‹‹ما بال عينيك؟››
جمرتان خرجتا للتو من جهنم..
‹‹لم أنم طيلة الليل››
كيف لجفنيه أن يغمضا وعقله مضطرب كزورق صغير في محيطٍ أمواجُه غاضبة..
‹‹صمتك يخيفني، أنت تُخفي سرًّا.. أفصح، أنا زوجتك››
‹‹السر إن تجاوز الاثنين لا يسمى سرًّا››
‹‹السر الذي يُكْتَم يخنق››
ما أدقَّ عبارتها، بالفعل يشعر بالاختناق، غارق هو في بحرٍ عاجزاً عن السباحة فيه، كل شيء يجذبه أن يصرخ، ما لم يصرخ لن يتنفس، سيموت..
‹‹تكلم، احكِ، فضفض.. سرك في بئر››
‹‹لا تكفي››
‹‹ما التي لا تكفي؟!››
‹‹البئر.. أنا بحاجة إلى ما هو أكبر وأعظم من البئر كي يستوعب››
كم يقلقها! كم ينثر الشوك في صدرها!
لم تفهم، لن تفهم.. ليس كحاملِ السرِّ يشعر بثقلِ حِمله، يطنُّ في رأسه ليل نهار لا يهدأ، كعلَّةٍ تصيب صدرك، ما لم تتقيأها لن تبرأ منها أبداً، عاجز هو عن أن يبوح لأحد بهذا السر، يقتات على الصمت كي يوقف قرقرة عقله، والسدُّ العظيمُ يكبر ويزداد عَظَمَةً لِيحوْل بينه وبين أنفاسه، ماذا يفعل؟ حتى وعاء الطبخ إذا لم يتنفس ينفجر، هو المصنوع من المعدن، فكيف ببشر من لحمٍ ودم؟.. ما أبسط الكلام وما أصعبه!
تذكَّر قصة الحلاق الذي رأى أذني الملك كبيرتين، كتم الأمر في صدره ولم يبح به، وكاد يجن، في النهاية قرر أن يصرخ في جوف بئر، لم يطمئن فؤاده إلاَّ بهذه الطريقة المجنونة.. المشكلة أن البئر لم تحتمل كتمان السر بدورها، روت الأشجار في الغابة بالماء، وأفشت السر من خلاله، لمَّا هبَّت الرياح وتحرَّكت الأغصان، انتشر السر بصوتٍ مجلجلٍ في الغابة، رددت الجبال صداه، فوصل إلى القرية، وعرف الجميع أن أذني الملك كبيرتان.
هل لهذا السبب نقول ‹سرك في بير›؟ ربما، لكن البئر ها هنا لا تكفي، هو بحاجة إلى ما هو أضخم من البئر، إلى بركان يتلقف السر في جوفه بقوة وصمت.. الأسرار تخلق في الجوف فرقعات مؤلمة، ما لم نبُح بها، لإنسان أو حيوان، أو حتى جماد، لن نستكين.
‹‹أريد أن أعترف››
لم يكن مسيحيًّا، لكنه مضطر، الكنيسة هادئة تماماً، ليس سواه والكاهن، وبينهما حجاب.
‹‹تكلم، أسمعك.. اعترف ولسوف يغفر لك ما اقترفت يداك››
فتح فاه.. لكن كيف يمكنه أن يبوح ببساطة بالشيء العظيم الذي كتمه فترة طويلة في صدره؟ لم يطاوعه قلبه، وأبى لسانُه أن يتحرك.. ظلَّ القس ينتظر الاعتراف، لكن الطرف الآخر كان قد غادر في جبنٍ كرسيَ الاعتراف.
يقال إن أفضل من يمكنك أن تفشي سرك له هو الغريب الذي لا يعرفك، تُلقي عليه كل ما تحمل على كاهلك، ثم تبتعد عنه بمأمن.. حاول بالفعل، لكنه كالجبان يفرُّ بعد كل محاولة.. أصيب بالهستيريا، كاد يجن، قرر أخيراً أنه لا سبيل إلاَّ أن يطبَّق أكثر أفكاره غرابة وجنوناً.. سافر إلى أقصى الأرض، بحث وسأل واستقصى، فلما بلغ غايته اعتلى فوهة بركان عازماً أن ينفجر هناك.
خُلقت الأسرار لتُفشى.. صام صام، ثم أفطر على الحياة، صرخ، نادى بأعلى صوته، أفشى السر إلى فوهة البركان، ابتلع الجبلُ العظيمُ هذه العلَّةَ بكل مهابة، وظلَّ واقفاً في مكانه في سمتٍ لم يتزحزح، في حين أحس هو بالحياة من جديد تسري في عروقه، خرج من قاع البحر الذي غرق فيه فترة طويلة، وها هو ذا يتنفس أخيراً هواءً نقيًّا.. ما أهون الإنسان العاجز عن الكلام، الكتمان قفص يحجب عن جناحيك الرياح، فإذا تحطم القفص طرت كأنك ابن الحرية.
مضى يومٌ ويومان، الحياة جميلة.. شهرٌ وشهران، الحياة رائعة، وصاحبنا في منتهى الانشراح، هدأت نفسه من اضطرابها، جافاه الأرق ونَعِمَ بالنوم طيلة الليالي التالية، وحده الجبل البركاني لم يكن بحالة طبيعية، هاج فزُلزلت الأرض من تحته زلزالها، اضطربت حتى قررت أن تُخرج أثقالها، وبدأت تُحدِّث أخبارها، تنفجر ربما كما لم تنفجر في حياتها من قبل، انتشر الغبار البركاني من الفوهة يغطي مساحة واسعة من الأرض، والحمم النارية بعضها يتناثر مِنْ فِيْ البركان، والبعض يزحف ببطء من أعلى الجبل إلى أسفله.
ركض الناس يبتعدون عن الموت، وحده كان يقترب من الجبل يهمس له في جنون واضطراب:
ـ ‹‹هسسس، اسكت، لا تفشِ سري، إياك إياك››
بدا له وكأن الجبل يجاوبه:
ـ ‹‹أنا أكتم الصهارة والنيران في جوفي، لكن الأسرار تحرقني››
ازداد ثوران البركان أكثر فأكثر، السحب البركانية بدأت تُمطر، ولكن كلا، ليس هذا مطراً..
‹‹كفى أيتها الأمطار، أستحلفك بالله أن تصمتي، لا تفضحي سري››
‹‹السر أثقل من أن أتمسك به أكثر من هذا››
اللاڤا تزحف، يسمع حسيسها، وقف في مواجهتها..
‹‹اهدئي، اصمتي، احفظي الأمانة التي أودعتك إياها››
‹‹لم تملك أن تكتم سرك، أتريد مني أن أكتمه لك؟››
لم تتوقف، استمرت تتقدم، عبرت جسده وأكملت طريقها.

مُحَمَّد قَرَط الجِزْمي