القصيدة وفنون المجتمع الشعبية
في العادة تعمد الدراسات الثقافية والاجتماعية إلى التعاطي مع التجمعات البشرية من خلال سياقات عديدة، منها : العادات، التقاليد، الحرف، الحراك التاريخي، ولكن ليس من بوابة القصيدة، وهذا ينطبق على المجتمع العماني القديم، على الرغم من ازدهار الأمكنة العمانية بالعديد من مناخات القصيدة وطرائق حضورها، إلا أنها لم تكن مفتاحا لفهم المجتمع، ولم تتوغل الأبحاث والدراسات في فهم النسق المجتمعي من خلالها، بل تم تجاهلها تماما، مع اعتماد المروي منها ـ أي النصوص الشعرية ـ ونقلها إلى سياقاتها المتصلة بالفنون الشعبية، من باب الفلكرة.
النقد الثقافي، الذي يبني منظار استقراءاته أو مقارباته للتحولات المجتمعية في النسق والسلوك عبر التاريخ المكاني، لم تولَ هذا الجانب أهميته التي يستحقها، ولذلك غابت الكثير من الحيوات الجمالية والتراكمية عن الناظر المعرفي، لانطواء صفحات الذاكرة مع رحيل الشخوص حاملة الذاكرات وراصدة المعرفة المكانية وخابرتها عن قرب واندماج، وهذا شكّل خسارة كبيرة، لا ندري كيف تم تفويتها من جانب المؤسسات المعنية، أكاديمية كانت أو ثقافية، ولكن هذا ما حصل على وجه التحديد، هو أنه مرت السنون والعقود، وظلت القصيدة نغما ذاكريا واستذكارا جماليا في المجالس، ولكنها ليست حافزا لفهم المجتمع والمكان.

بين إيقاعين
ثمة إيقاعان نجدهما محفورين في بنية المجتمع العماني القديم، لهما صلة مباشرة بالقصيدة التي شكلت نقطة محورية آنذاك، هذان الإيقاعان هما : الحياة اليومية، والتفاعل الظاهر والخفي مع النص الشعري، وهما اللذان قدما بصورة واضحة نسق الحياة على مستوى مختلف التفاصيل السلوكية والقولية والشعورية والوجدانية والشجنية لدى الأفراد، مما جعل المكان يضج بالإيقاعين، ويتفاعلون معهما.
ربما لا تكون هذه الصيغة التفاعلية بين الإيقاعين واضحة بمعناها الاجتماعي التقليدي، أي المنظور من خلال التعاطي الوصفي السطحي مع النسق الاجتماعي العماني القديم، لكنه من جهة العمانيين أنفسهم متجذر فيهم، يمكن فهم ذلك من خلال ما تذهب إليه أوزان النصوص في صلتها بالفنون الشعبية المرتبطة بها، فالعمانيون لم يصنعوا قصيدة عامية مفصولة عن الفنون التي كانت متعددة بحسب الجغرافيا من ناحية ، والخصوصية اللفظية من ناحية أخرى، فضلا عن المناسبات التي تنتمي إليها تلك الفنون، باعتبار أن الفن الغنائي هو الوعاء، إذا اعتبرنا أن المواقف الحياتية هي المحفز على بناء الشعور المنقلب عن لفظ وصور ذات رسم مخيالي لا يخلو من الجِدّة والفرادة.
إذا كانت إيقاعات القصيدة متصلة - بطريقة ما - بإيقاع الحياة العمانية القديمة، فهذا يحيل إلى استفهامات بحثية ثقافية، ربما هي الأقرب إلى بناء مقاربات تفتح مسارات لفهم النسق الذي وجد العمانيون ذواتهم ينساقون وراء القصيدة لتصنع فارقا في يومهم ويومياتهم، بغض النظر عن الكيفية التي تحصل بها تلك الانسياقات والنتائح التي تحظى بها المعرفة الجمعية من ورائها؛ لكننا لم نحظ بتلك الأسئلة ذات الحس الثقافي، كي يجد المتأخرون جذرا سؤاليا يمكّنهم من البناء عليه، وبالتالي مراكمة أسئلة النقد الثقافي من خلالها.

تفاعل المرايا
بالنظر إلى كون المرايا عاكسة لما يقع أمامها مباشرة، يمكننا اعتبار النصوص الشعرية العمانية القديمة بمثابة مرايا، ولكن تعكس من؟ هي تعكس طرفين في الوقت ذاته، الأول هو الشاعر بمحمولات خصوصيته كاملة، والثاني هو المكان، ولكي نفهم هذا التقاسم الذي يشي بجدلية في المقام الأول، وهو التناقض بين خصوصية شاعر وعمومية تلقّ من واقع عامة الناس، سنجد أن موضوع الشعر الذي يفتح من خلاله الشاعر فكرته، بناء وتفاصيل، هو المجتمع ذاته، حكاية شعرية تبدأ من المكان وتعود إليه، فينشأ تفاعل ما، بعضه عابر، وبعضه ماكن وقارّ في الذاكرة واللسان، بل وتعبر موسيقاه العقود العُمْرية، محافظا على تلك السكينة والجمال والفرادة، ولهذا يمكننا الركون إلى كون ذلك التفاعل مثّل أيقونة قابلة للتأمل فيها ونبشها، ليس من باب الحكاية والمرجعية الزمنية والشخوصية، فهذا ليس مناط هذه السلسلة، بل من حيث فهم الخطاب في تأثيره الذي لم تكن تنكره عين، أو تتجاهله رغبات في فهم نشوء ذلك.
على الرغم من هذا التساكن الشعوري التفاعلي الذي يحمل سمة المرايا بين الشاعر والمجتمع العمانيين على مستوى القصيدة، سنجد أن المرويات عن الشعراء على شفاه سكان المكان قديما تحمل سمات الإخلاص للنص، والانتماء للمعرفة التي تكوّنه، والانسجام المتماهي مع الروح المخيالية التي تضيف إليها اللهجة خصوصية يسهل استنتاجها من كون تلك النصوص لا تزال تعيش بين ظهرانينا حتى اليوم، يتساوى في ذلك ما تم تدوينه صوتيا أو بصريا أو كتابيا، وهذا كله يجعلنا أمام مسؤولية ضخمة، هي محاولة فهم هذه الصلة، وكيفية نشوئها في المكان، مما أدى إلى انجذابات أدت إلى تفاعلات لا تزال تفاصيلها خلف حجب عقود زمنية مضت.

حدس بالتاريخ
هل أشعر بأن نصوص الشعر العماني القديم المبنية على نسق إيقاعي ذي صلة بالفنون الشعبية كان لديها حدس بالتاريخ إلى الحد الذي سكبت منه تفاعلها عبر المرويات الشفاهية؟
على مستوى كون الفنون الشعبية الغنائية حوامل القصائد المنتمية إليها، يمكن اعتبار الرواية الشفهية بمثابة وسيلة، لم تكن تتقصد أن تحدس بالتاريخ كي تنشأ عنها استمرارية للنصوص، بل كان ثمة شغف، فالثلاثية التي شكلت دافعية الاستمرار (المجتمع، الشاعر، القصيدة)، تضافرت في تأسيس تاريخ اجتماعي جمالي نغمي مخيالي مهم، وكانت الغلبة فيه للقصيدة، التي ظلت - على مستوى الرواية - متحررة من الفنون التي تنتمي إليها، ولكنها - في الوقت ذاته - كانت شرعيتها الوجودية وجمالها المتفرد ينبع من استمرارية الفن، وهي التي أوصلت النصوص إلينا ونحن في القرن الحادي والعشرين، ومن حيث لا تدري تلك الثلاثية، تركت للنصوص وشاياتها الخاصة تجاه المكان، لتكون أداة كشف.
لم يكن التاريخ الذي نفهمه في زماننا الآن وعيا وأداة وخارطة حياة، هو الشغل الشاغل الذي وعى المجتمع قصديا دوره الذي سيتحقق من خلال هذا الامتداد عبر المروي، ولكنه بات يشكّل لنا اليوم وجها من وجوه رغباتنا في إعادة فهم الصلات العلائقية بين مكونات المكان، وهو ما نبني - من خلاله - تاريخا خاصا ومختلفا، تكون القصيدة محوره وارتكازه.

استيلاد الخصوصية
بالنظر إلى الخارطة التضريسية لعمان في زمنها القديم، سنجدها متوزعة بين صحراء وجبل وساحل وواحات، ولكل من هذه التضاريس خصوصيتها، من حيث الفونيم الصوتي، أو الفنون الشعبية، وهذا معناه وجود زخم وتعدد في نوع وإيقاع النصوص الشعرية، فضلا عن العادات المتصلة بكليهما (النصوص والفنون)، وهذان العنصران كافيان لتفعيل الخصوصية في تلك النصوص، مما يمكّن من استيلاد خصوصية مبنية على واقع النصوص، وهو نهج لا يمكن الوصول إليه خارج دور المقاربات الثقافية التي تتخذ من النص مدخلا لفهم الفن الشعبي من ناحية، والمجتمع بخصوصيته من ناحية ثانية، أي هناك خصوصية ذات أثر عميق تنشأ من تلاقي خصوصيتين في المكان الواحد، وهو ما فرّطنا في فهمه ردحا من الزمن.

خاتمة
من الملفت للنظر أن النقد الثقافي في السلطنة ظل حبيس ممارساته التقليدية في عملية البحث، وبخاصة ما اتصل من بالمجتمع العماني القديم، وهو ما نظنه قابلا للتغيير، إذا ما وضعنا في عين الاعتبار أهمية فهم الصلة بين القصيدة والمكان، من مبدأ أن الثلاثية تشكل المعنى المعرفي والثقافي والجمالي والفني، بما يصبّ في صالح الأبحاث المستقبلية عن المكان العماني في قِدَميّته.

عبدالله الشعيبي