوسف بشير التاليات :
أنت يا نيل يا سليل الفراديس نبيل موفق في مسابك
ملء أوفاضك الجلال فمرحي بالجلال المفيض في أنسابك
حضنتك الأملاك في جنة الخلد ورفت علي وضيء عبابك
ومدت عليك أجنحة خضراً وأضفت عليك في رحابك
فتحدرت في الزمان وأفرغت علي الشرق جنة من رضابك
بين أحضانك العراض وكفيك تاريخه وتحت ثيابك
النيل والوطنية
وكما أسلفنا في صدر هذا الموضوع فان النيل أصبح في الوجدان السوداني مرادفاً للوطن ، ولذلك كان وظل رمزاً من رموز الحركة الوطنية في كفاحها ضد الاستعمار ، وكان يمثل لها القوة والوحدة والأمجاد التاريخية ، وكثيراً ما كان قادة الحركة وأدباؤها وشعراؤها يسخرون من الانجليز عن طريق المقارنة بين نهر النيل ونهر التايمز .. يقول العباسي :
أنظر الي النيل دفاعه أبداً ينساب لا بطئاً ولا أمما
فان خلا لبني التاميز لاحتكروا معينه فاشتهيتم منه جرعة ما
واتخذوا من النيل وسيلة معنوية يشحذون بها الهمم ويحثون بها علي النهوض لمكافحة الاستعمار الذي دنس النيل ، ولا سبيل لازالة هذا الدنس الا بمقارعة وطرد المستعمر الاثيم :
حبذا النيل جنة لو قشعنا عنه ظل المستعمر المنكود
لأسقي من يقيم هوناً علي الضيم ويرضي بمحكات القيود
نحن لتياره الذي يتخطي كل ما في سبيله من قيود
عاتياً يهزم الصعاب ويختط طريقاً في الصخرة الجلمود
وفي احدي قصائده يقول محمد محمد علي :
كانت لنا صفحات مجد تالد واليوم نغمرها بمجد طارف
النيل زمجر وانبري فتيانه يتدافعون كمد سيل جارف
تتكسر الاحداث تحت أكفهم والدهر يرقبهم بقلب واجف
لا قيد بعد اليوم بل حرية تهب الحياة لكل عان راسف
وهذا الدكتور سعد الدين فوزي يذكر الشباب بالنيل ودوره في بناء الحضارات ويطلب منهم ان يكونوا أوفياء لماضيه المجيد بأن يصنعوا لوطن النيل حاضراً زاهراً كريماً :
وهبت بياني للبلاد وسقته لدي الاغلال منطق ثائر
هو النيل بناء الحضارات لم يشأ سوي نابع من روحه النيل صادر
فكونوا شباب القطر أسداً أبيه وجيئوا لماضيكم بأشرف حاضر
هو الحر ان يلق الحياة كريمة يعش عمره مثل الزهور النواضر
وان يلقها رهن القيود يضق بها ويؤثر كؤوس الموت في كف جائر
وقد يستخدمونه كعنوان للهوية ، وهذا هو علي عمر قاسم يستنكر سؤال من سألته عن هويته:
لا تعرفيني أنا ؟
أجل هذا أنا ..
ابن الصحاري البكر والغابات
علي قلبي يفيض النيل شلالات
يعمدني رحيت الشمس كل صباح
وألبس من طهارة أمتي العذراء ألف وشاح
وادي النيل
اصطلاحاً تطلق عبارة (وادي النيل) علي مصر والسودان معاً ككيان واحد ، وقد خرج وادي النيل من معناه الجغرافي العلمي الي معني أكثر شمولاً وصار شعاراً لدعاة الوحدة بين البلدين ، وكان شعار (وحدة وادي النيل) شعارا رئيسياً للقسم الأكبر من الحركة الوطنية السودانية ، وكان الذين يرفعون هذا الشعار يؤمنون بأن استقلال السودان لن يتم الا في اطار وحدة وادي النيل وتعاضد الحركة الوطنية في البلدين ، وبدون ذلك سينفرد المستعمر بالسودان وينهب ثرواته أبد الدهر لأن السودان سيكون وحيداً لا ظهير يعاضده ، ومن ثم ساند الشعراء الدعوة لوحدة وادي النيل واستخدموا النيل كرمز وحافز ، وبرز كم هائل من الشعر في هذا الجانب يمكن أن يمثل لوحدة أدباً كاملاً ، ولا يستطيع أي مؤرخ للشعر في السودان ان يمر مرور الكرام علي هذا القسم من الشعر السوداني .
وكانت تربط ما بين الشعراء في كل من مصر والسودان روابط متينة ، ان لم تكن علي المستوي الشخصي فعلي مستوي التأثير والتأثر يقول التجاني يوسف بشير :
كيف يا قوم نباعد بين فكرتين شدا وساندا البعض أزرا
كيف .. قولوا بجانب النيل شطيه ويجري في شواطيء أخري
كلما أنكروا ثقافة مصر كنت من صنعها يراعاً وفكرا
وكثيراً ما يتناولون النيل في أشعارهم كعامل يكفي وحده للوحدة بين البلدين ، وهذا شيخ شعراء السودان جعفر حامد البشير يقول :
يا شعب مصر حبال النيل تربطنا والذل والنكد المشؤوم والثأر
فما بالنا اليوم نرضي أن نبوأهم ديارنا بئس ما نرضي ونختار
خلا البلاد التي عاثوا بها زمناً ولا القناة لهم في أرضنا دار
وقد يذكرون عوامل أخري للوحدة الي جانب النيل ، ولكن يظل النيل في أشعارهم هو العامل الأساسي والرابط الرئيسي .. يقول محمد سعيد العباسي وهو يخاطب أدباء مصر :

خذوا بيد البلاد فثقفوها وكونوا في حوادثها المعينا
أعينونا فنحن بنو أبيكم لنا حق ونحن الأقربونا
لنا بالدين والفصحي ائتلاف وثيق ضم شعبينا قروناً
ونيل فاض كوثره فأجري بواديه الحياة لنا معينا
مدلول نفساني
وللنيل معني نفسي لدي السودانيين اذ يمثل لهم الطمأنينة والسكينة ، ولذلك ينعكس النيل (المعني) في أشعار المغتربين منهم بحيث يطبع هذه الأشعار الحنين الي النيل (المكان) .. يقول البروفيسور الراحل عبد الله الطيب عندما كان في بريطانيا :
فيا ليت النيل يدنو فماؤه أحب الينا من معتقة بكر
ومن كاعب حسناء ند حديثها تفاوح في أثوابها نبه العطر
فمن مبلغ قومي السلام تحية فقلبي لا ينفك منهم علي ذكر
ويقول الدكتور مصطفي عوض الكريم في ذات الموقف :
أرجعوني لبلادي قد تمادي اليوم حزني
فأنا الصادي لماء النيل ، أين النيل مني
وأنا المشتاق للوادي الذي قد غاب عني
ويقول صلاح أحمد ابراهيم
أسبوع مر واسبوعان
جوعان ولا قلب يأبه
عطشان وضنوا بالشربة
والنيل بعيد
الناس عليهم كل جديد
وأنا وحدي
منكسراً الخاطر يوم العيد
فالنيل هنا هو الوطن والأهل ، فهو ليس مجرد نهر في رقعة جغرافية وانما له مدلول تاريخي وحضاري في وجدان الأمة السودانية ، وهو يتمدد خارج دائرة الحس الي دائرة المعني ، ومن ثم كان الحنين للنيل حنيناً للمكان والزمان والانسان وان ارتبط بالنيل مكاناً ، ولولا عمق الايمان الديني في نفوس أهل السودان لتحول النيل عندهم الي (طوطم) لقوة تأثيره في الوجدان السوداني .