اعتبارا للاستعمالات الأيقونية الفنيّة التي يستمدها الفنانون من تراثهم الأصيل، وتماشيا مع مقومات التراث الزاخر الذي يمد الفن بمجموعة من القيم الفنية والجمالية، فإن الفنان التونسي عمر كريم يعتبر من الفنانين الذين كانت لهم فرصة ثقافيّة لتجديد الصلة عن قرب بالموروث الحضاري، وتحقيق التفاعل التراثي الفني، لبعث أعمال فنية معاصرة. وإنّ المتتبّع لمسار تجربة هذا الفنان، يلاحظ ثراء على مستوى المراحل التي مرّت بها تجربته الفنيّة. واستطاع عمر كريم إخراج المنسوج التقليدي من حدود الحرفة اليدويّة للارتقاء به نحو البعد الجمالي والفكري والاجتماعي.
من هنا فإن القراءة الفنية التي تبرز لنا من خلال منسوجاته التشكيليّة، هي تلك الرؤية التي تكشف عن الشروط الاجتماعيّة والثقافيّة والتشكيليّة الخاصة بالتراث عموما، بهدف توظيفه لخدمة قضايا العصر وأغراضه، وهو ما يؤكده محمّد محسن الزارعي بقوله:" إذا نحن قيّمنا الصناعات التقليدية من جهة العولمة. لا ينبغي أن يؤدّي ذلك إلى الانغلاق، فتتحوّل الهوية إلى عائق أمام استمرارية المنتوج التقليدي، استمرارية تنم عن قدرة على التنافس وكسب رهان الكونية". هذا ما يؤكّد عمق تجربة الفنان وبحثه المستمر عن إنتاج لغته التشكيليّة من خلال تفاعله مع مختلف المواد، فأصبحت منسوجاته نسيج من المفاهيم والمصطلحات تثير العديد من الأسئلة الجوهريّة بين الواقع المرئي والحقيقة اللامادية النابعة من الذات وخصوصيّة الفكر والمنهج.
تتميّز منسوجات الفنان عمر كريم بديناميكيّ واضحة في طريقة إنشائها، و هو ما ساهم في منحها ليونة وطواعيّة في الشكل والمادة، حسب إرادتها وطاقاتها الإبداعيّة، واشتملت أعماله على توليفات جمالية و تقنية ساهمت في إثراء عمله النسيجي. ويكون النول أحيانا جزءا لا ينفصل من القطعة الفنية، حيث يقوم الفنان بالتعبير المباشر من خلال بناء لمجموعات متوازية من الخطوط الرأسية (السداء)، تتعاشق بنسب مختلفة، وتكرارات متعددة، مع مجموعة أخرى من خيوط أفقية (اللحمة)، ممّا يعطي تأثيرات مميزة يصعب تحقيقها من خلال الأساليب الفنية الأخرى. ورغم بساطة الشكل والأداء إلا انه يمكن ببعض الصياغات الفنية، والتنوع في توزيع الألوان، والخامات، والخيوط، لكل من السداء واللحمة الحصول على تصميمات عديدة ومتنوعة. واستطاع الفنان أن يحقق حركة تقديرية من خلال نسج شرائط من الخيوط مع بعضها البعض كوحدات مستقلة ثم إضافتها إل العمل في اتجاهات توحي بالحركة والانسيابية. كما نلاحظ التأثيرات الجمالية الناتجة من التنوع في تلك الخيوط الملونة، فقد حاكها الفنان بكلّ دقّة واختيار وتجانس، فخلقت ملامسا وحياكات متنوّعة لتكون تارة ملساء وتارة خشنة. وابتعد هذا الفنان عن الأطر الهندسية التقليدية التي صاغت منسوجاته، والقائمة أساسا على أطر هندسيّة متنوّعة الشكل والمساحة، ليقدّمها في شكل جديد.
ولا يقتصر العمل على هذه الثنائيات فقط بين الوقع والخيال، البعد الثالث والتسطيح...فحسب بل تراوحت الأشكال أيضا بين الثابت والمتحرك والذي ابرز ذلك الوضعيات المختلفة، فالعناصر التي توهم بالحركة أصابع المرأة وحركة الطيور واختلاف وضعيات الحصان الأول والثاني. أم الأشكال الثابتة فتبرز من خلال الوضعية الثابتة للمرأة والحصان. وعندما نجيل نظرنا في مسطحات المنسوجات الفنية للفنان عمر كريم، نلاحظ انفصال الأشكال عن بعضها البعض، و ارتباط الألوان وانسجامها بين اللون القاتم والمضيء، وانشطار الهيئات الإنسانيّة والحيوانيّة لتشكل بذلك لوحات غير مكتملة في شكلها المادي، لكهنا متناسقة ومنتهية في تأملنا لجميع عناصرها. فيتكرر حضور الألوان داخل الأشكال، مثلا نجد صورة الحصان الأبيض المتجسد في هيئة امرأة، هناك طيور زرقاء موزعة على سطح المنسوجة، اللون الأصفر الذي يرمز به إلى الحلي... و جعل هذا الفنان من المنسوج الحائطي ملتقى جامع للعديد من التقنيات والخامات والتي يراوح فيها بين النسيج "الملطائي والخرتوي"، مستعملا الصوف، الخشب، النحاس، وخيوط النول بأسلوب بنائي منظم و متجانس، تتعايش فيه الخيوط مع هذه المواد متخذة من توزع الألوان والأشكال كحركة بصرية جماليّة، توهم الناظر أنها جزء منها.
غير أن هذه التداعيات اللونيّة في رسوماته داخل المنسوجة، لم تكن في تجاربه الفنية إلا مزجا لعالمه الخاص بالمحيط، انطلاقا من علاقته العفوية باللمسة المتحررة، وما تجسده وتقيمه من تطلعات فنية تزيد من الإحساس بالحرية التلوينية والتكوينية، يوضح ذلك طغيان الحقل البصري،الذي يجعل لنفسه مساحة رحبة، تقلص من أسر الإطار والتأطير معا، كما أن الحضور اللافت للبعد الثالث يزيد من هذه الحرية الإبداعية. ولذلك فالصور والعلامات التي اعتمدها، هي في الحقيقة الشكل الذي من خلاله يبرز التفكير على سطح وعي هذا الفنان، فهي ليست محتوى نفسيا ولا واقعا ساكنا أو شيئا ما يخدم التفكير ويوجد سابقا عنه. إن الصورة في هذه المنسوجات هي "نشاط ذهني وفعل إرادي. وفي استقلالها عن كل ذلك لا تساوي الصورة أي شيء"، لأن تكمن خصوصيتها (المنسوجة) في طرق توزيع مكوناتها، حيث أمكن التمييز بين النسيج الأملس، والنسيج المحبب،والنسيج المتموج،والنسيج الخشن، وغير ذلك، كلها محددات للفضاء، تغدو فيها الأشكال الطبيعية مثارا للتساؤل حول كيفيات نقلها ومدى استيعابها لرؤيته الفنية الجمالية، استنادا إلى نوع التناغم الحاصل بين الألوان والأشكال.
من هنا تبرز القيمة الجمالية والمعرفية والفكرية، نتيجة ذلك الربط المباشر بين مدرك البصر ومدرك اللمس، سواء كان هذا الإدراك مباشرا، أم إدراكا نابعا من الحس المشترك. إن كل هذه العناصر الشكلية والمضمونية التي تحبل بها منسوجات الفنان عمر كريم، تعمل متضافرة في القذف بالمعنى نحو ساحة للتداول والتفكير، فهي موجهة ومساعدة في تحديد دلالات الصورة؛ فاختيار علامات بصرية بمختلف تجلياتها، لم يكن اعتباطا، بل مهمازا للبوح والتعبير وإرساء رؤية جمالية مخصوصة.

د.مبروكة بوهودي
باحثة تشكيلية في علوم وتقنيات الفنون