عرض ـ حسام محمود:
يبدأ كاتبنا الكبير وعميد الأدب العربي طه حسين روايته "الأيام" واصفا إياها بحديث أملاه على صاحبه في رحلة من رحلات الصيف ملأ لأوقات الفراغ وتخفيفا للهموم والأحزان، كان طه حسين معارضا لفكرة نشر حديثه هذا حتى أصرت عليه مجلة الهلال ليظهر الكتاب فى صورته الحالية.

بداية ونشأة
يروى الكاتب بداية أيام طفولته في الريف، والتي استشعرها حسيا بلمس الأشياء وسماع أغاني شاعر البلدة والتي كونت خياله الواسع. كان له أخوة كثر، لكنهم كانوا يعاملونه بحذر مثلهم مثل أمه وأبيه فى بعض الأحيان مما جعله يدرك أخيرا أنهم يرون ما لا يرى . ونظرا لما كان يعانيه فى مأكله ولهوه مع أقرانه فقد اتخذ لنفسه سلوى في الاستماع الجيد لكل ما حوله ، حتى انه لم يبلغ التاسعة من العمر إلا وقد وعى الكثير من الأغاني والأشعار والقصص ، وحفظ إلى ذلك كله القرآن الكريم على يد شيخ الكتاب. ورغم حفاوة الأسرة بالشيخ الصغير حافظ القرآن إلا أنه بعد ثلاثة أشهر من إهمال شيخ الكتاب له نسيه مما استوجب إعادة حفظه ، ولما كان الشيخ يخشى أن ينسى الولد القرآن مرة أخرى ، أسند إلى عريف الكتاب مهمة مراجعة القرآن معه ، لكنه كان مرتشيا يقبل أى شيء من الطفل مقابل أن يؤكد حفظه للقرآن ، حتى أسند العريف للطفل مهمة المراجعة لغيره من حافظي القرآن فارتشى هو أيضا من الأطفال وكانت أهمهم طفله اسمها "نفيسة" لم تكن فقط غنية ولكنها كانت بارعة في رواية القصص والأغاني . لكن لم يدم هذا الأمر طويلا، إذ قام أبوه باختباره فجأة وعندها تبين نسيانه للقرآن مرة ثانيه، ورغم كذب الشيخ وأيمانه المغلظة قرر الوالد عدم ذهاب الطفل للكتاب مرة أخرى ثم عدل عن قراره تحت إصرار الشيخ. وما كان من الطفل إلى أن عاد صابرا لعلمه أنه سينتقل إلى القاهرة ليدرس بالأزهر الشريف مع أخيه، ولكن الأخ قد قرر بقاءه عاما آخر لصغر سنه ولأنه لا يستطيع تحمله الآن واكتفى بأن كلفه بحفظ ألفية ابن مالك وبعض أجزاء من مجموع المتون. ولم يكن حال حفظه لألفية ابن مالك بأفضل من حال حفظه القرآن، فما لبث أن مل وهجر الحفظ حتى كاد يفتضح أمره عند أبيه لولا تدخل أخيه الأزهري وتحفيظه إياها في عشرة أيام . ومع كل ما تعلمه الصبي كان يقرأ ويتأثر بأمور السحر التي تنفذ في قريته وكان يرتئيه بشكل أو بآخر على صلة بالتصوف فكلاهما يخترق حجب الغيب. وصار الصبي محظوظا بقدوم مفتش الطرق الزراعية الجديد المتخرج من مدرسة الفنون والصنائع والذي يتحدث الفرنسية وقد قرر أن يعلم الصبي تجويد القرآن وقراءة حفص. أيام عصيبة حزينة مرت على الصبي ، بدأت بفقده أخته ذات الأربعة أعوام جراء مرض لم يعرفوه مصحوبا بإهمال أسري، ذلك الإهمال نفسه الذي تسبب في فقدان بصره، ومن بعدها فقد جده لأبيه وجدته لأمه ، لكن ما كان أشد فجعا للأسرة بأكملها كان حين فقد أخاه ذا الثمانية عشر عاما إثر إصابته بالكوليرا والذي كان منتشرا في مصر وقتها.

تكوين شخصيته
عاش الصبي أثناء دراسته بالأزهر حياة بسيطة فى حجرة مع أخيه، وكان أهم الشخصيات إليه والى زملائه هو الحاج فيروز صاحب الدكان القريب من السكن والذي كانت تصلهم عن طريقه رسائل أسرهم وحوالاتهم المادية. هكذا تعرف الصبي في هذا الربع بأشخاص كانوا يقيمون فيه وكأنهم ليسوا من أهله وآخرين يلمون بالربع بين حين وحين وكأنهم مقيمون فيه . كان اهتمام الصبي بالأدب كبيرا حتى انه ورفاقه داوموا على درس الأدب مع احد الشيوخ المتمردين على بعض أمور الأزهر، فانفض البعض عن الدرس وبقى صبينا حتى كاد يعاقب وآخرون بمحو أسمائهم من سجلات الأزهر، فقام بكتابة مقال عنيف يهاجم فيه الأزهر وتوجه لينشره في الجريدة ، علم بعدها انه لم يعاقب وانه سيستمر في دراسته بالأزهر، لكنها كانت البداية ليداوم على الذهاب الى الجريدة. وبمرور الوقت أصبح الصبي يجد في نفسه بعدا عن دراسة الأزهر ورفاقه والربع ، فقرر الالتحاق بالجامعة المصرية ونظرا لبقاه عامين فقط على ان ينال شهادته النهائية من الأزهر قرر ان يكمل دراسته بالجامعتين معا ويجتهد فى التوفيق بينهما .

نبوغ
منذ التحاقه بالجامعة أولاها الاهتمام الأكبر، كما وطد علاقته بمدير الجريدة لطفي السيد واتجه إلى المقالات النقدية والتي كانت تزيد حدتها حينما كان يتعلق الأمر بالأزهر، كما زاد اتصاله بالشيخ عبد العزيز جاويش فكان هو ولطفي السيد سبب إتقانه للكتابة، كما عمل فى تدريس الأدب بالمدرسة التي أنشأها جاويش . وأصبحت الجامعة بالنسبة لصاحبنا وسيلة للوصول الى هدف اكبر بعدما ألقى الشيخ جاويش في روعه فكرة السفر الى أوروبا والى فرنسا تحديدا. وذات يوم قرأ في الصحف إعلانا من الجامعة تطلب فيه الشباب الاستباق الى بعثتين لفرنسا لدراسة التاريخ والجغرافيا، فأرسل الى رئيس الجامعة الامير احمد فؤاد الرسالة تلو الأخرى متحملا الرفض في كل مره ومستغلا للوقت في تعلم اللغة الفرنسية حتى قبل رئيس الجامعة فى النهاية شريطة حصوله على شهادة الدكتوراه وقد كان. وأعدت ترتيبات سفر طه حسين إلى الخارج لكن قيام الحرب ادى إلى عودة الطلاب الدارسين فى أوروبا كما أدى لتأخير سفره الى فرنسا ، الأمر الذى جعله يعانى فراغا كبيرا وتحسسا من ان يعوله أبوه بعد سنه هذا ، فأرسل الى رئيس الجامعة خطابا يطلب فيه ان يقوم بتدريس تاريخ الآداب العربية فى الجامعة فوافق رئيس الجامعة على ان يتم منحه مكافأة خمسة جنيهات في كل شهر . وبنهاية الحرب وهزيمة الألمان أمام باريس سافر طه حسين وأخوه مع طالبين احدهما درس الحقوق والآخر متخصص فى الأدب العربي ، وبوصولهم مدينة مونبلييه بدأ دراسته فى حرص على إتقان الفرنسية واللاتينية والكتابة البارزة. اقام طه حسين فترة مع اخيه يقتسمان السكن حتى دبت الخلافات بينهما فتفرقا وأدى ذلك الى زيادة نفقاته وضيق العيش، كانت حياته شاقه بين دراسته بالجامعة ووحدته حين ينصرف رفاقه، ولم يبدد تلك الوحدة الا وجود زميلته التي استعذب صوتها حين قرأت عليه شعر راسين ، كانت دائمة القراءة له وتفسير ما قد يتعذر عليه فهمه . ظل صاحبنا على حاله حتى أدت الحرب الى ان تطلب الجامعة من طلاب البعثة العودة الى مصر ، ورغم حزنه وخوفه من عدم إتمام رسالته الا ان خطابات زميلته كانت تهون الأمر ، كما انشأ عبد الحميد حمدي فى تلك الأيام جريدة السفور وطلب اليه الكتابة فيها كما طلب أن ينشر كتابه عن أبى العلاء . بعدها بحين قرر السلطان حسين كامل تسليمه وزملاءه جائزة ماليه قرروا أول الأمر التبرع بها لصالح الجامعة المصرية لكن حديثهم مع علوي باشا اثناهم عن هذا القرار . عاد الطلاب مرة أخرى الى فرنسا لاستكمال بعثتهم لم يتغير شيء بطه حسين سوى حزن شديد نتيجة صعوبة الحياة وماديتها واستخدامه لنظاره تخبئ عينيه . انخرط صاحبنا فى دراسته بالسوربون مبتعدا عن كل متع باريس دارسا علوما اضافية فى التاريخ والجغرافيا والفلسفة من برامج المدارس الثانوية الفرنسية. وسط كل ما كان يعانيه طه حسين من صعوبة العيش وسخريات البعض من آفته والتي تسرب اليأس أحيانا اليه ، وجد نفسه ذات يوم يصارح زميلته ذات الصوت العذب بحبه، ومرت ايام انتظر فيها اجابة حتى حلت اجازة الصيف وأرسلت اليه دعوة لتمضية الاجازه مع أسرتها، الدعوة التي فتحت له حياة جديدة. وامضي كل منهما الفترة الأولى لحبهما وخطبتهما في الدراسة وقراءة كل ما له صله بدراستهما، حتى ان صاحبنا تهيأ لامتحان الليسانس ورسالة الدكتوراة معا ، حتى اتاه الدكتور صبرى السوربونى يبشره بنجاحه ولما تأكد قرر الخطيبان ان يتما زواجهما . اكمل طه حسين اختبارات الليسانس الشفهية واخذ موافقة الجامعة المصرية على موضوع رسالة الدكتوراة كما كان متبعا حينئذ وكانت عن ابن خلدون ، وبعد أن اجتاز محنة وفاة الأستاذ دوركيم المشرف الفلسفي على رسالته ، وصعوبة اختبارات الأساتذة الجدد، قام بمناقشة رسالته ليسمع ولأول مره تصفيق الفرنسيين حينما أعلنت اللجنة حصوله على درجة الدكتوراة مع مرتبة الشرف الممتازة . بدأ صاحبنا فى الاستعداد لينال دبلوم الدراسات العليا وتحدد له موضوع عسير، أضاف اليه صعوبة أحداث الحرب التى أجبرته على ترك باريس والتوجه مع زوجته إلى جنوب فرنسا، واستقر بعدها فى مونبلييه ورزق بابنته أمينه واقبل الزوجان على دراسة اللغة اليونانية معا . وبينما كان انشغاله بأمور أسرته والرسالة ورفاق البعثه ان ارادوا المساندة، جاءت الأنباء من مصر بأنها تطلب استقلالها عن المحتلين المنتصرين ، وعندما وصل سعد زغلول ووفده الى باريس التقى به طه حسين ومعه أحمد لطفي السيد وعبد العزيز فهمي . وتوالت الخطوب السياسية وكان طه حسين أجرأ الكتاب قلما في مهاجمة سعد زغلول قبل الحكم وبعد توليه وبعد اعتزاله ، وكانت صلته بسعد حاملة له شرا وخيرا في آن واحد . وأنهى طه دراسته بفرنسا وعاد إلى مصر مع زوجته ومقدار كبير من الكتب كان اغلبه من نصيب الجامعة بعد عناء مادي ونفسي في طريق العودة. استأنف طه عمله بالجامعة وساعدته زوجته بقراءتها وتمكينه من الإلمام بالخرائط برسمها وجعله يتحسسها ويحفظها عن ظهر قلب ، لكن ما لبثت ان ثقلت عليها شئون المنزل وابنتها فاضطر صاحبنا ان يتخذ مرافقا بأجر، وكان عمله المبهر في الجامعة سببا للقائه بالسلطان ورغم خلافه مع الجامعة الا انه استطاع الاستمرار واصدر أول كتاب له صحف مختارة من الشعر التمثيلي اليوناني وأهداه الى السلطان . كان طه حسين مؤمنا بالثورة التي قامت معتقدا أن العلماء والمفكرين سيحققون التوازن بين الساسة حين يختلفون ، وكان يعلم ان عامة الناس والشباب خاصة هم من يعرضون صدورهم لرصاص الانجليز واندمج في أحداث السياسة ورأى الحيادية فى ذلك الوقت الصعب جبنا ونفاقا .