ذاكرة الشعر.. تمظهرات الوعي الجمعي العماني

مدخل
لطالما كان الشعر، وبخاصة في البيئة العربية، بمثابة محفز على فهم البنى المجتمعية من زوايا مختلفة، ولكن حصل ذلك على استحياء كبير، من خلال متفرقات بين مقالات وأبحاث ودراسات متباعدة زمنيا، وهذا ما جعل التوقف عند الوعي الجمعي تجاه الشعر الذي ينتجه ويعيد تصديره إلى ذاته أقرب إلى الوجدان منه إلى الثقافة المستكنة فيه أو المتشعبة منه.
هنا نحكي عن الشعر العامي/ الشعبي، الذي له المساحة الأكبر في البيئة العمانية القديمة، المساحات المتعددة الأغراص إذا جاز التعبير، ولهذا توغل كثيرا في الوعي واللاوعي الجمعي كليهما، من دون أي تماس قرائي أو مقاربة مباشرة أو غير مباشرة، للذهاب خلف كواليس هذا الشعر الذي حفز العديد من المدارك، التي ظلت مستوطنة في بيئة الصمت، بدلا من إماطة لثام المعاني والدلالات والتمظهرات عنها، حتى في ظل توسع مدارك البحث والتحليل، وتنامي المعرفة شموليا وخصوصيا.
ربما سيكون علينا محاولة الاقتراب من هذه المساحة الشعرية والمحتمعية معا، والنظر إليها بعين مراحلها الزمنية، وكيفية تجذرها في المكان، على شكل مقاربات، سنتعمد ونعتمد على التماهي معها أحيانا، والانفصال عنها في أحيان أخر، كي نرى العلاقة الجوهرية بين المجتمع العماني القديم من ناحية، والشعر الذي ينتمي إليه من ناحية أخرى.

عبور أول
نظن أن السمة الأولى الذي تمنحنا إياه ميزة الشعر في البيئة العمانية هي التجذر، من هنا نطرق باب العبور الأول، فنحن نعيش الفكرة المعنية بالتجذر، من دون أن ننشغل بأسئلة الـ كيف والـ لماذا، ومن دون أن نحاول صنع علاقة متصلة بالواقع بين الإنسان العماني وقصيدته، تلك التي لم ينتجها بصفته فردا، بل بصفته ذاكرة وأسلوب حياة، وبصفته جزءا من تراكم طويل في الزمن البعيد، يتنفس خيار استمراريته مع الشعر بأنواعه، والقصيدة بالتباساتها وحركيتها، والتماهي بين ما تعنيه وترمي إليه من ناحية (المعنى)، وانسيابيتها الوزنية في مختلف مناحي الحياة اليومية والمناسباتية (المغنى) ، من خلال التفاعلية الحميمة، التي لم ينجرف البحث نحو مساراتها.
نحن أقرب ما نكون إلى مستهلكي الشعر العماني القديم، خصوصا في زمننا الحاضر، وأبعد ما نكون عن إقرانه ببيئته التي لا نعرف عنها سوى أنها بيئة بسيطة غير محفزة على البحث في ما وراءها، والاكتفاء بالترداد النمطي للشعر العماني العامي القديم، وفقا للفنون التي ينتمي إليها، نكتفي بذلك، ونهمس للوقت بأن هذا هو جل ما ارتضيناه لفك شيفرة المكان من خلال القصيدة.
الجهات التي تأخذنا إليها القصيدة هي مزيج من أسئلة ومناخات واستدعاءات وتجليات تنتسب إلى الذاكرة وليس التدوين، وتقترب من الخصوصية التي لم ننشغل بها، وتتجانس مع الاستعداد الجمعي للتعاطي معها والإيمان بها، وهو ما سنحاول مقاربته.

ذاكرة تراكمية
لدينا العديد من الصور، فوتوغرافيا الذاكرة، ألبومات حياة، مساحات حياتية يختلط فيها الأسود بالأبيض بالألوان، لدينا أصوات كثيرة تركت بعض حكاياتها في الأذهان، ومناخات بعيدة في الزمن، ظلت الصورة الفلمية عالقة في العقل الباطن من دون أن تستكنهها الأسئلة والمقاربات، هذا التراكم، أو الذاكرة التراكمية، التي تجمع بين حيوية الشعر وحياة الأرواح التي تلقتها وعاشتها، هي الرصيد المتبقي، ربما سرده لم يتجاوز الشكل الظاهري، ولكن العميق الغائب عن البصيرة لم تنفذ إليه الأصوات الراوية والعيون الكاشفة، ولم نعد ندري لماذا استمرت القصيدة العامية العمانية القديمة حتى يومنا هذا، كان من الأجدى أن يترك هذا الحجم والزخم المتراكمَين والمُراكَمَين بعض بصيص بحث عن معرفة المكان وما فيه ومن فيه وصلة كل ذلك بالشعر، لكن ذلك لم يحدث، وهذا يعني أننا لم نستفد بعد من ذلك التراكم.
ما أبقته لنا الذاكرة البصرية، وما نحن منسحرون به شعرا وحياة مجتمعية، ربما سيكون الدافع نحو الذهاب إلى الزمن والبيئات، لا لمقايسة ذلك، بل لمحاولة فهم المكان العماني القديم، وتماهيه مع قصيدته، قصيدة الفرد المختلف، وقصيدة الجمع الذي وجد ذاته في تفاصيل ذلك الشعر، في العديد من سماته المعيشية، التي كانت محفوفة بالبساطة، ومنذورة بجمال المعنى والمغنى.

تمظهرات متجانسة
الشعر العماني القديم، في مختلف أشكال حضوره، عبر الفنون الشعبية، أو الفعاليات المجتمعية، أو الترداد في (السِّبَل) و (البرزات)، أو تناقله عبر الأفواه سماعا، أو التغني به في المواقف الحياتية والشعورية والوجدانية والذاكرية، مثْلت له تلك الحضورات شرعية تمظهرات منبنية على التفاعلات، بحسب التعاطي معها والانسجام مع تفاصيلها، ولعل ذلك مما مرّ عابرا، أو لم تلقفه التسارعات الحياتية المعاصرة، التي بالكاد تتذكر - من فرط الانغماس في لقمة العيش - ما حصل بالأمس، في حين أن تلك المشغوفة بالمعرفة لها مجالاتها الأخرى، التي تشكل لها حظوة تفاعلية مع الحاضر وتفاصيله المؤتمراتية المرتبطة بالأسفار والبحث عن الجديد، في حين أن ثمة كائنات حياتية تعيش بين ظهرانينا وتطرح أسئلتها، ولكن لا نلتفت إليها.
إذا كان الشعر ترك تمظهراته في البيئة العمانية القديمة، التي كانت - حينها - حياة كاملة، وإيمانا عميقا، وتماهيا ملفتا، فهي الآن ليست أكثر من فلكلور، لا يبحث في أكثر من الاستعراض، تاركا التفاعل الحقيقي على ذمة النسيان في صفحات التاريخ، حيث تمر السنوات، وينتهي حملة المشاهد في الغياب، وتبقى القصيدة على اللسان، لكن التفاعلات التي صاحبتها حين ولادتها تستمر في هوّتها خارج الاهتمام والتصنيف.
لعلنا سنحاول مقاربة التمظهرات، والتجانس الذي ربطها بالقصيدة، والحياة المجتمعية التي احتلت فيها القصيدة والشاعر كلاهما منزلة عميقة ومؤثرة، مما جعلها تمتد زمنيا من حيث القدرة على الحياة حتى يومنا هذا، لقد كان لذلك سر، وهو قدرتها على التمظهر في التفاعل المجتمعي القديم.

بوصلة قديمة
من الذي بوصل الآخر، هل القصيدة بوصلة المجتمع أم العكس؟
بقليل من التأمل في القرائن المشتركة بين القصيدة العامية العمانية والمجتمع الذي انتمت إليه، لهجة وإيقاعا وقاموسا، سنجد أن الطرفين تشاركا في بناء تلك المساحة التفاعلية بينهما، فكلاهما تستمر من خلال الآخر، وكلاهما نشأ في كنف الآخر، حتى على المستوى الفرادة والتمايز بين الشعراء ونصوصهم، من حيث طبيعة الطرح ورسم المعنى وحظوة المخيلة ببذخ الدلالات، كان أيضا تفاعليا، وكان المجتمع العماني القديم يدرك ذلك، ويتناقله شفاهة للتعبير عن الجِدّة والجودة، وعن المواقف التي قيلت فيها، وعن الترميز الذي تحيل إليه، وعن القدرة على صنع ذلك التلاقي بين النص والمجتمع، ليصبح الجانب البوصلي اهتداء مشتركا وتماهيا ملفتا في بناء المعنى التوالدي واستمرار تناسله عبر التلقي.


عبدالله الشعيبي

خاتمة
ندرك أن التعاطي مع ثيمَتَيّ الشعر العامي من ناحية، والثقافة الجمعية من ناحية ثانية، ليس من السهولة، ولكن محاولة المقاربة التي سننتهجها في ما سيأتي من مقاربات، سنحاول - من خلالها - تسليط الضوء على المستكنّ والقارّ والمنضوي تحت يافطة الزمن البعيد، ومن خلال ذلك ربما نكتشف هذه الصلة التفاعلية، وأشكال حضورها وتمفصلها في البيئة، من أجل فهم كيفية حصول ذلك ولماذا..