إن "التنوع الثقافي" ليس هو العديد من الثقافات التي تملأ الأرض فحسب، وإنما هو قبل ذلك تلك الروح التي أبدعت هذا التنوع الضخم الذي لا يكاد يحصى من الإفراز الثقافي، الذي لا ينقطع، فهو الإنسان إن شئنا أن نضع الأمر في موضعه، فليس ثمة تنوع ثقافي خارج الكيان الإنساني، إلا ما أفرزته القوانين في إطار النشوء الطبيعي غير الواعي بذاته، فنحن –إذاً– أمام الهوية البشرية بأعمق انبثاق لها، وبأظهر تجلٍ لها.ولذلك فإن أية مصادرة للتنوع الثقافي هي هدم للكيان الإنساني بحسب حقيقته الوجودية، وهي مغالطة لذات مَن يقوم بها قبل أن تكون مصادرة لحق إنساني يتمتع به كل فرد وجد على هذه البسيطة.إن هذه الورقة تحاول أن تقرأ هذا التنوع من بُعد فلسفي، راجياً أن تقدم ما يفيد القارئ.

تعريفات
رغم أن التعريف يحد من قدرة الكاتب على توليد المعنى، كما أنه يقيّد القارئ في استلهام المعاني، إلا أنه لابد منه، وذلك حتى تضع الكاتب وقارئه على أرضٍ مشتركة، يستطيع كلاهما أن يتواصلا في فهم المقصد التي تنطلق منه أية كتابة.
ولذلك سأضع هنا تعريفات تشير إلى المضمون دون أن تستقصي كل "جامع مانع"، فالطرح الفلسفي من طبيعته الانسياح في الفكرة، وخوض غمار البنية المعرفية بغية الوصول إلى كنه الموضوع.

* الثقافة:
من بين كثير من التعريفات للثقافة يمكن أن أعرف الثقافة بأنها السلوك الصادر من الإنسان بوعي بغية الحفاظ على هويته، وهي تشمل: الأخلاق والقانون والمعتقدات والعادات والتقاليد والعمران والفنون والعلوم والمعارف والعلاقات والروابط الاجتماعية.
فالثقافة بأساسها هي فعل الفرد بحضور الآخر، بمعنى أن الفعل لا يعتبر ثقافة إلا إن كان مميزاً للإنسان عن أخيه الإنسان، فالأكل ذاته ليس ثقافة إلا عندما يسلك طريقة ما معتادة تميزه عن الآخر، فيصبح الأكل بالملعقة –مثلاً– ثقافة في قبالة الأكل باليد.
واللباس ذاته ليس ثقافة إلا إن قارناه مع من لا يلبس، أو بنوع اللباس المختلف، فالثقافة بأصلها تنبع من التنوع، فلو قدر للبشر جميعاً أن يتفقوا على طريقة المأكل ونوع الملبس وكيفية السكنى لما عرفت الثقافة، ولعد ذلك أمراً جبلياً فرضته الطبيعة، كما فرض الأكل على الإنسان ليعيش واتخاذ مكان ليحميه من عوادي الزمن.
وكما أن للفرد ثقافته، فللجماعة ثقافتها، وذلك لأن الثقافة حالة مُعدية، فهي تتعدى الفرد إلى الآخر ليتمثلها أيضاً، وبذلك تتشكل مكونات ثقافية تعم الجماعة، لكنها لا تلغي أن يكون للفرد ثقافته الخاصة في بعض الجوانب، كما أن الثقافة تولد كل لحظة، ومن الفرد أيضاً، لتنتقل بعد ذلك إلى الجماعة.وما يمكن أن يقال في الجماعة.. يقال في المجتمع والوطن والعالم، فهناك ثقافة جماعية وثقافة مجتمعية وثقافة وطنية وثقافة إقليمية وثقافة عالمية. ومن الثقافة تتشكل أنواع الاجتماع البشري الأخرى كالمدنية والحضارة.

التنوع الثقافي
إذا ما عرفنا أن الثقافة بأصلها متنوعة لأنها ناشئة من الفرد، فإن "التنوع الثقافي" يغدو أمراً مفهوماً، وذلك لأن الثقافات بصفتها الفردية متنوعة بعدد البشر، وهي كذلك من حيث الجماعات والمجتمعات متعددة بتعددها، إلا أنه رغم ذلك لم يتبلور هذا المصطلح إلا مؤخراً، وأقصد بذلك أنه لم يدخل في أبجديات الأمم المتحدة إلا في القرن الحادي والعشرين، ويبدو أن ما ألح على ذلك هو صعود الإرهاب الإسلامي، وذلك عندما أصدرت الأمم المتحدة ميثاقها حول ذلك. وبحدود اطلاعي.. فإن ما يتم تقديمه في هذا الموضوع أغلبه لا ينصب على تعريف التنوع الثقافي ذاته، وإنما على تعريف الثقافة، وعلى أهمية التنوع بكونه ضرورة إنسانية ومتطلباٍ اجتماعياً.بالإمكان أن أعرف التنوع الثقافي بأنه هو الوضع الطبيعي الناشئ من وجود الثقافات التي لا تحصى، والذي يستتبعه الاعتراف بالثقافات على مختلف أنواعها؛ في حقها بالوجود والتعبير عن ذاتها وحماية مكوناتها، على المستوى المعرفي والفلسفي والقانوني، وتجريم من يصادر أية ثقافة؛ أخلاقياً وقانونياً.

التعددية الثقافية:
في سلّم الوعي بالتنوع الثقافي؛ والذي هو واقع قائم في الوجود الإنساني، وعند دخولها في درجة التشريع القانوني؛ إن على مستوى الدول، أو في إطار الأمم المتحدة، نشأ ما عرف بالتعددية الثقافية، والتي تعني.. الإطار القانوني لتمكين التنوع الثقافي بين الأفراد وفي المجتمعات والدول.

فلسفة التنوع الثقافي
رغم تعدد تعريفات الفلسفة؛ إلا أنها تصب في غالبها حول أمرين مهمين؛ هما:
- البحث في ماهية القضية.
- المآل الذي تؤول إليه القضية.
وقضيتنا هنا هي فلسفة التنوع الثقافي، ولذلك يمكن القول: إن فلسفة التنوع الثقافي هي البحث في الجذور والمنطلقات التي يرتكز عليها هذا التنوع، والمآلات التي يؤدي إليها. وبالتالي لن نعمل على استقصاء أنواع الثقافات وعمليات التثاقف بينها، إلا بمقدار ما يخدم فلسفته.

دوافع التنوع الثقافي
التنوع الثقافي ليس وليد تحرير فلسفي، بحيث إن الفلاسفة قاموا بالتنظير له، ثم نزل إلى شارع الناس ليتمثلوه، بل هو قد نشأ من البشر ذاتهم، أولاً بصفتهم الفردية، وإن كانوا يعيشون في مجموعات أو مجتمعات، فالإنسان كائن ـ بحكم جبلّته ـ لديه القدرة بأن يكون مختلفاً، والاختلاف هو سر عمران الوجود، فالحيوانات منذ وجدت تعيش في حالة رتيبة، لا يكاد تجد بين مجاميعها المتباعدة فرقاً، إلا بحكم تأثير التنوع البيئي عليها.أما الإنسان فقد أبدع في مسكنه، وتنوع في ملبسه، واختلف في مأكله، وتفنن في طرق عيشه، وقد تداولته الفضائل والرذائل بين أطرافها، فهو ما بين إنسان رحيم إلى وحش كاسر، ومن شخص موادع إلى فارس محارب، ومن سيد مهاب الجانب إلى عبد مستضعف.وقد تعددت رغباته، وتنوعت آماله، واكتنف الفضول حياته، وكلما صعد في التحضر درجة انفتح له من الحاجات ما لا يحصى عدده من أداء طرائقها.كل ذلك جعل منه كائناً يحكي قصة التنوع الثقافي.
والإنسان هو كائن مثقف قبل أن يعي معنى الثقافة، بل قبل أن يدرك الاختلاف بين أفراده، وقبل أن يفهم معنى ذلك الاختلاف وكنهه، والمآل الذي يؤدي إليه، فالوعي حالة متقدمة في الجنس البشري، والتنوع قد نشأ نتيجة حاجة الإنسان إليه، فالإنسان البدائي وهو ينوّع في اختيار السكين الحجري الذي يدافع به عن نفسه، أو يهجم به على فريسته، أو يجتز بها قوته، لم يكن يعي سبب اختياره هذا، إلا بكون فطرة الحاجة قد دفعته إليه، فضلاً أن يعي بأنه يؤسس لثقافة ما، أو فلسفة يتبناها أحفاده باسم التنوع الثقافي.
وإن كانت الحاجة قد دفعت الإنسان إلى إيجاد ثقافته وتنوعها، فإنه كذلك كان مدفوعاً نتيجة حبه للتملك، فحب التملك هو غريزة أخرى دفعت بالإنسان إلى أن ينوع في ثقافته، فلما ابتدع الإنسان أدواته الأولى، كان عليه أن يحتفظ بها، ولا يسلمها لغيره، فهو سيحتاج إليها مرة أخرى، تماماً كما كان يحتفظ بقوته، فهو لا يريد أن يسيطر عليه شخص آخر. وهذا ما تطور عبر حقبه التأريخية التالية إلى ما يعرف اليوم بالملكية الفكرية.
حب المغامرة والفضول من أهم الدوافع التي أدت إلى التنوع الثقافي، فالإنسان جُبل على المعرفة، وهو لا يرضى أن يقف على حد معين، فكل يوم يبحث عن جديد، يروي به ظمأه الأنطولوجي، ويشفي به غليله الأبستمولوجي. والفضول آفته التقليد، نعم لقد اتخذ الإنسان التقليد إطاراً من أطر تنظيم الحياة، لكن إن قارناه بمغامرة الفضول، لوجدنا الإنسان قد لجأ إليه مضطراً، وإلا فهو ليس حتماً في حياته كحتمية البحث عن الجديد، الذي تتخلق الثقافة في رحمه.
ولذلك يمكن القول: إن الفضول هو الرحم الذي تنبلج الثقافة منه، بينما التقليد هو الماعون الذي يحافظ عليها، فالثقافة تتجاور في التنوع بنظام التقليد، إلا أنها لولا الفضول والبحث عما هو جديد ومغرٍ في الحياة لما كان هذا التنوع أصلاً.
وتشير المدونات الحجرية الأولى إلى أن الإنسان كان مولعاً بالفن منذ استوى عاقلاً، فبكون الإنسان يدون شيئاً من أحداث يومه، فهو بالواقع كان يريد أن يسجل تلك اللحظة المبدعة في حياته، والتي تشكّل له روح الفرادة، واليوم نحن نعد تلك التدوينات عناصر ثقافية، ندرجها ضمن فلسفة التنوع الثقافي، والتي لم تكن حينها تخطر على بال ذلك الإنسان. فدائماً اللحظة المكوِّنة للإنسان تسبق وعيه وفلسفته ودينه وحضارته، بيد أنها تبقى اللحظة المؤسسة.
الجمال هو الآخر شد الإنسان إلى وعيه، فأورثه ثقافة تحكي لنا نشأته الأولى، فحب الإنسان لجمال الأصوات في الطبيعة أدى إلى نشوء فن الموسيقى وتنوع ألحانها، وهز الطبيعة لكيانه تحول إلى حركات راقصة، كوّنت فن الرقص. وكذلك هو الحال بالنسبة للرسم، فرغبة الإنسان أن يحتفظ باللحظة الآسرة؛ دعاه إلى رسمها، وهكذا نشأ فن الرسم العظيم.
وصفوة القول.. إن التنوع الثقافي ليس تواطؤا اجتماعياً، بل هو مكوّن أساس في النفس الإنسانية، وإغفاله هو إغفال لحقيقة النفس، وإقصاؤه هو إقصاء لها.

التنوع الثقافي والدين
عندما ينظر للدين في موضوع التنوع الثقافي؛ فإنه كثيراً ما يوجه له الاتهام بممارسة الإقصاء، وبطبيعة الحال لا يمكن أن ننفي ذلك الاتهام عنه كليةً، فلطالما تم عبر الدين القضاء على ثقافات عديدة، وارتكبت باسمه مآسٍ فظيعة، ذهب ضحيتها آلاف البشر، فالدين –على ما يؤول إليه– يعتبر نفسه هو الحقيقة المطلقة والوحيدة، ويطالب من أتباعه أن يُسْلِكوا البشرية في نهجه، ولذلك تحت وطأة فأسه تتحطم الكثير من التمثلات الحضارية والتنوعات الثقافية، باسم محاربة الضلال، والقضاء على الكفر، فكم من تماثيل حطمت، وعادات عطلت، وطقوس ألغيت، بولوج الدين الجديد إلى حمى ثقافات أعرق منه، وأرسخ في الوجود، وتحمل من الإبداع والتميّز ما يستوجب على البشرية الحفاظ عليه. وهذا ليس حكراً على دين دون دين، بل مارسته كل الأديان تقريباً، ولا يتنازل أتباع الدين عن هذه الممارسة إلا تحت ضغط الواقع فقط، أو بعد تحولهم إلى أقلية تريد أن تحافظ على وجودها.
ورغم كل ذلك.. لابد أن ننظر إلى الدين بإنصاف، وذلك أن الدين ـ أي دين ـ في نشأته الأولى؛ أي في زمن مؤسسه أو نبيه، يدعو إلى الحرية والتعددية، وذلك لكي يفسح لنفسه مجالاً من الانتشار، وتصبح هذه اللحظة مؤسسة في الفكر الديني، وتدخل ضمن نصه الأساس، بحيث لا يمكن محوه، وإن حصل تجاوز له.
ففي الإسلام ـ مثلاً ـ عبر القرآن؛ لا نجد أية إشارة إلى الإلغاء الثقافي، نعم هو جاء ثورة توحيدية على الوثنية، لكنه لم يعادِ الفن، بل لم يؤمر بإزالة التماثيل إلا ما كان معبوداً منها من دون الله، ولم يحطمها إلا بعد أن تخلى أتباعها عنها بالدخول في الإسلام، فسعى عُبّادُها بالأمس إلى إزالتها، بل نجد في القرآن إشارة إلى حضور التماثيل في المجتمع النبوي، وطبعاً القرآن لم يذكرها بكونها معبودة، إلا أنه ـ بهذه الإشارة ـ لم يمنع وجودها لأغراض أخرى، اليوم نحن ندرجها ضمن الاعتراف بالتنوع الثقافي، فقال عن النبي سليمان: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].
وسنجد هذا الاعتراف في أعمق مداه عندما اعترف بوجود الأديان، وأن أمرها إلى الله فهو وحده من يفصل فيها، قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الأنبياء:17]، ويعتبر القرآن التنوع سنة إلهية، فقد قال الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم:22].
ما يحصل في الأديان أنه بعد لحظة التأسيس ورحيل المؤسس؛ يبدأ التنازع بين الأتباع، مما يؤدي إلى انتصار كل فريق على الآخر بأن الحق لديه، وأن من خالفه على باطل، وبذلك يبدأ الإقصاء، وفي أتون الصراع تنشأ عقيد رفض التنوع بكل أبعاده؛ وفي مقدمتها التنوع الثقافي، ويحل محل ذلك عقيدة الفرقة الناجية. فتصبح هذه العقيدة أحد مكونات الدين العتيدة.فإذاً.. رفض التنوع الثقافي لم يكن من أصل الدين، وإنما هو بسبب الصراع الذي يكتنف أتباعه، سواءً كان صراعاً داخلياً بين أصحابه، بحيث كل جماعة تصبح فرقة تحتكر الحق لنفسها، أو صراعاً خارجياً مع الخصوم، وغالباً ما يحصل هذا بسبب العامل السياسي، الذي يسخّر الدين لأجل متطلبات الدولة والاجتماع.أمرٌ آخر علينا أن نلحظه في الدين.. وهو أنه رغم الاختلاف الساعي بشدة إلى إقصاء الآخر، إلا أن هذه الاستراتيجية أوجدت من حيث لا تريد سبيلاً للتنوع الثقافي، فكل دين؛ بل كل فرقة، تبذل جهدها لكي تبقى، وبقاؤها يعني أضافة إلى التنوع الثقافي، والتحدي كثيراً ما يؤدي إلى الحفاظ على الذات.والتحدي لا يكون فقط أمام الخصم الديني، وإنما أمام تطورات الاجتماع البشري، فقانون التطور يعمل على تجاوز ما ليس بعملي في الحياة، فصمود الأديان والفرق أمام تحديات الحياة بذاته، هو فضل على التنوع الثقافي يحسب لها.وهذا التحدي أدى إلى اتباع أساليب ومناهج وأدوات تبقي الدين حياً، ترسم كل ذلك في فنون وفلسفات وعقائد وأفكار تحكي قصة التنوع الثقافي، فأنت عندما تدخل كنيسة يبهرك ما تحمله من رموز ودلالات دينية، أصبحت معالم ثقافية، بل أصبحت كل كنيسة هي معلم ثقافي له ملامحه التي تختلف عن ملامح أختها من الكنائس، وهذا التنوع يزداد كلما انتقلنا إلى دور العبادة في الأديان الأخرى.وهكذا هو الحال.. لو نظرت إلى الإرث الكلامي والفقهي في الدين الإسلامي؛ لتبين لك حقيقةً أنه يحكي فلسفة عميقة للتنوع الثقافي، هذه الفلسفة شكلت حلقة من حلقات التفكير الإنساني وكشفاً عن مرحلة التنوير العالمي.
إن هذا التنوع الثقافي لا يظهر فقط في الأعمال الكبرى التي خلفتها الأديان، وإنما أيضاً في نمط العيش البسيط، بداية من القربان الذي كان يقدّم للآلهة، إلى كيفية دفن الموتى، وهو ما احتفظت به المقابر والمواقع الآثارية.

التنوع الثقافي والفلسفة
الفلسفة هي المجال الرحب لمعالجة الأفكار واستيعابها، ولذلك من الطبيعي أن تؤمن بالتنوع الثقافي، وأن تعمل على التنظير له، وعلى تذليل الساحة الاجتماعية لقبوله، لكن خط سير الفلسفة ليس واحداً، فكما أن البشرية شهدت قفزات في التقدم بسبب تحرير الفلسفة للحقل البشري، فإن البشرية كذلك قد نكبت بالتنظيرات الفلسفية، فالتنظير الفلسفي للعنصرية، وما أفرز عنه من النازية المقيتة ليس عنا ببعيد.
وبطبيعة الحال.. لم تقم الفلسفات ـ حتى الآن ـ بمعالجة موضوع التنوع الثقافي، لكنها تحمل أفكاراً مقاربة لذلك، فعلى سبيل المثال، لو أخذنا الوجودية، وهي فلسفة أقرب إلى التيار الفكري منها إلى التنظير الفلسفي، فسنجد أنها تنطوي على نظرة متناقضة لهذا التنوع، فبكون الوجودية تقدس الفردانية، وتسلب العادات والتقاليد أية قدسية، بمعنى أن الوجود ما تصنعه بنفسك، لا ما ترثه عن آبائك، فهي قد عملت من جهة على الإبداع الفردي للثقافة، فكما سبق أن الفرد هو المنطلق الأساس للثقافة، فتحرير الفرد من قيوده الاجتماعية أعطى الإنسان الدافع لكي ينتج فكره وفعله، وهذا الفعل بدوره يتحول إلى ثقافة، فمهما رأينا من الوجودية تهميش العادة الاجتماعية –الحاضنة للثقافة وتنوعها– فإن تلك الممارسات الفردية ستتحول إلى عادة، والحياة لا تحكمها فلسفة واحدة، بل الفرد لا يمكن أن يكون أسير فلسفة واحدة، والدليل أن الفلسفة الوجودية تحولت إلى موضوع ثقافي من حقه أن يعيش مع الفلسفات والأفكار الأخرى، دون أن تزيح أو تزاح من المعترك الفكري.
فإذاً.. الوجودية وهي تلغي الالتزام الثقافي المتداول في المجتمعات؛ تؤسس في الوقت نفسه تعدداً يتولد باستمرار مع أي ابتداع يسلكه الفرد في حياته، ولذلك فإنه يمكنني أن أقرر أن أية فلسفة إقصائية تندحر أمام التنوع الثقافي.ولآخذ مثلاً على ذلك الشيوعية.. فلم تعرف البشرية فلسفة مثيلاً لها في الإقصاء، سواءً على المستوى الفلسفي النظري، أو التطبيقي العملي، وإذا كان كثير من الفلسفات لم يحظ بتسنم القيادة السياسية، فإن الفلسفة الشيوعية قد تمكنت من الحكم لما يقارب ثلاثة أرباع القرن، وكان سبب سقوطها هو "العنف الثوري" الذي استعملته في الإقصاء. فعلى المستوى الفلسفي.. فإن الشيوعية تقوم على الديالكتيك في الاجتماع البشري، وأن المكوّن الاقتصادي هو الأساس في تحريك البشر، وبالتالي نزعت هذه الفلسفة أي بُعد آخر يمكن أن يكون مكوّناً ثقافياً، تماماً كما فعل فرويد في تحليله النفسي في جعل الجنس هو المحرك الأول لحياة الإنسان، إن هذا النزوع نحو الجذر الأوحد للمحرك البشري الأول، يجعل كل تنوع ثقافي هامشياً، ولا اعتبار له، في حين أن هذا لا يمس فقط التعددية الثقافية التي يمكن أن يتواطأ البشر على التأسيس لها وفق القوانين والمواثيق الدولية، وإنما يجتث التنوع الثقافي من جرثومته، ويجعل الكائن البشري أقرب إلى الحيوان غير الواعي، الذي تحركه شهوة المال.
وهذا ما لحظناه في التطبيق العملي للشيوعية، أو في الأحرى بمقدماتها الاشتراكية، وذلك عندما قامت الثورة البلشفية وتشكل الاتحاد السوفيتي بقوة النار، لا برغبة العمال، فإنه لم يجد أمامه إلا تصفية كل ما يخالف "ثقافة الحزب" الشيوعي، فتمت تصفية آلاف البشر بحجة إزالة "الثقافات الرجعية" التي تحجب "شمس الشيوعية الإنسانية" عن الشروق، وأن إزالة الأديان والفلسفات والنظم القديمة لابد من حصوله.والشيوعية بشرت كغيرها من الأديان والفلسفات بأنها هي مآل العالم وقدره المحتوم، وهي الجنة الموعودة، وما عداها فجحيم، وقد عملت الشيوعية على إزالة هذا "الجحيم" بجحيم النار والحديد.
وأما الفلسفة الرأسمالية فقد دشنت مشروعها على أرض الواقع بالاستعمار الذي استعملت فيه كافة الأدوات الإقصائية من الفكر والإعلام إلى السلاح والاقتصاد، وقد ابتدأت ذلك بتحطيم الثقافة المسيحية في الغرب نفسه، وطبعاً لا يمكنني أن أنكر السيرورة التأريخية في جدل الأفكار، وفي نقد الدين حتى يتم الكشف عن بنيته الأولى، وهذا حق معرفي، بل ضرورة أبستمولوجية على المستوى الإنساني، لكن ما تم لم يقف عند هذا الحد، بل تحول إلى تقديم الدين بأنه عنصر للتخلف والظلامية، وتم التغافل عن كون الحضارات كلها تقريباً قد قامت على مشكاة الدين، تماماً كقيامها على حواف الأنهار وهياكل القبور.
ومن التناقض الذي وقعت فيه الرأسمالية بوجهها الإمبريالي أنها استأصلت الدين من حركة الاجتماع في أوروبا، وصدرته إلى الخارج، حيث أصبح الدين المسيحي هو الصليب الذي يحطم به القوى المعارِضة للاستعمار؛ لاسيما تلك التي تتكئ على الدين، وفي مقدمتها نشر التنصير في القارتين الإفريقية والأميركية.
ولما غلب التوجه الليبرالي والنزعة العلمانية على المجتمعات الغربية، وفي حمأة التغيرات الاقتصادية التي صاحبت الحرب الباردة مع الشيوعية، ومع تغيّر المزاج المعرفي للشعوب، فقد تراجعت الرأسمالية عن حدتها الاقصائية للثقافات الأخرى، ولكنها بدلاً من التوجه نحو النزعة الإنسانية، فإنها اتجهت نحو الثقافة التي فرضتها بحركة السوق الحر، وذلك بتشيئ الثقافة، ونعم.. قد تم اعتماد التنوع الثقافي لكن ليس بكونه بُعداً إنسانياً عميقاً، يتعلق بجوانب نفسية وجمالية وبيولوجية، وإنما بكونه سلعة يجوز الاتجار بها.
عملت فلسفة الرأسمالية الموحشة في تحويل المعاني إلى أشياء مادية تقاس بالنقود؛ على تهديد الثقافات التي انبت على جوانب نفسية ومعرفية أخرى في الإنسان، فقد أصبحت هذه الثقافات مهددة بالزوال تحت وطأة قانون الربح والخسارة، ولذلك فإن ما تعانيه الثقافات الإنسانية في ظل الرأسمالية المتوحشة لا يقل بحال عمّا عانته من قبل في ظل الأديان والفلسفات الاستئصالية.
ليس غرضي هنا أن أتتبع كل الفلسفات وموقفها النظري والعملي من التنوع الثقافي، فهذا يخرج عن طبيعة الورقة والوقت المتاح لها، وإنما أكتفي بهذه المعالجة لتقديم المثال عن موقف الفلسفة من التنوع الثقافي، فضلاً عن التطلع إلى التعددية الثقافية.

التنوع الثقافي ما بين صدام الحضارات والحوار بينها
تبلورت فلسفة صدام الحضارات على يد صمويل هنتجتون، الذي نشرها في منتصف تسعينات القرن الماضي، ولابد من النظر إلى دوافع هذه الفلسفة التي تقوم أولاً على أنقاض الشيوعية بكونها أحد طرفي الحرب الباردة، وبنظر هنتجتون أن العالم لا يمكن أن يخلو من صراع، وسيكون الوريث لهذه الحرب هو صراع الحضارة الغربية مع الحضارة الإسلامية، بالدرجة الأولى، ثم مع الحضارة الصينية بالدرجة الثانية، وهو يحدد بوضوح أن الصراع لا يقف على قاعدة سياسية واقتصادية بقدر ما يقف على قاعدة ثقافية ببعدها الديني(1).
والدافع الثاني وهو المباشر؛ التنظير لفلسفة نهاية التاريخ عبر صدور كتاب مخصص في هذا الشأن لفرانسيس فوكوياما(2)، والتي تقول بأن العالم الرأسمالي الغربي بعد انتصاره على الشيوعية، التي نشأت بالأساس خصماً له، قد أصبح حقيقة واقعة، وبأن الوجود العالمي قد تقرر بخاتمية الرأسمالية والليبرالية الغربية، ومعنى كلامه.. أن كل الثقافات الأخرى ستخضع لهذه الثقافة، في ظل تصاعد حضاري كوني مفروغ منه. مما حدا بهنتجتون بعد حوالي خمس سنوات من إصدار فوكوياما لكتابه أن يطيح بنظرية نهاية التاريخ، ويقرر أن الصراع لابد منه، وأن المعركة لم تحسم بعد.
في ظل هذا الطرح المتطرف لكلا النظريتين برز طرح آخر، وهو ما عرف بحوار الحضارات، والذي ملخصه بأن العالم المترامي الأطراف والمتسارع في النمو لا يمكن أن يرضخ لثقافة واحدة، فضلاً أن تكون الرأسمالية الغربية، ولذلك عليه لكي يعيش في سلام أن يتبنى مبدأ التفاهم بين الحضارات، وذلك عبر الحوار بينها.
هذا أدى إلى خلق أرضٍ جيدة لنمو فكرة التنوع الثقافي، وطرحها بشكل وثيقة دولية تضمنت ما يعرف الآن بالتعددية الثقافية.
وعلى المستوى الإسلامي.. فإن مفهوم حوار الحضارات تعرض إلى التسييس وردات الفعل الآنية، وذلك عندما رفعت إيران لأغراضها سياسية شعار "حوار الحضارات"، وتمت مواجهتها من بعض الكتل السياسية العربية بالتشكيك في نواياها. لكن يبدو أن ذلك أثر بشكل لا بأس به في الانفتاح الذي تشهده منطقة الخليج العربي، مما دفع إلى تداول مفهوم التنوع الثقافي، وهكذا نجد أن الصراع؛ فضلاً عن الجدل، حول الثقافة يعمل عمله في تطور المفاهيم وتبلورها، وقد يؤدي في القريب الآتي إلى تبني استراتيجية التعددية الثقافية، بعد أن مر على المنطقة الصراع المذهبي المرير، الذي لم يقف عند حد إقصاء المختلف في المعتقد داخل الدين الواحد، وإنما وصل إلى الاقتتال الدامي الذي ذهب ضحيته آلاف البشر بأدوات قتل رهيبة؛ منها تفجير المدنيين داخل مساجدهم ودور عبادتهم، وفي الطرقات والمستشفيات والأسواق.

______

الهوامش والمصادر :

1) انظر: صمويل هنتجتون، صراع الحضارات.
2) انظر: فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ.

خميس بن راشد العدوي
*من ورقة ألقيت في اجتماع الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب الذي المنعقد بالعراق خلال الفترة (25-28 يونيو 2018م)