يذهلني جانب من الخطاب الإعلامي المتداول في الميديا العربية مواكبا تلك الهجمة الهمجية التي تشنها الآلة العسكرية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة، بعضنا قفز من مواقف سياسية عارضة إلى نتائج استراتيجة شديدة الخطورة على ثقافة الأمة.
نعم، ثمة خلافات سياسية بين بعض الأطراف العربية وحركة حماس، لكن للأسف، بيننا – كتاب وناشطون – يحاولون استغلال هذه الخلافات ليشيدوا في العقل الجمعي العربي ثقافة جديدة غير تلك الثقافة المستقرة في رؤوسنا عبر أكثر من ثمانية عقود، حيث لا يتورعون الآن عن الدعوة لأن نفسح مكانا في الوجدان الجمعي العربي للدولة اليهودية! حتى أن مالك إحدى الفضائيات طل علينا عبر شاشة قناته ليلقي خطبة عصماء عن إسرائيل الطيبة الودودة، لينهي برنامجه صائحا بأنه يرفع قبعته لإسرائيل وساستها وجنرالاتها !
إلا أن صدمتي كانت أشد حين أبدت مثقفة مبدعة إعجابها بالدولة اليهودية، في الفضائيات وعبر حسابها على الفيس بوك، في الوقت الذي كان جنرالات الدولة اليهودية يذبحون أطفالنا في غزة، ولم تكتف بذلك، بل أفصحت عن كراهيتها للفلسطينيين، وثمة ناشطة سياسية، هي العربية الأشهر الآن في الغرب والأكثر حصدا للجوائز والألقاب على الضفة الأخرى من الأطلنطي، تلك الناشطة أدلت بتصريحات غريبة لقناة إسرائيلية خلال استضافتها في لجنة اليهود الأميركيين بالولايات المتحدة، حيث أوجزت الصراع العربي الإسرائيلي في تلك العبارة: "مشكلة العرب مع إسرائيل تعزى إلى تطرفهم!
وحين سألها مقدم البرنامج :ماذا تعني إسرائيل بالنسبة لك ؟ قالت: دولة على حدود مصر الشرقية !!
هذا المنتج الثقافي الذي تسعى هاتان المثقفتان وغيرهما الترويج له الآن حول إسرائيل المتحضرة والطيبة الودودة يتناقض مع حقائق التاريخ والتي منها شكل العرب على مدار ثمانية عقود ثقافتهم الجمعية تجاه مشروع الدولة اليهودية، فحقائق التاريخ تتحدث عن إسرائيل كمشروع زرعته القوى الاستعمارية في الجغرافية العربية، ولكي يبقى ويتوسع أغمض الغرب عيونه عما ارتكبته العصابات الصهيونية من مذابح في دير ياسين وكفر قاسم، وفي كل المدن والقرى الفلسطينية لترويع أهلها ودفعهم إلى النزوح عن أراضيهم، وهذا شق محوري في الاستراتيجية الصهيونية، التي تتكئ على قاعدة "الإخلاء والإحلال" أي دفع العرب إلى إخلاء قراهم ومدنهم تمهيدا لإحلال اليهود مكانهم.
وبين ظهرانينا الآن مفكر يهودي هو البروفيسور إيلان بابه وهو أحد المؤرخين الجدد في إسرائيل، وخلال رسالة الدكتوراه التي نشرها عام 1988 في كتاب "بريطانيا والصراع العربي الاسرائيلي 1948-1951" فضح "بابه" الأكاذيب الصهيونية التي اتهمت الحكومة البريطانية بمعاداة الصهيونية وإسرائيل خاصة خلال أحداث 1948، وقدم رواية أخرى مدعمة بالوثائق والمستندات أكد فيها أن بريطانيا لعبت دورا محوريا في السماح للحركة الصهيونية بالوجود في فلسطين عبر التطهير العرقي لسكانها الأصليين.
نعم، صدقت الناشطة حين قالت إن إسرائيل دولة على حدود مصر الشرقية، لكنها ليست كأي دولة ! إسرائيل وضع خاص جدا، لا مثيل لها على الكوكب، وربما لو قرأت الناشطة شيئا عن نشأة تلك الدولة؛ لأدركت أسبابا أخرى مغايرة غير التطرف لكراهية العرب لها !
في ثلاثينيات القرن الماضي قال الكاتب مارتن بوبير ـ أحد مؤسسي الحركة الصهيونية ـ حين عدنا إلى فلسطين كان السؤال الملح هو "هل نريد أن نأتي إلى هنا كصديق، كأخ ، كعضو في جماعة شعوب الشرق الأوسط، أم كممثل للإمبريالية ؟ وأظنه كان خيارهم، الأباء المؤسسون لإسرائيل، عفوا، ليس ظنا بل يقينا، أن تكون إسرائيل مشروعا استعماريا إمبرياليا !ولماذا هو يقين ؟.
في كتابه "محاكمة الصهيونية الإسرائيلية" يقول المفكر الفرنسي الراحل روجيه جارودي: خلال وجودي في معسكرات الاعتقال مع برنار لوكاش مؤسس منظمة ليكرا ـ كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية ـ قمنا معا بتنظيم حلقات دراسية سرية طوال الليل لدراسة أنبياء إسرائيل، وبعد فترة بدأت أدركت قيام الصهيونية بتحويل الأساطير الكبرى إلى تاريخ غير صحيح بهدف تبرير سياسة قومية عنصرية للتوسع الاستعماري !
ويستطرد جارودي في موضع تال: وتحولت الأسطورة الكبرى للخروج، النموذج الأول لحركات التحرر العالمي إلى مجرد معجزة على قوة رب الجيوش ورب الانتقام الذي يدعو إلى ذبح الشعوب الأصلية رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا، بل وحتى الحيوانات !
وقد يرى البعض أن جارودي شهادته مجروحة، لقد أسلم، وما اكتفى باعتناقه الإسلام بل شن هجوما ضاريا على دولة إسرائيل وعلى المشروع الصهيوني عبر مؤلفاته، خاصة كتابيه "الأساطير المؤسسة لإسرائيل" و"محاكمة الصهيونية الإسرائيلية" فهل لدينا سواه من شهود ؟
ليس شاهدا، بل أحد أهم المشاركين في التأسيس للمشروع الصهيونيت يودور هرتزل الأب الروحي للدولة اليهودية ! .كتب هرتزل إلى سيسيل رودس ـ أحد كبار المسئولين الاستعماريين في الامبراطورية البريطانية أواخر القرن ال19 وأوائل القرن العشرين ـ لماذا أكتب إليك ؟
ويذيل هرتزل السؤال بالإجابة: لأنه مشروع استعماري، وأنا أطلب منك أن تعطي المشروع الصهيوني كل الثقل الذي تمثله سلطتك "المجلد الثالث من يوميات هرتزل ص 1194".
كان هيرتزل من الذكاء بالقدر الذي مكنه من أن يلعب على وتيرة التناقضات في البيت الاستعماري؛ ليكسب تأييد كل الأخوة الأعداء، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، روسيا، وكان لا يكف عن مغازلة أوروبا الاستعمارية ملحا على الفوائد التي ستجنيها من دعمها للمشروع الصهيوني، ففي كتابه "الدولة اليهودية" قال في نفاق فج: من أجل أوروبا سوف نبني هناك ـ يقصد في فلسطين ـ حاجزا في مواجهة آسيا، سنكون حراس المقدمة للحضارة ضد البربرية !"
والحقيقة التي لا ينبغي لنا نحن العرب إنكارها أن ساسة إسرائيل بعد ذلك كانوا على قدر المسئولية في الوفاء بالوعد الذي قطعه هرتزل على نفسه، أن تكون الدولة اليهودية مخلبا للاستعمار في المنطقة، لحماية مصالحه .
إذا هذا الكيان اصطنعه الاستعمار، ليس في استراليا أو شبه القارة الهندية أو أميركا الجنوبية، بل في قلب جغرافيتنا العربية، ليعيق كل خططنا ومشاريعنا للنهوض وتحديث مجتمعاتنا، حتى لو اقتضى ذلك شن الحروب واحتلال أراضينا وقتل أطفالنا، ضباط وجنود إسرائيل فعلوا ذلك مرارا في دير ياسين وكفر قاسم وقانا بجنوب لبنان عامي 1996 و2006 ومدرسة بحر البقر المصرية التي قصفتها طائرات الفانتوم الإسرائيلية في يوليو 1970، ويفعلونها الآن في غزة، بأوامر من سياسييهم وبدعم من حاخاماتهم الذين يفتون بجواز قتل الأطفال العرب.
تلك هي الحقائق المستقرة والراسخة في ثقافتنا الجمعية، كيف نستبدلها الآن بثقافة أخرى تتأسس على وهم إسرائيل الجارة المتحضرة الطيبة الودودة، عار إن استجبنا لهذه الدعوات المشبوهة !

محمد القصبي