قراءة في مؤتمر حول "الدور الحضاري لعُمان في وحدة الأمة" بماليزيا
موقع عمان الجغرافي كان له دور بارز في النشاط البحري وفي اهتمام الحضارات القديمة
عُرف عن العمانيين الصبر والتحمل في سبيل لقمة العيش والتضحية في سبيل الدعوة إلى الله

التجار المسلمون بشكل عام والعمانيون بشكل خاص طرقوا أبواب منطقة جنوب شرقي آسيا منذ القرون الإسلامية الأولى
قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
* تنويه: (عزيزي القارئ الكريم: نستكمل معك ما تبقى من حلقات هذا الموضوع والذي بدأناه قبل شهر رمضان المبارك) ..
ـــــــــــــــــ
عقد مؤخرا مؤتمر حول "الدور الحضاري لعُمان في وحدة الأمة" والذي عقد خلال الفترة من 18 الى 20 فبراير 2014م في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا ..
ومن ضمن ما قدم خلال المؤتمر من بحوث وأوراق عمل كانت لنا هذه القراءة في ورقة عمل بعنوان:"دور العمانيين في نشر الحضارة الإسلامية في منطقة جنوب شرقي آسيا من القرن الأول حتى الرابع الهجريين"، للباحثين: حبيب بن مرهون الهادي وخالد بن محمد الرحبي ..
يتحدث الباحثان هنا عن المهارة الملاحية للعمانيين فقالا: عرفت عمان منذ العصور القديمة بريادتها ودورها البحري الملاحي وصلاتها الكبيرة والتاريخية مع الحضارات القديمة، لاسيما الحضارات السومرية والبابلية والرومانية والفرعونية، وغيرها من الحضارات والشعوب في حقب مختلفة، وكان العمانيون في الطليعة بين رواد المحيطات الذين اعتبرت مغامراتهم وأسفارهم مثلا يحتذى في الإقدام والجرأة والشجاعة.
ويشيد الباحث الصيني "يان زون" بالدور بمهارة الملاحين العمانيين حيث يقول:" كما يعرف الجميع أن العمانيين كانوا أمهر وأرفع مستوى في فن صنع السفن وفن ركوب البحار" ويضيف "عبد المنعم عامر":" ولهذا سمي خليج عمان بحق مهد الملاحة البحرية" وقد ظلت المهارة البحرية المميزة رفيقة البحار العماني حيث شهد لهم ابن بطوطة أيضا في فترة لاحقة حيث قال:"وقد كان نواخذة أو رؤساء وربابنة السفن والأساطيل التجارية كلهم عمانيون إباضيون".
* الموقع الجغرافي لعمان:
يقول أحد المتخصصين في علم الجيوبولوتيكا: "أعطني جغرافية بلد ما أحدثك عن تاريخه وأتحسس لك مستقبله" وأن موقع عمان هو همزة الوصل للمواصلات البحرية بين الشرق والغرب، فمن دون شك أن العمانيين قد قدموا مساهمات مهمة وجليلة في مجال خط المواصلات البحرية بين الشرق والغرب"، كما تميزت عمان بخصائص جغرافية فريدة، فهي بإشرافها على الخليج العربي وبحر العرب، تتحكم في المعابر البحرية والتجارية التي تربط جنوب شرقي آسيا بالهلال الخصيب وبلاد الشام، مما يعطيها قابلية للاستقلال والاعتماد على نفسها اقتصاديا، كما أشار إلى ذلك السهيل في معرض حديثة عن الأسباب التي دفعت بعمان إلى الاستقلال عن الدولة الإسلامية، فكان للموقع الجغرافي المميز نتيجة مهمة في التفاعل الكبير بينها وبين الحضارات الإنسانية القديمة.
وقالا: ان موقع عمان الجغرافي المهم قد لعب دورا بارزا في نشاطها البحري، وفي اهتمام الحضارات القديمة بها، وهذا ما ذهب إليه المنذري في قوله: وقد كان العمانيون من أولئك الذين جابوا الآفاق قبل الإسلام بزمن بعيد بسبب موقع بلادهم بساحل بحري طويل. ومن البلاد التي ارتادوها شرق افريقيا ، وجنوب شرقي آسيا وذلك للرابطة البحرية بين عمان وتلك البلاد وهي إطلالها جميعا على سواحل المحيط الهندي، هذا وقد كانت خطوط الملاحة من الموانئ العمانية الى الشرق الآسيوي تمر بمحطات مهمة تتزود من خلالها بالمؤن والسلع المختلفة، وكذلك قامت مسقط بدور مهم في تجارة الشرق الأقصى، فقد كان لها بئر من الماء العذب، كانت تتردد عليها السفن التجارية للتزود بمياهها.
وذكرا بأن من أشهر أسواق عمان التجارية التي كان يتم فيها تصريف منتجات الشرق الأقصى دبا، وجلفار، وإزكي وشبا وكلبا. كما كان لجزيرة قيس(كيش) الواقعة في بحر عمان دور تجاري مهم إذ كانت مقر صاحب عمان، مالك هذا البحر، ومرفأ مراكب الهند وبر فارس. ومن المعروف أن قيس شغلت المكانة التجارية مع بلاد الشرق الأقصى حتى القرن الثامن الهجري.
واوضحا بأنه مما لا شك فيه أن التجار العمانيين تمرسوا في سلوك الطريق البحري الموصل إلى بلاد الشرق الأقصى من جهة وشرق أفريقيا من جهة أخرى، حتى توصلوا إلى معرفة مواطن الضعف فيه، ومواسم مده وجزره، وأوقات هبوب الرياح والعواصف والأنواء فيه، وخصصوا في جزره محطات ومراسي للتميُّرِ والاستراحة.
وحول الصعوبات التي أثرت على توسع العمانيين في نشر الحضارة الإسلامية بمنطقة جنوب شرقي آسيا قالا: رغم أن العمانيين قد عُرف عنهم الصبر في مواجهة عوادي الزمن والتحمل في سبيل لقمة العيش والحياة الكريمة، والتضحية في سبيل الدعوة إلى الله، وحبهم للمغامرة، إلا أنه كانت هناك عوامل وأسباب أثرت على ازدهار تألقهم الحضاري وتأثيرهم الفكري على منطقة جنوب شرقي آسيا، ومن هذه العوامل: الأحوال المناخية السائدة في المحيط الهندي: حيث يتميز المناخ الاستوائي والموسمي السائدين على ضفتي المحيط الهندي بتقلبهما وخطورتهما، فالعواصف والأعاصير سمة مناخية لهذا الإقليم الجغرافي البحري الواسع، والذي كان لزاما على ملاحي عمان عبوره للوصول الى مناطق التجارة بالهند وسومطرة والملايو الصين، فكم من سفن عمانية محملة بمئات الملاحيين وكافة أنواع السلع التجارية كالتوابل والحرير والحبوب، حطمها موج المحيط الهندي، وكم من بقايا سفن في أعماق المحيط ظلت شاهدة على مكابدة الإنسان العماني للحياة، ومجاهدته لأجل العيش الكريم.
وعن طبيعة السطح في منطقة جنوب شرقي آسيا ذكرا بأن الجزر والجبال في منطقة جنوب شرقي آسيا تنتشر بشكل ملفت، مما جعل التواصل بين مختلف شعوبها عسيرا، وبينهم وبين الشعوب الأخرى أكثر عسرا، كما تعد منطقة جنوب شرقي آسيا من المناطق الاستوائية التي تشتهر بوفرة المياه، وغزارتها، كما يسود المناخ الموسمي في بعض أجزائها وكنتيجة لهذا الوضع المناخي تشكلت أودية سحيقة وتضاريس وعرة وأدغال وغابات كثيفة، وأسهم ذلك كله في جعلها بيئة طاردة لا يحبذ الأجانب الاستقرار فيها إلا ما ندر، الأمر الذي شكل عائقا كبيرا أمام التجار العمانيين الذين اكتفوا بالاستقرار على سواحلها وفي موانئها الرئيسية مما قلل من تغلغل المؤثرات الحضارية العمانية إلى داخل البلاد.
اما عن أحوال شعوب منطقة جنوب شرقي آسيا فأشارا الى ان شعوب منطقة جنوب شرقي آسيا تتميز في تلك الفترة بالعزلة والعيش في الغابات والأدغال وقلة تواصلهم مع العالم الخارجي، فلم تكن لهم حضارات معروفة كالصين والهند. كما انتشر بين سكان تلك البقاع المتشكلة من الأدغال والجزر عقائد وأساطير وأفكارا غريبة وعجيبة، وكان من العسير إقناعهم بفسادها وانحرافها، مما صعب على الدعاة ممارسة العمل الدعوي بحرية.
وحول القرصنة البحرية قالا: تعرضت المراكب العمانية لهجمات القراصنة الهنود في القرون الإسلامية الأولى، مما دفع بالأئمة العمانيين العمل على حماية نشاطهم التجاري بإنشاء أسطول حربي قوي يقف في وجه هجمات أولئك القراصنة.
اما المسافة البعيدة والشاقة بين عمان وجنوب شرقي آسيا فقالا: ركب التجار العمانيون السفن الشراعية في رحلات طويلة وشاقة إلى موانئ الهند وجنوب شرقي آسيا والصين، وكانت الرحلة إلى الصين تستغرق عاما كاملا في الذهاب والعودة، ومع ذلك فقد تحمل التجار العرب مشاق هذه الرحلة وذلك لأجل لقمة العيش والحياة الكريمة.
وعن المؤثرات العمانية على جنوب شرقي آسيا فمنها (الدين الإسلامي) حيث تورد بعض المصادر التاريخية إشارات حول وصول الإسلام إلى منطقة جنوب شرقي آسيا في القرن الهجري الأول، وعلى الرغم من قلة هذه الإشارات إلا أنه يمكن أن تسند بالشواهد الأخرى التي تتحدث عن منطقتي الهند والصين كون أنها ترتبط بخط ملاحي واحد كان يسلكه التجار العمانيون والسيرافيون في القرون الإسلامية الأولى، ثم تبعهم الحضارمة وغيرهم من العرب في فترات لاحقة، وذلك على عكس ما قاله ستودارد من أن الإسلام بدأ ينتشر في جاوة وما حولها في القرن الثامن الهجري. وحين يشير هاريسون أن أول دخول لكل من الديانة الهندوسية والبوذية والإسلامية والنصرانية إلى جنوب شرقي آسيا مرتبط بمحاولة تجارية، فإن التجار المسلمين بشكل عام والعمانيون بشكل خاص قد طرقوا أبواب منطقة جنوب شرقي آسيا منذ القرون الإسلامية الأولى، وإن كان الإسلام لم ينتشر بشكل واسع خلال تلك الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي إلا إننا نستطيع أن نؤكد وجوده، من خلال هذه الإشارات السابقة الذكرة.
وقالا: إن الإسلام قد دخل إلى إقليم فطاني عن طريق التجارة في فترة النشاط التجاري الإسلامي، مثله مثل غيره من مناطق جنوب شرقي آسيا، ويُذكر أيضًا أن التجار العرب والفرس المسلمين هم الذين أدخلوا الإسلام إلى تلك المناطق منذ القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي، ولكن يُعزى أهمُّ توسُّع للدين الإسلامي إلى هجرات أهل الملايو (ماليزيا الآن) التي بدأت في القرن الثامن الهجري – الرابع عشر الميلادي، وقد يقول قائل بأنه لو كان للعمانيين تأثير فعليّ واضحة معالمه في نشر الإسلام وحضارته بمنطقة جنوب شرقي آسيا لظل الفكر الإباضي سائدا الى يومنا هذا، وهو ما لا نجد له آثارا في المنطقة حاليا، والإجابة على ذلك تكمن في أن الدعاة العمانيين لم يكونوا إباضية فحسب، بل كان هناك الشافعية يعملون معهم وتحت حماية دولة الإباضية كما نجد ذلك حاضرا في الشرق الإفريقي حينما كان دعاة الشافعية يجوبون دولة السيد سعيد بن سلطان بشرق إفريقيا دعاة للإسلام على الفقه الشافعي، ولم يعترضهم معترض، وهذا دلالة واضحة على ما ذكرناه في مقدمة البحث على تسامح الإباضية مع بقية إخوانهم من المذاهب الإسلامية، بل وكانوا متسامحين مع غير المسلمين من المسالمين، إضافة الى ذلك فإن الدعوة الإباضية في منطقة جنوب شرقي آسيا كانت في العصور الاسلامية الأولى، وبضعف دولة الإمامة في عُمان، ضعفت التجارة العمانية وبالتالي قل التأثير الإباضي على تلك المناطق، وجاء بعدهم شافعية حضرموت الذين أسهموا برصيد وافر في المد الإسلامي على منطقة جنوب شرقي آسيا وانصهرت الجماعات الإسلامية التي كانت على المذهب الإباضي في المذهب الشافعي خلال الفترات الزمنية اللاحقة. وإن كان قد بقي بعض الإشارات التي سبق ذكرها في هذا البحث. ويمكن القول بأن الدعاة الإباضيون قد سهلوا الطريق لمن جاء بعدهم من دعاة الإسلام من مختلف المدارس الفقهية.
.. وللحديث بقية في الاسبوع القادم.