[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/jawadalbashity.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]جواد البشيتي[/author]
”كل جديد في المعرفة (والفكر) يرتبط، عادةً، باسم شخص (فيلسوف أو مفكِّر أو عالِم..). لكنَّ هذا الارتباط، ومهما كانت أهمية هذا الجديد المعرفي، لا يطمس حقيقة أنَّ لهذا الجديد (أو الإبداع، أو الاكتشاف) بنيته التحتية المعرفية الممتدة في التاريخ، والتي تضافرت أجيال وأُمم وأُناس كُثْر على تطويرها.”
إنَّ أحدًا من الباحثين الموضوعيين في تطوُّر "صناعة المعرفة (بكل أوجهها)" عَبْر التاريخ لا يُنْكر دور، أو أهمية دور، الفَرْد (العالِم والمُفَكِّر والمُكْتَشِف والمُخْتَرِع..) في القفزات النوعية الكبرى التي شهدتها هذه الصناعة؛ لكنَّ هذا الاعتراف، أو عدم الإنكار، لا يعني أنْ يَقِف المرء أمام "الشجرة" في طريقة تمنعه من رؤية "الكُل"، وهو "الغابة"؛ فالقائلون بالليبرالية حتى في "الإنتاج الفكري (والمعرفي)" يَسْعون دائمًا إلى تضخيم دور الفَرْد في كل شيء؛ وكأنَّ "الفَرْد" هو صانِع التاريخ، والقوَّة المحرِّكة له.
البشر في طريقة "إنتاجهم الفكري (والمعرفي)" إنَّما يأتون دائمًا بمزيدٍ من الأدلَّة على أنْ لا فَرْق، من حيث الجوهر والأساس، بين هذه الطريقة، وبين طريقة إنتاجهم المادي (والذي هو الآن، على وجه الخصوص، على هيئة سِلَع). وتأكيدًا وإثباتًا لذلك، يكفي أنْ نتأمَّل جوهر وأساس العلاقة الاقتصادية المتبادلة بين الغرب الصناعي الرأسمالي وبين الشرق (ومنه شرقنا العربي) على وجه العموم، وأنْ نَعْقِد، بعد ذلك، مقارنة بينها وبين العلاقة الفكرية (والمعرفية) المتبادلة؛ فإذا كانت الشركات الغربية الرأسمالية تأتي إلينا بَحْثًا عن "المواد الأولية"، كالنفط، لتعيدها إلينا، بعد ذلك، على شكل سِلَع (صناعية واستهلاكية) كالبنزين، فإنَّ أرباب الصناعة المعرفية (والذين اُطْلِقت على طليعتهم تسمية "مُسْتَشرقون") يأتون إلينا بَحْثًا عمَّا يشبه "المواد الأولية (المعرفية)" في حضارتنا وتراثنا وثقافتنا..، ليعيدوها إلينا، بعد حين، على شكل علوم، أيْ على شكل مفاهيم ومصطلحات ونظريات وأفكار..، حتى أنَّنا نتعرَّف أنفسنا وماضينا وتاريخنا من طريق أبحاثهم ودراساتهم؛ وأحسبُ أنَّ الغرب (بـ"شركاته المعرفية" تلك) قد استفاد أكثر مِنَّا بكثير من "موادنا الأولية المعرفية"، وكان خير مُسْتَثْمِر لها، وفيها.
وفي "الإنتاج المعرفي نفسه"، نرى تماثُلًا في "نقطة الانطلاق" بينه وبين "الإنتاج المادي"؛ وهذه "النقطة" هي "الماضي الذي ما زال حاضِرًا في حاضرنا"؛ فنحن نبدأ "الإنتاج المادي" بمعونة "أدوات (وآلات، وبيئة اصطناعية)"، تضافَرت على تطويرها أجيال متعاقبة، وأُمم شتَّى، وأُناس من أمكنة وأزمنة مختلفة؛ وهذا، بحدِّ ذاته، خير دليل على أنَّ "نقطة الانطلاق" في "إنتاجنا المادي" هي دائمًا "بِنْت تطوُّر تاريخي عالمي أُممي"؛ ونحن نبدأ "الإنتاج المعرفي" بمعونة "أدوات معرفية وفكرية (مفاهيم ومصطلحات ونظريات وأفكار وقوانين مُكْتَشَفَة..)" هي أيضًا "بِنْت تطوُّر تاريخي عالمي أُممي"؛ وهذه "الأدوات" هي جزء لا يتجزَّأ من "البُنْية المعرفية التحتية"، التي منها، أو من بعضها، على وجه الدقَّة، يبدأ العمل الفكري لكلِّ باحِثٍ، ولكل من أتى بـ"جديد معرفي" على وجه الخصوص؛ وإنَّ هذه "البُنْيَة المعرفية التحتية (التاريخية، العالمية، الأممية)" هي الآن على وجه الخصوص أوسع وأشمل من أنْ يحيط بها (أيْ بمنتجاتها وثمارها الفكرية، الموزَّعة في أوعية لغوية عالمية) عِلْمًا أي فَرْد ولو كان بعبقرية آينشتاين؛ وعليه، لا ينطلق الباحث في بحثه إلاَّ من حيِّز معرفي ضئيل نسبيًّا؛ وجُلُّ "أدواته المعرفية" ليس من حاضره، وإنَّما من الماضي الذي ما زال حاضِرًا في حاضره؛ وكثيرٌ من هذه "الأدوات" ليست من صنعه هو نفسه، ولا حتى من صُنْع مكانه وبني قومه.
لا نُنْكِر إبداع المُبْدِع؛ لكن ينبغي لنا ألاَّ نضرب صفحًا عن أمر آخر عظيم الأهمية؛ فالباحِث، أو المُبْدِع لاحقًا، قد توصل إلى كثير من الأفكار الجديدة، والتي منها ابتنى جديده المعرفي، من طريق حوار وجدال ونقاش (مباشِر، أو غير مباشِر) مع آخرين؛ والفكرة الجديدة المتأتية من حوارٍ خلاَّق موضوعي مفيد لا يمكن نسبها إلى طرف فحسب من أطراف هذا الحوار، كمثل بناء تعاون جَمْع من الناس على تشييده حتى أصبح نسبه إلى أحدهم أمرًا مجافيًا للمنطق والواقع.
صناعة المعرفة تكتسب الآن طابعًا جماعيًّا متزايد الوضوح؛ فإنَّ مجموعة من الباحثين هي التي يتضافر أفرادها جميعًا على البحث والتفكير والتحليل؛ وكل فَرْد من أفراد الفريق، أو المجموعة، يتوفَّر على البحث والتفكير في القضية مدار الاهتمام، والتي تُصاغ على شكل سؤال ذكي؛ ثمَّ يَلْتَقون ليتبادلوا النتائج التي توصَّلوا إليها فرادى؛ ثمَّ يتحاورون في هذه الحصيلة، ليتوصَّلوا من طريق حوارهم إلى مزيدٍ من "الأفكار الجماعية"؛ ويستمرُّون في عملهم على هذا المنوال حتى يتوصَّلوا، بصفة كونهم "مُفكِّر جماعي"، إلى اكتشاف معرفي جديد؛ وهذه "الجماعية" هي أرقى أشكال البحث والتفكير والإبداع؛ ولسوف تكون سمة عصرنا الفكري المقبل.
كل جديد في المعرفة (والفكر) يرتبط، عادةً، باسم شخص (فيلسوف أو مفكِّر أو عالِم..). لكنَّ هذا الارتباط، ومهما كانت أهمية هذا الجديد المعرفي، لا يطمس حقيقة أنَّ لهذا الجديد (أو الإبداع، أو الاكتشاف) بنيته التحتية المعرفية الممتدة في التاريخ، والتي تضافرت أجيال وأُمم وأُناس كُثْر على تطويرها؛ فالمُبدِع معرفيًّا لا يبدأ عمله الإبداعي من فراغ معرفي. إنَّ في رأسه، وبين يديه، من المفاهيم والأفكار والنظريات والقوانين.. ما يُمثِّل الأساس لجهده المعرفي الذي ينتهي باكتشاف جديد.
من حيث يدري، أو لا يدري، ساهم أناس لا عدَّ لهم، ولا حصر، ومن حِقَب تاريخية، وأُمم، وأجيال، مختلفة، في جَعْل قفزته الفكرية (وهي كناية عن الجديد الذي أتى به) ممكنة، لا بل حتمية.
"الجماعية في البحث والتفكير والتحليل" تنسجم أكثر مع منطق تطوُّر النظريات نفسه؛ وإنَّ من الأهمية بمكان، في هذا السياق، أنْ نعرف كيف تُوْلَد، وتتطوَّر، "النظريات".
في البدء، تكون هناك "ظاهرة ما" تحتاج إلى التفسير والتعليل؛ ومع اشتداد الحاجة إلى تفسيرها وتعليلها، تأتي "الفرضية"، أيْ "التفسير الافتراضي" للظاهرة؛ ثمَّ تُخْتَبَر هذه "الفرضية"؛ فإذا أتى الاختبار بما يقيم الدليل على صوابها، تحوَّلت إلى "نظرية جديدة".
ومع مرور الوقت، تَظْهَر "نواقص"، و"ثغرات"، و"خلال"، و"أوجه عجز"، في "النظرية الجديدة"؛ فتبدو لنا هذه النظرية "قاعدةً تَكْثُر وتتكاثر استثناءاتها"؛ وينبغي لنا، من ثمَّ، "تفسير وتعليل هذه الاستثناءات".
ومن طريق تفسيرها وتعليلها، تُوْلَد "نظرية (ثانية) جديدة"؛ وهذه النظرية لا تلغي تمامًا النظرية القديمة؛ بل تَدْمِج فيها كل العناصر الجيِّدة والصالحة من النظرية القديمة.
إنَّها "نظرية مُركَّبة"، تُفسِّر وتُعلِّل "الاستثناءات"، وتحتفظ، في الوقت نفسه، بكل ما هو جدير بالبقاء من النظرية القديمة.
ومع مرور الوقت، يَحِلُّ بهذه النظرية الجديدة (المُركَّبة) ما حلَّ بالتي سبقتها؛ ونستمر في هذا "المسار اللولبي الصاعد" إلى ما لانهاية.
إنَّ "النظرية" تظل دائمًا مهمَّة قَيْد الإنجاز؛ فالنظرية "المُكْتَمِلَة" هي "وَهْمٌ خالص"؛ وهذا إنَّما يؤكِّد أهمية وضرورة المتابَعَة الجماعية للنظرية الجديدة في مسارها الواقعي، شأنها في ذلك شأن كل مُنْتَجٍ جديدٍ.