الرغبة في العيش في ظل السلام والرخاء والتنمية والعلاقات القائمة على الاحترام المتبادل وتبادل المنافع والمصالح تمثل خيارًا وأولوية للشعوب والدول المحبة لذلك، وفي سبيل ذلك تبذل كل جهد ممكن لبلوغ هذه الغايات والأهداف، بعيدًا عن الملوثات الفكرية ونزعات التسلط وانتهاك الشرعية الدولية والقانون الدولي، والتي انبنت عليها سياسات دول الاستكبار العالمي والاستعمار المتمثلة في فرض الهيمنة والسيطرة وسلب حريات الشعوب وإرادتها وخياراتها في طريقة عيشها، ومحاولة فرض مبادئ وقيم وسياسات وأنظمة عليها لا تتناسب مع مبادئها وقيمها وعاداتها وتقاليدها.
لذلك، كان من الطبيعي أن تقاوم الدول والشعوب محاولات انتهاك قيمها ومبادئها وأخلاقها والسطو عليها، وتبني حوائط ومصدات للدخيل من الأفكار والقيم والمبادئ، وتتمسك بثوابتها الوطنية حتى لو أدى ذلك إلى تعرضها إلى عقوبات اقتصادية، على النحو الذي يبدو عليه حاليًّا وضع كوريا الشمالية التي لم تتنازل قيد أنملة عن ثوابتها الوطنية وأمنها القومي رغم ما تتعرض له من عقوبات اقتصادية وتحريض وتشويه.
وتشكل القمة التاريخية التي تجمع اليوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون في سنغافورة مثالًا حيًّا على أيديولوجيتين متضادتين،أميركية حيث تنطلق الولايات المتحدة في دعوتها لكوريا الشمالية إلى الحوار من السياسة الأميركية ذاتها القائمة على نزعات التسلط والهيمنة، ومن شعور لا يزال يسكن ساسة أميركا ومراكز صنع قرارها بأنها القطب الأوحد في هذا العالم، والمتحكمة فيه دون منازع، وبالتالي يجب أن يرضخ الجميع لها، ويكون تحت عباءة سيطرتها وهيمنتها وسياستها. وما يجب أن يُلتفت إليه هنا هو أن لا أساس ولا مصداقية لما ترفعه واشنطن من شعار بأنها حريصة على تحقيق الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، وإنما هو فقط مجرد ذريعة لاخضاع كوريا الشمالية لهيمنتها، بمحاولة مقايضتها برفع العقوبات الاقتصادية عنها والحصول على اعتراف وحضور سياسي دولي واسع ، مقابل تنازلها عن أسلحتها النووية التي تمثل عنصر ردع لبيونج يانج، والتي بسببها لم تستطع أن تغامر واشنطن في تنفيذ ما لوَّح به ترامب من تهديد باكتساح كوريا الشمالية وتدميرها.
أما الأيديولوجية الكورية الشمالية فتنطلق من حقوق سيادية واستقلالية وكرامة ومن ثوابت وطنية وأمن قومي لا يمكن التفريط فيها أو التنازل عنها، مع الرغبة الأكيدة في العيش في ظل أجواء الاستقرار والسلام والعلاقات القائمة على الاحترام المتبادل شريطة عدم المساس بالحقوق والثوابت. ومن هنا تبدو القمة بين الرئيس ترامب والزعيم كيم جونج ليست سهلة، فالتنازل عن سلاح الردع النووي مقابل رغيف خبز لن يكون بالأمر الهين ، حتى ولو كانت كوريا الشمالية مشمولة بمظلة الحماية النووية الصينية، خصوصًا وأن شواهد التاريخ على السياسة الأميركية لا تزال ماثلة للعيان، سواء ما جرى ضد العراق من فرض عقوبات اقتصادية جائرة، وتجريده من أسلحته، ونعني بها الصواريخ الطويلة المدى والمتوسطة والقصيرة، ثم غزوه وتدميره، وما جرى ضد ليبيا بتجريدها من برنامجها النووي ثم تدميرها.
صحيح أن القمة جاءت تعبيرًا عن رغبة مشتركة لدى جميع الأطراف في شبه الجزيرة الكورية، بالإضافة إلى الصين واليابان وروسيا الاتحادية وكل المحبين للسلام والاستقرار، والرافضين لنزعات الهيمنة والتسلط، في إخلاء شبه الجزيرة الكورية من جميع مظاهر التوتر وإرساء علاقات تعايش جديدة تقوم على المحبة والألفة والاحترام المتبادل وتبادل المنافع، وعودة الأواصر الأسرية، إلا أن نجاح القمة من عدمه يتوقف بالدرجة الأولى على التعهدات والالتزامات الأميركية ومدى مصداقيتها، مع اليقين بأن الهواجس حاضرة لدى بيونج يانج من أن يكون ما يتم التوصل إليه من اتفاق مع واشنطن مصيره مثل مصير الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لذا ستكون جولات المفاوضات شاقة وطويلة جدًّا بين الجانبين الأميركي والكوري الشمالي.