السياق التأريخي لمفهوم التعددية الثقافي
يمكنني القول.. إن مفهوم التنوع الثقافي، لم يكن وارداً في التفكير الفلسفي؛ بما نحن الآن نفكر فيه، ولذلك لم يلق العناية به من قِبَل الفلاسفة، وأول ما ظهر هذا المصطلح في العالم الجديد، وذلك عندما حدثت الهجرة إلى أميركا من الذين يحملون توجهات متباينة، وقد كان التيار الفكري السائد حينها لتحقيق الانسجام بين هذه الفئات المختلفة هو ما عرف بـ"الصهر الثقافي"، فقام هوراس كولين بطرح مفهوم التعدد الثقافي سنة 1924(3)، بيد أنه لم يكتب له النجاح حينها.
ويبدو.. أن مفهوم التنوع الثقافي نما في ظل الحرب الباردة بين معسكري الغرب والشرق، حيث كان من ضمن خطاب التفكيك الموجه إلى الشيوعية بكونها أنها كانت استئصالية لكل ما يخالفها، ورغم ذلك فقد تأخر ظهور مصطلح "التنوع الثقافي"، وكأن التفكير الإنساني كان يتهيأ لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، وقد شكل انتهاء هذه الحرب حداً فاصلاً بين الأيدولوجيات الشمولية والتنوع الثقافي.
لقد تعرضت فيما سلف إلى الموقف السلبي للشيوعية والرأسمالية من التنوع الثقافي، ولكن رغم ذلك لم يعدم العالم من مفكرين وحقوقيين نادوا بضرورة الاعتراف بالتنوع الثقافي، ليس بكونه هو الأمر الطبيعي لوضع البشرية منذ بدأت عاقلة فحسب، وإنما بكونه أيضاً حقاً إنسانياً يجب الاعتراف به.
وهنا أحدد ستة أمور دفعت إلى الاعتراف بالتنوع الثقافي بكونه حقاً إنسانياً؛ هي:
1. تطور الوعي الإنساني، وذلك –كما قلت– لأن الإنسان مجبول على التنوع الثقافي، وهو فيه حالة أصيلة لا يمكن الفكاك منها، وكأية فكرة مهما تأخر الوعي بها، فإن مآلها أن تتبلور في قالب أبستمولوجي، ثم تتحول إلى شأن اجتماعي يتبعه تشريع قانوني، سواءً على مستوى القوانين المحلية الدستورية أو المواثيق والمعاهدات الدولية.
2. تطور نظام الدولة الحديثة، فالتحول من الدولة الكلاسيكية القديمة إلى الدولة الدستورية الحديثة استلزم الاعتراف بكل مكونات الدولة وعناصرها، ومنها التنوع الثقافي، فغالباً ما تنص دساتير الدولة الحديثة على المساواة في الدين والعرق والجنس واللغة، مما استوجب الاعتراف بالتنوع الثقافي لكونه عنصراً أصيلاً في الاجتماع البشري الذي تشمله الدولة بإدارتها.
3. الحروب والنكبات البشرية، والتي اتكأت على تسخير الفوارق الثقافية؛ لاسيما الدينية والعرقية منها، في الصراع، مما تبيّن للعالم أن من أخطر وسائل الفتك بالإنسان هو التطهير العرقي والديني، فكان لازماً على البشرية أن تجرّم هذا التطهير مما أدى إلى الاعتراف بالتنوع الثقافي.
4. الصدام بين الحضارات والحوار حولها، وقد تحدثت حول ذلك في محور سابق.
5. نمو التوجه الليبرالي عالمياً، عاش الفرد دهراً ابناً لجماعته، والجماعة –كما قلت– هي التي تحدد الشكل الثقافي وتحافظ على وجوده، وهي إحدى أسباب التنوع الثقافي، لكنها في ظل الحفاظ على الهُوية تدخل في عراك مع الآخر المختلف، مما يعني أن عليها في حال غلبتها أن تقصي الآخر، وفي حال هزيمتها أن تنصهر في الغالب، ومع هذا الديالكتيك القاهر والأزلي تمكنت الثقافات في ظل الجماعة ومنظومتها العتيدة أن تحافظ على بقائها، بشكل أو آخر، ولقد وجد الفرد نفسه مصهوراً في هذا الصراع يعمل مع الجماعة وتحت قبضتها القاهرة.
ولما ظهرت الرأسمالية بنزعتها الفردية بدأت تظهر الليبرالية التي تقوم على احترام المبدأ الفردي؛ سواء كان دينياً أو ثقافياً، هذا التوجه الليبرالي الذي أخذ في الانتشار بكونه القاعدة الصلبة للتعايش البشري؛ حفّز الكثيرين على تبني التنوع الثقافي، لاسيما تلك الثقافات ذات المجاميع الصغيرة في محيطها، وهو ما أشارت إليه بوضوح المواثيق الأممية بضرورة احترام الأقليات؛ بثقافتها ودينها وعاداتها وتقاليدها وأعراقها.
6. صعود التطرف الإسلامي، على الرغم من الجانب المظلم لهذا التطرف، والذي كتب حوله الكثير، بحيث تم التطرق لكثير من الظروف والأطراف التي ساهمت في صناعته وتطوره، بما في ذلك الطرف الدولي، وبالخصوص الرأسمالي، الذي صادق على "نبوءة" صمويل هنتجتون، رغم كل ذلك.. فإن حركة الإرهاب المتنامية سرّعت من الدفع إلى إصدار الوثيقة الأممية في الاعتراف بالتعددية الثقافية، وذلك بعد شهرين فقط من أحداث 11 سبتمبر 2001م، والتي تعرضت فيها نيويورك وواشنطن إلى هجمات مدمرة قام بها "تنظيم القاعدة".
وبالنسبة للسياق التاريخي الذي مر به التنوع الثقافي عبر منظمة الأمم المتحدة فقد أصدرت اليونسكو عدداً من الوثائق التقنينية في شكل اتفاقيات تعزز التنوع الثقافي بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ وقد جاءت كالآتي.
- 1950؛ اتفاق بشأن استيراد المواد التربوية والعلمية والثقافية "اتفاق فلورنسا"، وبروتوكول نيروبي الملحق به في عام 1976.
- 1952؛ الاتفاقية العالمية لحقوق المؤلف.
- 1954؛ اتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح.
- 1970؛ اتفاقية بشأن التدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة.
- 1972؛ اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي.
- 2001؛ اتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه.
- 2003؛ اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي.
- 2005؛ اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التنوع الثقافي(4).
كما صدر ثلاثة إعلانات بهذا الشأن؛ هي:
- 1966؛ إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي.
- 1978؛ إعلان بشأن العنصر والتحيز العنصري.
- 2001؛ إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي.

إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي
صدر هذا الإعلان بعد أقل من شهرين من هجمات 11 سبتمبر 2001م، إذ اعتمد في 2 نوفمبر 2001م، بباريس، وهنا يمكن لمس الحاجة إلى المعالجة المنطقية لمشكلة الإقصاء التي مورست بحق الثقافة الإسلامية، بالإضافة إلى الرغبة في التخفيف من مشكلة الاستغلال السيء للعاطفة الإسلامية لدى الشباب، التي باتت تقض مضجع العالم الغربي ذاته.
والورقة هنا لا تعنى بتقديم تحليل مفصل لهذا الإعلان، ولكن لابد أن تستحضره وهي تعالج موضوع التنوع الثقافي، وذلك بالإشارة إلى الفلسفة التي يقوم عليها، وأهم ما نادت به مواده.
تعرضت ديباجة الإعلان إلى أهم ثلاثة عناصر تقوم عليها فلسفة التنوع الثقافي.. هي:
1. أن (كرامة الإنسان.. تقتضي نشر الثقافة وتنشئة الناس جميعاً على مبادئ العدالة والحرية والسلام).
2. (أن الثقافة ينبغي أن يُنظر إليها بوصفها مجمل السمات المميزة؛ الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية وعلى أنها تشمل –إلى جانب الفنون والآداب– طرائق الحياة، وأساليب العيش معاً، ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات).
3. (أن احترام تنوع الثقافات، والتسامح والحوار والتعاون، في جو من الثقة والتفاهم، هي خير ضمان لتحقيق السلام والأمن الدوليين)(5).
وقد شملت مواد الإعلان عدة قضايا أساسية في التنوع الثقافي.. أهمها:
- المادة (1) التنوع الثقافي بوصفه تراثاً مشتركاً للإنسانية.
هذه المادة تعتبر أن كل الثقافات مهما تباينت هي ملكاً للإنسانية جمعاء، وبالتالي فإن التعرض إلى إحداها يستوجب استنفاراً عالمياً للدفاع عنها، كما أنه تجعلها كلها على قدم المساواة، وأن التمييز بينهما يعتبر جرماً بحق الإنسانية.
- المادة (2) من التنوع الثقافي إلى التعددية الثقافية.
وضحت هذه المادة الفرق بين التنوع الثقافي باعتباره سمة بشرية وواقعاً للحراك الاجتماعي، وبين التعددية الثقافية التي ينبغي أن تصل إليها التشريعات والقوانين، كما نصت المادة على ضرورة دمج المواطنين في صياغة السياسات لضمان التنوع الثقافي، وأن الطريق إلى ذلك يكون عبر الديمقراطية.
المادة (3) التنوع الثقافي بوصفه عاملاً محركاً للتنمية.
فيها نص على اعتبار التنوع الثقافي عاملاً محركاً للتنمية، ليس التنمية بشقها الاقتصادي فحسب، وإنما تشمل كافة الأوجه الأخرى التي تحقق التكامل في النواحي الفكرية والعاطفية والأخلاقية.
المادة (4) حقوق الإنسان بوصفها ضماناً للتنوع الثقافي.
ترتقي هذه المادة من كون التنوع الثقافي حقاً من حقوق الإنسان، إلى جعل هذه الحقوق هي الضامن الحقيقي للتنوع، وبالتالي فإنه لا اعتراف بالتنوع في بيئة تنتهك حقوق الإنسان.
المادة (5) الحقوق الثقافية بوصفها إطاراً ملائماً للتنوع الثقافي.
هنا نص على أنه في ظل تحقيق فلسفة التنوع الثقافي لابد من ضمان الحقوق الثقافية لكل الفئات البشرية، وأن يوفر البيئة الملائمة لأن يعبر كل شخص عن ثقافته الخاصة، بل ينبغي أن يوفر التعليم والتدريب لكي يضمن استمرار ثقافته، كي لا تتعرض إلى الانتهاك من قبل الآخرين، أو الاضمحلال عبر الزمن.
المادة (6) نحو تنوع ثقافي متاح للجميع.
ركزت هذه المادة على ضرورة توفير الوسائل الإعلامية؛ التقليدي منها أو الرقمي، للتعبير عن التنوع الثقافي، وتوفير الفرص بالتساوي أمام الثقافات المختلفة.
المادة (7) التراث الثقافي بوصفه مصدراً للإبداع.
لا يقتصر الإعلان على الاهتمام بالتنوع الثقافي على المستوى الأفقي، أي الاعتراف به لكل الثقافات القائمة، بل يذهب إلى ضرورة الاهتمام بالمنتج الثقافي عبر مساره التأريخي، فتجري المحافظة على التراث بالتنقيب عنه وصيانته وإتاحته للبشرية، لتنظر إلى مسير تأريخيها، وكيف كان هذا التراث إبداعاً إنسانياً.
المادة (8) السلع والخدمات الثقافية بوصفها متميزة عن غيرها من السلع والخدمات.
أشارت هذه المادة صراحة إلى أن الثقافة؛ وإن اعتبرتها سلعة، ليست مواد استهلاكية، وإنما هي "حاملة للهُوية والقيم والدلالة"، وهي محاولة جيدة، وإن كانت غير كافية، لإنقاذ الثقافة من التشيؤ الرأسمالي.
المادة (9) السياسات الثقافية بوصفها حافزاً على الإبداع.
دعت هذه المادة الدول إلى انتهاج سياسات تضمن التداول الحر للأفكار، وذلك لأجل تمكين الإبداع الثقافي أن يأخذ مكانته المحلية والدولية.
المادة (10) تعزيز القدرات على الإبداع والنشر على المستوى الدولي.
حثت هذه المادة المجتمع الدولي المقتدر على مساعدة العالم النامي لإيجاد صناعة ثقافية قادرة على البقاء والمنافسة الدولية.
المادة (11) إقامة شراكات بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
وهي شراكات تعنى بتعزيز التنوع الثقافي لتحقيق التنمية البشرية الدائمة، وتؤكد المادة على إفساح المجال أمام المجتمع المدني والقطاع الخاص للإسهام في ذلك، وذلك حتى لا يكون حكراً على الحكومات ومرهوناً بتوجهاتها السياسية، التي غالباً ما يهضم حق الثقافات الأقل عدداً، حتى باتت تعتبرها هامشية.
وخصصت المادة (12) والأخيرة من الإعلان لدور اليونسكو، والتي نصت على أنه (تقع على عاتق اليونسكو، بحكم رسالتها ومهامها، مسؤولية ما يلي:
أ) التشجيع على مراعاة المبادئ المنصوص عليها في هذا الإعلان عند إعداد استراتيجيات التنمية في مختلف الهيئات الدولية الحكومية.
ب) الاضطلاع بدور الهيئة المرجعية والتنسيقية فيما بين الدول والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية والمجتمع المدني والقطاع الخاص، من أجل الصياغة المشتركة للمفاهيم والأهداف والسياسات المراعية للتنوع الثقافي.
جـ) مواصلة نشاطها التقنيني وعملها في مجال التوعية وبناء القدرات، في المجالات ذات الصلة بهذا الإعلان والداخلة في نطاق اختصاصها.
د) المساعدة على تنفيذ خطة العمل التي ترد خطوطها الأساسية مرفقة بالإعلان الحالي)(6).
وقد توّج هذا الصعود الإيجابي على المستوى الأممي للاعتراف بالتنوع الثقافي بكونه حقيقة قارة في الواقع الإنساني، وبالتعددية الثقافية في التشريع الدولي، بتخصيص يوم سنوي يحتفى فيه بالتنوع الثقافي فـ(في عام 2001، اعتمدت يونسكو الإعلان العالمي للتنوع الثقافي، وأعلنت الجمعية العامة في قرارها رقم (249/57) يوم 21 مايو يوماً عالمياً للتنوع الثقافي للحوار والتنمية)(7)، وهذا اليوم يعتبر دافعاً مستمراً إلى معالجة أهم قضيتين إنسانيتين في هذا المجال؛ هما:
- الحوار؛ حيث إنه أصبح من الملح أن يقوم الحوار حول التنوع الثقافي، خصوصاً بعدما رأينا تدميراً ممنهجاً على مستوى الجماعات والدول لثقافات لها دور إنساني، بعضها زالت حضاراته، وبقيت معالمه في المواقع الأثرية، وبعضها الآخر لا زالت حضاراته وأديانه قائمة.
إن الحوار المنشود لا ينبغي أن يقف عند التنظير الشكلي، وعلى الرد على القائلين بصدام الحضارات، بل الحوار يجب أن يكون سمة إنسانية، تسري في كل مجريات الحياة، من البيت والمدرسة والجامعة، حتى المؤسسات الدولية والأممية، وأن توضع برامج عملية للحوار، تطرح فيه القضايا ذات الأهمية في هذا الشأن؛ سواء على مستوى الفعل الحضاري بكل أطواره التاريخية، أو على المستوى اليومي المتحرك.
فمن الجيد، بل من الضروري أن يرتبط الحوار بهذا اليوم، وأن يعد له برنامجه السنوي، وأن تتولى الدول طرح برامج حول الحوار الثقافي وفلسفة تنوعه ومشروعية تعدده، لا سيما أن كثيراً من الدول يوجد بها وزارات أو مؤسسات للثقافة.
- التسامح، رغم ما ألقي على هذا المفهوم من توجسات مبررة أحياناً وغير مبررة أحياناً أخرى، ككون التسامح يقتضي وجود ثقافة أصيلة أو سليمة ينبغي لها أن تتسامح مع ثقافة أخرى دونها في الأصالة أو السلامة، وتترك لها المجال بأن تمارس حياتها المحدودة في المجتمع، وفي هذا عنصرية خفية يجب ألا تكون موجودة. رغم كل ذلك فإن استعمال هذا المصطلح مع تجاوز ظلاله السلبية، لا يمنع الفعل الثقافي أن يأخذ دوره الاجتماعي والحضاري.
ولذلك فإن إحياء سمة التسامح بين البشر من خلال الاحتفاء باليوم العالمي للتنوع الثقافي؛ هو ضامن مهم للتعايش السلمي بين الثقافات، وقمين بإبراز التنوع الثقافي في المجتمعات.

قضايا في التنوع الثقافي
التنوع الثقافي شأن إنساني، لا ينتظر الاعتراف به حتى يوجد، وإنما هو يتوالد بتوالد البشر، لكنه يبقى شأناً معرضاً لتناوش البشر في مصالحهم وهوياتهم، ولذلك لابد من تبني قضايا عملية تهم الواقع الإنساني، فالتنوع ليس مجرد افتراض في سماء الوهم، وإنما هو حركة دائبة بحركة البشر، وهنا أطرح بعض القضايا التي أراها من المهم أن توضع لها الأطر القانونية والعملية في سياق واقع التنوع الثقافي وتقنين التعددية الثقافية، لاسيما من خلال شقها الفلسفي؛ منها:

- حاجة التنوع الثقافي إلى تأصيل للحرية
الحرية هي بُعدٌ أصيل في الوجود البشري والوجدان الإنساني، وتقرير الحرية لا يحتاج إلى أبعاد فلسفية، مع أنه قد حصل التعدي على هذه الفطرة، خلال التأريخ الإنساني، إلى درجة وجود نظام الرق، الذي سيطر على البشرية ردحاً طويلاً من الدهر، حتى أصبح كأنه حقيقة مفروغ منها، رغم كل ذلك كانت الحرية تجري في عروق البشر مع دمائهم، فالممارسة الطبيعية للبشر منطلقها الحرية، فكم تغنّى الأدباء والشعراء بالحرية، كما دعا إليها الفلاسفة والمفكرون، وانتصرت لها الأديان والمذاهب، منذ استوى الإنسان عاقلاً، وبدأ يدون حركته اليومية وفعله المعرفي.
ولأجل أن يتحقق التنوع الثقافي فإنه لابد أن تتضمن دساتير الدول على مواد واضحة تكفل الحرية في المعتقدات والأفكار والأديان والمذاهب واللغات والثقافات، بل ينبغي أن تنص قوانين الدول على التعددية الثقافية.
والحرية التي يجب أن يكفلها القانون لا تكون مقتصرة على اعتناق ما ذكر، وإنما يجب أن تكفل أيضاً التعبير عنها، وتداولها ونقدها والاستمداد منها، وأن يسمح لها بالتعبير عنها في مختلف وسائل الإعلام؛ التقليدي والرقمي.

- التنوع الثقافي والمواطنة:
التنوع الثقافي كما يأخذ بعده الدستوري؛ فإنه يعبّر في الوقت ذاته عن وضع سياسي راسخ، يمس مفهوم المواطنة، فالدولة الحديثة تساوي بين جميع ساكنيها، ولا يجوز لها أن تقلل من شأن فئة أو أفراد من مواطنيها، مهما اختلفوا عن عموم السكان.
فالمواطنة لا تقاس بأي اعتبار، إلا باعتبارين؛ هما: الإنسانية والسكنى، وهما ما يتحققان في كافة مواطني الدولة، ولذلك يصبح التنوع الثقافي أمراً مسلّماً به في الدولة الحديثة، ليس بالاعتراف به فحسب، وإنما كذلك بحمايته وتنميته، وتمكين أصحابه في مرافق الدولة أسوة بباقي شرائح المجتمع.
بدون سياسة التنوع الثقافي لا يحصل التواد والتآخي بين أفراد المجتمع، وهذا يستلزم هدم الجدر الاعتبارية التي تفصل بين جماعات الدولة بحسب التبني الثقافي، فيجب أن تضع الدولة برامجها بحيث يمكن لكل فرد أن يحتفظ بثقافته مهما كان حجم الثقافة المختلفة عنه التي يعيش فيها، ولذلك عليها أن تعمل على إلغاء الفواصل الاعتبارية والحقيقية بين الثقافات المختلفة التي تعيش على الأرض الواحدة، ففكرة "الكانتونات الاجتماعية" تتهدد السلم الاجتماعي في الدولة والعناصر الثقافية المكونة له على حد سواء، كما تلحق الضرر البالغ بمفهوم المواطنة، والتي قد تودي به في بعض الأحيان، لاسيما عندما تحصل تدخلات خارجية، تستغل الفوارق الثقافية المتكوّنة بسبب الوهن في الاعتراف بالتنوع الثقافي وضعف تمكينه.
لقد حاولت منظومة الاتحاد السوفييتي أن تصهر الشعوب التي وضعت يدها عليها في بوتقة ثقافة واحدة، ورغم سياسة القبضة الحديدية والعنف الثوري الذي مارسه السوفييت في عملية هذا الصهر، إلا أنه فشل وأدى به إلى التفكك، في حين انبعثت الثقافات المسحوقة من تحت رماد النيران التي أشعلت لحرقها.
وذات الشيء حصل في بعض الدول العربية التي مارست الصهر الثقافي لصالح ثقافة معينة أو مذهب ديني محدد، سواء عن طريق المحاربة للثقافة والمذهب، أو بالإقصاء والتهميش من تولي الوظائف والمناصب أسوة بباقي أفراد المجتمع، وقد أدت هذه السياسة إلى تزعزع أركان السلم الاجتماعي، وظهرت جماعات العنف والإرهاب فيها، كما ظهر من يفجر ويدمر المعالم العبادية والحضارية باسم الدين.
ولذلك فإن عملية الإقصاء والتمييز بين المواطنين بسبب دينهم أو مذهبهم أو ثقافتهم؛ لا تختلف في مآلاتها، سواء قام بها من يحمل لواء المادية الملحدة أو لواء الدين والانتصار للحقيقة الإلهية المطلقة، فكل ذلك هادم لمفهوم المواطنة، ويعتبر وجوهاً لحقيقة واحدة، وهي الدمار الإنساني، وبذلك يصبح التنوع الثقافي هو الضامن الأقوى للدولة ومكوناتها الوطنية.

التنوع الثقافي والهُوية
الهُوية من أهم القضايا التي واجهت المجتمعات، وأخطرها، ولذلك تعرضت –ولا تزال– إلى الانتهاك من قبل السائد الاجتماعي، سواءً على المستوى الديني أو الفكري أو العادات والتقاليد ونحوها. وهذا ما يعبّر عنه أحياناً بأن التاريخ يكتبه المنتصر، فالكتابة لا تقتصر على التدوين في الأسفار والسجلات، وإنما بالمقام الأول هي إعادة البناء الاجتماعي وفق ثقافة المنتصر ودينه ورؤيته للحياة، والانتصار لا ينحصر كذلك في الغلبة في الحروب، وإنما يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأعمق، وهو السيادة الاجتماعية. ويعبّر عنه أحياناً بتقليد المغلوب للغالب، بحسب ابن خلدون، وهذا التقليد غالباً لا ينشأ نتيجة السياق الاجتماعي الطبيعي الذي يعيشه المغلوب في دوائر الغالب، وإنما الغالب يفرض سياقاته التي تدفع المغلوب إلى أن يقلده، لأجل أن يعيش ويواصل حياته.
ولذلك.. فإن على الدولة الحديثة ألا تتبنى سياسة الإقصاء الثقافي بغية سيادة ثقافة بعينها، وكذلك عليها أن تقدم كل الثقافات الوطنية على قدم المساواة، حتى لا يلجأ الأضعف –مكرهاً بوعي أو غير وعي– إلى التخلي عن ثقافته.
إن الحفاظ على كل الأوجه الثقافية في الدولة لا تقتصر أهميته على المجموعات البشرية؛ خاصة الأقليات، في الحفاظ على هُويتها، وإنما هو مهم للدولة ذاتها لتحقق التنوع الثقافي، الذي أصبح يمثل ركيزة حضارية وتنموية واقتصادية، ومثالاً للسلم والانسجام الاجتماعي.
لقد مارست كثير من الدول لتحقق الانسجام الاجتماعي ما عرف بالصهر الثقافي، وهو تبني ثقافة بعينها، على حساب دمج بقية الثقافات في بوتقتها، إلا أنها خسرت كثيراً، أولاً هدمت معطيات حضارية وإنسانية، كان من حقها الطبيعي أن تعيش، كما أنها فرطت في مرتكز تنموي؛ يشمل البناء الإنساني والاجتماعي والاقتصادي، ثم أوجدت الضغائن والشحناء بين المجموعات المكونة للمجتمع الوطني، وانقلب الأمر؛ فبدلاً من الانسجام حدثت الفرقة والتنافر، حتى وصل إلى الاقتتال والاحتراب، بل وصل بعض الأحيان إلى التطهير العرقي.
إن سياسة الصهر الثقافي فشلت ودمرت الكثير من العناصر التي تقوم عليها الدول والمجتمعات، ولذلك فإن بقاء الهُوية والسلم الاجتماعي ليس في الإقصاء، وإنما في الاعتراف بالتنوع والثقافي وتمكينه وحماية معطياته ومنجزاته.

التنوع الثقافي والسلم الدولي
لقد عانت الإنسانية حروباً على طول خطها التاريخي، ولا يمكن الزعم بأن الإقصاء الثقافي هو السبب الوحيد في كل هذه الحروب، لكن لا يمكن نكران أن الثقافة هي إحدى أخطر الوسائل التي استعملت في الحروب، سواءً بصورة دينية أو عرقية، ولعلنا نتذكر جيداً الحروب الصليبية الدينية، وكذلك التوسعات التي قامت بها النازية على أسس عرقية.
كانت الدولة تنشأ على حد السيف، وفق سياسة التوحش، ولا يكاد أن تشذ عن هذا السبيل دولة ما؛ صغرت أم كبرت، حتى بات التنظير للإرهاب المعاصر قائماً على هذا الأساس، لكن هذه العقيدة الحتمية التي تلبست بالبشرية ليس بالضرورة هي حتمية كونية، بمعنى أنها ليست قانوناً صارماً في تجمع الكيانات الإنسانية كالجماعات والدول، وتعاملها فيما بينهما على أسس سياسية، وإنما يمكن أن ينتج الإنسان المعاصر عقيدته المحدثة في إنشاء الدول والجماعات، دون اللجوء إلى سياسة التوحش، وأتصور أن البشرية بعد الحربين العالميتين بدأت تدرك ضرورة أن تحل الديمقراطية محل سياسة التوحش، ليس في إدارة الدول فحسب، وإنما في إنشائها من الأساس، لاسيما أن الإنسانية في حقبتها الحالية قد توزعها نظام الدولة، وكل ما يمكن حصوله هو اندماج أو اتحاد أو انحلال وإعادة بناء للدول، ومع ترسيخ قيم الحداثة والديمقراطية واستغلال أدوات التواصل الرقمي وآلياته؛ يمكن للبشرية أن تتجاوز حد السيف إلى وعي الكلمة، وذلك لأجل إيجاد فلسفة جديدة وراسخة لتعامل الشعوب فيما بينها.
إن التعددية الثقافية التي تؤطر التنوع الثقافي قانونياً على المستوى الدولي، وبالمواثيق والمعاهدات على المستوى الأممي؛ من الأهمية بمكان لإحلال السلم العالمي.
إن استراتيجيات فرض الحصار والعقوبات الدولية على "الدول المارقة"، والتي يقصد بها تلك الدول التي لا تسير في ركب الإمبريالية العالمية، التي تحكمها سياسة الرأسمالية المتوحشة، لم تعد إنسانية، ولا مجدية حتى بالنسبة لمن يتبناها على المستوى البعيد، ولذلك ستستمر البشرية في صراعاتها القاتلة، التي تذهب ضحيتها الشعوب ومقدراتها الحيوية ومواردها المادية ومكوناتها الحضارية، وستطال نار هذه السياسة كل الدول بدون استثناء، إن لم يسارع عقلاء البشرية إلى وضع حد لهذا النوع من السياسات الدولية.
ولذلك أصبح من المهم البحث عن مخرج، من ضمن هذه المخارج الحيوية؛ تبني التنوع الثقافي على مستوى الإنسانية قاطبة، إن التعددية الثقافية التي تقوم على ركيزة التنوع لا تقتصر على الاعتراف بالمنتج الثقافي ومنجزاته، وإنما هي تؤسس لثقافة جديدة في شتى المجالات، في التنوع الاقتصادي والاجتماعي، وفي الحفر عميقاً في الفلسفة الإنسانية، وفي البحث في تجارب الشعوب، وفي تنظيراتها الفكرية والفلسفية لإيجاد طرائق جديدة تتجاوز حقب الصراع الطويلة، وتعمل على تبني فلسفة التنوع الثقافي وترسيخ وجوده، وحمايته من عوادي الزمن من أن تحطم كياناته وهياكله.

أثر التربية والتعليم على التنوع الثقافي
التربية والتعليم هي أساس تلقين الثقافة ونقلها، ويغنينا عن تأكيد هذا ما درجت عليه البشرية في ذلك، وما ألقت عليه من أهمية، وما قامت عليه الفلسفات والأديان من تنظير وتأصيل، وعلى هذا فإن التعويل على التربية والتعليم في نشر ثقافة التنوع الثقافي، وترسيخ الاعتراف به في التفكير الإنساني، هو حقيقة قائمة، لا أظن يمكن الاختلاف حولها، وإنما ينبغي تبنيها بصورة عملية بين الناس، على كافة المستويات.. المدرسة والجامعة، ودور العبادة، والقوانين والمواثيق.
إن الجرم قائم على فلسفة التربية والتعليم التي دأبت عليها البشرية في مختلف مراحلها، بأنها مسئولة عن معظم عمليات الإقصاء الثقافي، بأية صورة برز بها.. كالصهر الثقافي، أو الدمج الثقافي، أو ذريعة تحقيق التوازن والاستقرار الاجتماعي، أو اتباع الحقيقة الإلهية المطلقة، أو تبني نظرية عنصرية، أو نحو ذلك. ولذلك فإن على فلاسفة التربية والتعليم أن يؤكدوا على أهمية البُعد التربوي والتعليمي في التنوع الثقافي، بكونه حتمية وجودية وضرورة حضارية، وأداة أساسية لتحقيق السلم الاجتماعي، وأسلوب حياة، وبنية راسخة للحفاظ على المنتج الحضاري الذي انطلق بوجود الإنسان العاقل ذاته.
في عالمنا العربي والإسلامي.. ما يواجهنا هو التعليم الديني بكونه مشكلة حقيقية تقوم على أساس ترسيخ الإقصاء الثقافي والمذهبي، ورفض المختلف، وهو ما أسست له رواية الفرقة الناجية، والتي جُعل منها بُعداً إيمانيّاً وفلسفة تربوية ومنهجاً تعليمياً؛ ينشأ عليها الصغير، وينتصر لها الكبير، ولذلك فمن الضروري أن تعاد صياغة فلسفة هذا التعليم، بحيث يؤمن بأن التنوع الديني والثقافي هو واقع مفروغ منه، مقرور بحكم الفطرة الإنسانية والضرورة الاجتماعية والتشريع الإلهي.
مشكلة هذا التعليم.. أنه جاء في أحضان المنظومات العقدية والفقهية، وهما منظومتان نتجتا بالأساس من دوائر الصراع التي قامت بين المسلمين؛ بعضهم البعض، أو بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، ولذلك من الأهمية تحرير فلسفة التربية والتعليم في عالمنا العربي والإسلامي من ربقة هاتين المنظومتين(8)، وإعادة بنائها بعيداً عن الظلال القاتمة لرواية الفرقة الناجية(9).

التوصيات
تطمح هذه الورقة للخروج ببعض التوصيات؛ منها:
1. أن يتبنى الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب وثيقة حول التنوع الثقافي والتعددية الثقافية، تسمى بإعلان بغداد.
2. إصدار كتاب حول التنوع الثقافي؛ بحيث يعالجه من شتى جوانبه، خاصة الجانب الفلسفي والفكري والأدبي والقانوني. يعمل على نشر هذا الكتاب بأوسع مجال.
3. نشر فلسفة التنوع الثقافي في المجتمع العربي، من خلال الندوات والمحاضرات والحوارات التي يتبناها الاتحاد.
4. إصدار بيان من الاتحاد يجرّم فيه كل أنواع الاقصاء الثقافي.
5. دعوة الدول العربية إلى حماية المكتسبات الثقافية جميعها، وتمكينها عبر كل الوسائل المتاحة للنشر الثقافي، بدون تمييز على أي أساس كان، دينياً أو مذهبياً أو عرقياً أو قبلياً أو طائفياً.

ملاحظة : ( الهوامش والمصادر في النسخة الإلكترونية )
* من ورقة ألقاها الباحث في اجتماع الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب الذي المنعقد بالعراق خلال الفترة (25-28 يونيو 2018م)

المصادر والهوامش :

1) انظر: صمويل هنتجتون، صراع الحضارات.
2) انظر: فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ.
3) جمال ناجي، التعددية الثقافية تعبير عن التعايش المشترك بين الثقافات، الغد، مجلة إلكترونية،
http://www.alghad.com/articles/595400 تاريخ الزيارة: 30/ 5/ 2018م، الساعة:1.20ص.
4) موقع الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، موقع إلكتروني عبر النت:
http://www.unesco.org/new/ar/culture/themes/normative-action/cultural-diversity/
تاريخ الزيارة: 4/6/ 2018م، الساعة:2ص.
5) موقع الأمم المتحدة، حقوق الإنسان، مكتب المفوض السامي، موقع إلكتروني عبر النت:
http://www.ohchr.org/AR/ProfessionalInterest/Pages/CulturalDiversity.aspx
تاريخ الزيارة: 4/6/ 2018م، الساعة:2.45ص.
6) المرجع وتاريخ الزيارة نفسهما.
7) اليوم العالمي اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، موقع إلكتروني،
http://www.un.org/ar/events/culturaldiversityday/
تاريخ الزيارة: 11/ 6/ 2018م، الساعة 10م.
8) انظر: خميس العدوي، السياسة بالدين.
9) انظر: خميس العدوي، رواية الفرقة الناجية.

خميس بن راشد العدوي