لا يستحق التأثير عميقا في عالم التشكيل استراتيجيات وبرامج وحياة طويلة الأمد، بقدر ما يتربع على عرشه من هم فنانون من الداخل، من لا يمتهنون الفن بل يعيشونه، ويكون شغفهم الذي يتنفسون بامتلاء. حتى انه لا حدود لهذا الشغف الذي يصل الى درجات قصوى تكون من خلاله ذات الفنان متعلقة بما هو روحاني فتسمو الى أعلى درجات الخلق والابداع بكامل استقلالية من دون قيود حتى انها قد تشرح معاناتها وتكتب ما لم يكتب حولها من خلاله.
ولعل الفنان الأمريكي جون ميشال باسكيا من التشكيليين القلائل الذين تركوا أثرا عميقا في عالم التشكيل من دون المكوث فيه مطولا، حيث غادر الحياة برمتها مبكرا عن سن تناهز 27 سنة والتي كانت كافية ليعيش ويكتب من خلالها بلغة سرية تاريخا متوحشا وفق نظام جمالي خاص. نابع عن روح جامحة تسكنها المتناقضات وتمتزج من خلالها الثقافات –الفودو والكاثوليكية- التي كانت نابعة من أصوله فهو لأب من هايتي وأم من بورتوريكو مع الثقافة الأمريكية وكل ما صاحب الثمانينات من متغيرات وتطورات وصخب.
غادر هذا الشاب الشغوف بالفنون بيت العائلة مبكرا في السابعة عشر ليبدأ رحلته المجنونة بين أزقة الشوارع رساما وموسيقيا وراقصا، ترك أثره على العديد من الجدران هنا وهناك الى حدود سنة 1982 أي في عمر 21 سنة، أين دخل عالم الفن من أوسع أبوابه، حيث عرض في أكبر حدث فني في العالم والذي يقام كل 4 سنوات في دوكيومينتا ومن هناك كانت انطلاقته مع اندي وارهول والذي كانت صداقته معه حجر زاوية في تجربته حيث اكتشفه وتبناه وأصبحا صديقين حميمين تشاركا في العديد من الاعمال فيما بعد.
كانت أعمال باسكيا فيها من كل شيء حوله وبداخله، ومثلما أنها قادمة من الذاكرة هي أيضا تبصّر بالمستقبل، رسم من خلالها الفنان أسلوبا خاصا لم يسبقه إليه أحد كما لم يعادله أحد ، وهذه من نقاط قوته ورغم أن البعض من النقاد كانوا يربطون بين ما يفعله وما جاء به جاكسون بلوك إلا أن هذه الفكرة مغلوطة تماما، حيث يعتبر باسكيا خالقا لما هو جديد ومبتكر ولهذا دعمه وارهول وآمن به باعتباره من الفنان القلائل الذين كانوا يرسمون ويفكرون كالثوار.
سخاء باسكيا الانساني وبحثه الدؤوب عن الحب واتصافه بالعديد من المميزات الجميلة لم يمنعه من أن يرسم بعنف وعمق، بسخرية ونقد حتى أننا يمكن ان نصف رسمه بالمزعج، هذا الفنان الجامح الذي إقتحم حصن التشكيل الامريكي كأول فنان أسود دون استآذن، جلب الانتباه من خلال عمق الطرح الذي جعل كل المتابعين للشأن الفني آنذاك يغادرون مناطقهم الأمنة ويضعون كل ما هو من قبيل المسلمات موضع المسائلة، فاللقاء بأعمال باسكيا يجعلك في مواجهة مباشرة مع ذاتك لأنه يجعلك باستمرار متماهيا مع العدم، غير عابئ بما يجب أن يكون وما هو متعارف عليه، حتى أن قوة أعماله تبرز من خلال ولادتها من الاسفل حيث اللا شيء كيف لا وهي فيها من روح فن الغرافيتي الذي انتشر في امريكا آنذاك ومارسه الفنان مدة من الزمن وفيه من صخب موسيقى ورقص الهيب هوب وهمجيتها، كما من روح الملصق الاعلاني ومن تفاصيل اليومي الأمريكي وما صاحب فترة الثمانينات من تجديد وبحث وإبداع على كل المستويات في شتى أنواع الفنون من مسرح وسينما وموسيقى...فوظّف كل هذه الأدوات والآليات الى جانب ما يحمله الفنان من مزيج ثقافات كما سبق وذكرنا، الفودو والكاثوليكية والامريكية بحكم إختلاط تركيبة الفنان التي ولدت هذا الكم الهائل من الهجانة والتنوّع وبات من المربك فك شفرات أعماله التي إختلطت من خلالها الشخوص المركبة والمتخيلة والتي فيها من الفنان الشيء الكثير، والتي يعبر من خلالها على العديد من القضايا التي تدور وإن تنوعت من حيث الأسلوب والعناصر كلها حول مشاغل الشعب الأسود، كالعنصرية والطبقية والظروف الاجتماعية حيث يقتات من المشاهد اليومية المعاشة عناصره البنائية وخاماته ومحامله المتنوعة فينّوع من طريقة توظيف الجسم البشري من خلال التنويع في وضعياته وأدواره وألوانه والعلاقات التي يحبكها بينه وبين بقية عناصر العمل من طائرات وكلمات وحروف وخطوط ولطخات... يحافظ من خلالها على روح الطفل الذي يلعب حيث يرمي بنا من خلال لوحاته في مساحة من التلقائية والعفوية المدججة بالتفكير ويتركنا في مواجهة تلك الفخاخ التي وكلما استأنسنا لمساحة ما على سطح اللوحة الا وانفجرت في وجوهنا دون رحمة، تلقائية الطفل الجامح والعابث تحمل في طياتها دلالية عدائية ناقدة حينا وساخرة ولا مبالية حينا آخر، وهذه الحالة المربكة تشكل لدى المتلقي ذلك الوعي المتغيّر والمتبدل الذي لم يألفه، فباسكيا لا يعطيك المجال حتى لتصنيفه فهو لا يندرج ضمن أي نسق أو أسلوب واضح المعالم بل هو بصدد خلق ذلك الخاص المتمرد الذي أجزم أنه يحمل في طياته وبين جنباته الكثير من التفكير والكتابة.
باسكيا يكتب فنا ما لم يكتب عن تاريخ الشعب الاسود خاصة في امريكا وما يتعرضون له من مضايقات وقد عاش بنفسه قساوة نعته بالزنجي وربما وجد في تعاطي المخدرات والرسم مساحة لتمرير تلك العدائية والنقد والسخرية من هذه الظواهر بأسلوب لم يألفه المتابعون...حتى ان إمتصاصه لذلك الزخم من المشاعر والظواهر المحيطة به أفرز ثورته الخاصة على مستوى الأشكال والألوان والرسائل، فتميزت ألوانه بالتنوّع ولكنه كان يميل كثيرا الى الاولية منها فيغلب على أعماله الأصفر والأحمر والأزرق مع إستعمال مكثف للأسود والأبيض اللذان لا غنى عنهما وهذا لا ينفي إعتماده على درجات الألوان الثانوية ولكن بدرجة أقل من الأولية. وجاءت خطوطه متنوعة السمك والاتجاهات والتركيبات فجاءت تعبيريته صارخة وفجّة من حيث الألوان التي يلقي بكائناته المتخيلة بينها وبجانبها وبداخلها فتؤثث مساحتها حينا وتحيط بخطوطها الخارجية حينا أخر وتحيط بها من الخارج في كثير من الأحيان، كما من حيث الاشكال التي تبدو في الغالب هندسية ناتجة عن تقاطع وتجاور الخطوط الحادة والمنكسرة والمتموجة، والتي تشكل في كثير من الاحيان ايضا هيئات ادمية وحيوانية وهياكل عظمية كما أسهم وعلامات تقاطع ودوائر الى غير ذلك من الهيئات المركبة و التركيبات والاشكال واللطخات اللونية التي مثلت جميعها عناصر الفنان البنائية التي يمر من خلالها الى أكثر المناطق المحظورة لمعالجتها تصوريا. من خلال جعلها مشبعة بإشارات تلج مناطق العنف والعنصرية وكل ما يسم العالم من عدوانية ولا إنسانية، كل هذا بأسلوب ساخر وهزلي حتى أنه يمكن أن نصفه بالفضّ الذي يثير في النفس الكثير من الاستغراب والاندهاش تجاه تلك الكائنات المركبة والمخترعة بأسلوب غرائبي وبخيال جامح لا يعرف الحدود ولا يمتثل لأي قواعد او قوانين يمكن ان تحدّ ولو بنسبة ضئيلة كميّة التمرّد التي تسكنه تجاه الحصار والهمينة المفروضة على طبقة معينة من الشعب بسبب العرق أو اللون، فرفع الحجاب عن ذلك الجانب المعتم والمظلم بداخله وبداخل الكثيرين من خلاله، وجعله يواجه مخاوفه وعزلته ووحدته. حيث نزع الفنان الى المساحات الكبيرة التي كان يكتبها بكل وعي وإحساس وقدرة على تصعيد دواخله بأسلوب يشبهه فيه الكثير من روحه الثائرة والساخرة، فهندس تلك الفضاءات بلعب جميل بالمفردات التي تكرّرت وتنوّعت وتميزت بقدرة هائلة على توليد الدلالات من خلالها، والتي كان الترميز هو مفتاح الولوج إليها، كما كانت فرشاته حرّة وخيوطه وخطوطه نشيطة ومثابرة على السطح بحيث تربط علاقات متعددة ومتكررة مع اللون لإفراز الأشكال الرامزة والشخصيات الغرائبية التي تقحمنا في موجة من العدائية والحب، الموت والحياة، الحرب والسلام، الالتزام واللامبالاة، النقد والسخرية...والكثير من المتناقضات التي أيقظت داخلنا في مواجهة أعماله ذلك الانسان النائم الذي يدّعي التأقلم مع كل ما يحيط به وهو في حقيقة الامر وحيد وحزين ويكره هذا العالم، ذلك الانسان الصادق الذي ايقضه باسكيا بداخلنا ونحن بصدد اعماله هو من انتج هذا الكم الهائل من الجمال المتوحش والفضّ وحتى المزعج وربما من هنا نفهم ارتفاع قيمة اعمال الفنان بعد وفاته حتى انها إحتلت المراتب الأولى والتي لم تصلها أي من اعمال عمالقة الفن عبر التاريخ.
وحتى معالجته لبعض الاعمال التي مثلت علامة فارقة في تاريخ الفن كالموناليزا او رسمه لبورتريه بيكاسو او وارهول... او بعض الشخصيات في تلك الفترة من مختلف الميادين الفنية والسياسية...كان مميزا بأسلوبه الهزلي الثاقب والمدرك الجيد لما يوجد بداخل تلك الشخصيات بحيث يختزل الامر برمته في خربشات ولمسات بعينها وفي مكانها بما لا يدع مجالا للشك بأنه عبقري. وهذا ما كان يعيه الفنان فكان وكأنه يقول لنا من خلال ذلك التاج الموجود في أغلب أعماله بأنه الملك. والذي أرجعه الكثير من النقاد الى طريقة تسريح شعره وكأنه يرتدي تاجه يوميا فيستعيره في مختلف أعماله ليصبح علامة دالة عليه فيما بعد.
باسكيا الفنان الجامح والفتى الكاريزماتي اللامع كان ثائرا في ميدان التشكيل بروح طفل يركض في اتجاه المنحدر بكل قوة وعفوية وحب ..ذلك المنحدر الذي إنتهى بوفاته في عز شبابه وفي قمة أبداعه بجرعة مخدرات زائدة جاءت نتيجة انعزاله وحزنه الشديد بعد وفاة وارهول بمدة قصيرة ...
جاء من تأثر بباسكيا فيما بعد ولكن لم يكن هناك من يضاهيه ومن يعادله لماذا؟ ببساطة لان هذا النوع من الابداع النابع من قوة الادراك والوعي العميق والحزين بقبح الانسان والعالم لا يمكن ان يعاد انتاجه او استنساخه هو فقط يصفع من يواجهه ويمضي...


دلال صماري
باحثة وتشكيلية تونسية