[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
” الكنعانيون الذين منهم الفينيقيون هم من الأرامية والأكادية الواسعة التي تشكل جذر العروبة القديم، والعرب الذين حملوا الإسلام ورايته قابلهم العرب الذين كانوا تحت الاحتلال البيزنطي في سوريا " بلاد الشام" بقبول حسن، وأصبحوا بيضة الإسلام.. وتفاعل الأقوام جميعاً كما تفاعلت الأديان، وتشكل معطى ثقافي عربي ـ إسلامي، فيه عطاء أبناء الديانات السماوية أساس. ”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شغلت قضية فلسطين حيزاً رئيسياً من اهتمام المفكرين والساسة والغيورين على قضايا الوطن والأمة في النصف الأول من القرن الماضي، يوم كان الاستعمار يرتب في الظلام الذي فرضه على البلاد والعباد، مصائر الأقطار والأجيال، ويوزع أدواراً ومهمات على فئات وشخصيات وحكومات، ليصل إلى تحقيق ما يريد تحقيقه، من مصالح وسياسات ومخططات، ويقيم دولة للعنصرية الصهيونية في وطننا وعلى حساب معاناة شعبنا.
وبينما كانت الصهيونية توظف جهد كل فرع وكل شخص، ممن يطالهم تنظيمها ونفوذها، أو يصل إليهم تأثيرها في العالم.. كان التنازع والتنافر على أشدهما بين الشرائح الاجتماعية والقبائل والطوائف، وذوي الانتماءات والرؤى الفكرية والسياسية في الوطن العربي عامة، وفي بلاد الشام بوجه خاص؛ حيث تركز الجهد الاستعماري ـ الصهيوني على إنشاء "وطن قومي لليهود في فلسطين ”على أرضية وعد بلفور 1917//وفي ظل اتفاقية سايكس ـ بيكو التي قسمت البلاد والنفوذ والمصالح وغنائم الحرب العالمية الأولى بين فرنسا وبريطانيا في هذه المنطقة من العالم.
قلة هم الأشخاص الذين قرؤوا ذلك الوعد جيداً، وتوصلوا إلى ما يمكن أن يسفر عنه من نتائج، منذ الأيام الأولى لصدوره، وكان صوت أولئك يضيع في متاهات الوعود البريطانية والصراعات العربية، والتنظيمات الهزيلة التي كانت تنتشر في المنطقة، على أساس من الحماسة والاندفاع والعفوية الصحراوية أو الريفية؛ وتخضع في الأحوال جميعاً إلى عبث أولئك المتمركزين في مواقع القرار، وفي مراكز المدن الكبيرة، ممن يحركهم الاستعمار ويستفيدون منه.. أو ممن لا تصل مداركهم إلى غور ما يرتَّب وما يُعدّ، للمنطقة، لاسيما في فلسطين.
في لندن وفي باريس، كما في بعض الرؤوس العربية في الوطن، ارتفع صوت يقول: إن وعد بلفور لا يمكن إلا أن يسفر عن دولة يهودية على حساب فلسطين، وسيؤدي إلى صراعات لا نهاية لها. ومن هؤلاء أنطون سعادة "(1 مارس 1904 - 8 يوليو 1949)، مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي يحيي حزبه هذه الأيام الذكرى ٦٩ لإعدامه.. فقد رأى أن الوعد أو التصريح "اعتدائي على الأمة السورية، وعلى سيادتها وحقوقها"ورأى فيه "وعداً سياسياً لا حقوقياً، وأنه ليس لليهود حقوق عامة أو خاصة في فلسطين"وأن "بريطانيا باعت فلسطين لليهود بثمن تحتاج إليه لتقوية نفسها في الحرب". وقد نشأت بين تلك التيارات خلافات شديدة حول كيفية المواجهة والتصدي، وكيفية التعامل مع بريطانيا وعصبة الأمم، وما يرتبه الوعد الذي أخذ ينمو على الأرض، ويتجسد بفعل التخطيط والتنفيذ البريطاني ـ الصهيوني ـ الفرنسي، الغربي بشكل عام، بين أسماع العرب وأبصارهم.
فهناك من رأى أن القضية ذات بعد عربي عام، وأن على الدول العربية أن تتعاون لتضع حداً للأطماع الصهيونية في فلسطين، وهناك من رأى أنها قضية سورية خاصة، وأنه لا صلة لعرب "الجزيرة "ولا لمصر بها، وأن مسؤوليتها تقع على عاتق السوريين فقط، وأن ما قد يأتي من العرب هو في إطار تضامن عام أو ضمن الموقف الدولي، وهناك من اختار الاعتراف بحق ما، على أرضية الأمر الواقع، لليهود فيما وصلوا إليه من وجود ودولة لاسيما بعد عام 1948 وأخذت هذه الأفكار والسياسات والتوجهات الشعبية تتفاعل، وأنتجت ما أنتجته في الجسم العام للقضية التي مازلنا نعاني من الصراع حول أسلوب حسمها ومواجهة نتائجها.
لقد اختار أنطون سعادة، والسوريون القوميون معه ومن بعده، نهجاً يستند إلى ثقافة وواقع ومعطيات، مُستقاة من تجارب بشرية.. وفي صلب ذلك الذي اختاروه نهجاً لمواجهة هذه القضية، وما نشأ عنها من صراع، في إطار رؤيتهم:
1 ـ اللجوء إلى التنظيم "فلا خلاص لنا إلا بالقوة المنظمة"؟
2 ـ النظر إلى السوريين بوصفهم أمة تامة قائمة بذاتها، بشرياً وتاريخياً وجغرافياً، وأن كل الأقوام التي تشكل المُجتمع السوري هي نسيج أمتها. وقد أخرجوا ذلك الكيان من الانتماء العربي العام الذي حددوه جغرافياً وبشرياً بمنطقة الجزيرة وما هو في محيطها، وألغوا الصلة العضوية معه ومع مصر، ليحملوا السوريين مسؤولية القضية الفلسطينية.
3 ـ العودة في مستندات الحق الشرعي في فلسطين الذي تقوم عليه "المنازعة"، إلى التاريخ الأقدم من تاريخ الفتح العربي لفلسطين ومجيء الإسلام. منطلقين من تواصل الانتماء في المَنطقة "السورية "إلى الآموريين والكنعانيين... إلخ. وهذا يعزز الحق الذي يعود بالوجود القومي في هذه المنطقة إلى ما قبل و"عد التوراة"، كما يلغي مقولة: آخر من كان فيها، أي في فلسطين، حتى لا يتيح بناء مقولات تلغي الحق أو تشوه نصاعته بادعاءات لاحقة مثل: آخر من كان فيها الأتراك، وآخر من كان فيها البريطانيون، ثم آخر من سطا عليها بالقوة هم اليهود..
4 ـ وضع السوريين بمواجهة حقيقة أن على "دولهم" ـ وهي تلك التي أنتجتها اتفاقية سايكس ـ بيكو: أي سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق" ـ أن تتحد وتتعاون في حمل عبء النهضة، والصراع مع الصهاينة والاستعمار.. وأن طريق النجاح في المواجهة تعتمد على اختيار امتلاك القوة، والقوة وحدها" : فكل أمة تريد أن تحافظ على كيانها المستقل يجب أن تعلم أن ذلك يتوقف على استعدادها هي لدفع كل اعتداء، بكل ما لديها من الوسائل والممكنات. المحافظة على كيان أمة ما علم حربي من الطبقة الأولى، كما أنه علم سياسي من الطبقة الأولى، وبدون اعتماد على هذين العلمين، يكون كل تعب للمحافظة على الحرية والاستقلال، أو لنيل الحرية، باطلاً".
وربط القوة والسياسة، بوصفهما علمين عاليين رئيسين، مؤثرين في تحقيق الحرية والاستقلال والمحافظة عليهما، ربطهما برؤية أشمل يتحقق على أرضيتها تقدم يحتاج إلى برنامج عمل، في إطار مشروع أكثر شمولاً، يرمي إلى المُواجهة في ظل نمو نهضة واسعة. وهو إرهاص متقدم في هذا المجال.
"إن هذه الحركات، وهي نقاط منطقية متتابعة في برنامج منظم ينفذ بدقة، بالرغم من كل الاعتبارات المعادية.. والبرنامج كله ـ كأجزاء منفردة ـ يكوِّن خطراً قومياً متشعب النواحي، لا يمكن استئصاله والتغلب عليه إلا ببرنامج أساسي شامل، تدعمه القوى القومية الحية المتنبهة، وتضم ضمنه المشاكل القومية في كل فروعها. وإلا فإن أشكال المقاومة الأخرى، والإجراءات الجزئية، تظلّ مسكِّنات مؤقتة محدودة التأثير، مع مالها من فضل وما فيها من أمجاد وصفحات وبطولات".
5 ـ التنبيه إلى البعد الديني للاستعمار الصهيوني في فلسطين، لاسيما في أوساط المؤمنين من المسيحيين، بعد أن فرض البابا فيوس الثاني عشر قراءة التوراة قراءة تقديسية يومية في البيوت، بعد أن كان الحث فقط على العودة إلى التوراة كمرجع لفهم أعمق للأناجيل.
وقد ركز سعادة على وجود "علاقة وثيقة بين اتجاهات معينة في الشعور الديني والأغراض السياسية للدول والجماعات.
ومن ذلك العلاقة الوثيقة بين الحث على العودة إلى التوراة وقراءتها بتقديس، ومطامع اليهود السياسية في سوريا". ورأى في ذلك مدخلاً للتأثير على المسيحيين السوريين لجعلهم يسلمون بحق إلهي وبوعد إلهي مقدس، يعطي أرض فلسطين لليهود. وقد قال بوضوح" :كثير من السوريين المسيحيين الذين قرؤوا والذين سيقرؤون التوراة اليهودية "بتقديس "لن يجدوا نكيراً في محاولة اليهود الجديدة للاستيلاء على ديارهم وأموالهم، بل يقبلون ذلك بتسليم كلي "لأحكام الله ومشيئته.". وهذه النظرة الثاقبة هي التي نرى تطورها اليوم، ونلمس راهنية تأثيرها من خلال توجيه لبابا الفاتيكان قبل أشهر الذي دعا فيه إلى أن المسيح يهودي وأن هذا يدعو إلى التعاطف مع اليهود، وحقهم في فلسطين والسلام؛ وهي دعوة لاقت اعتراضاً عليها من قبل بعض رجال الدين العرب الذين قال بعضهم إن المسيح سوري وليس يهودياً، وأن فلسطين لأهلها وليست لليهود.
وقد علّقت على هذه الدعوة، أمام رجال دين مسيحيين ومسلمين في دمشق، بينهم من قالوا بهذا، فقلت: إن هذا يمس بمعتقدنا نحن المسلمين وأنتم المسيحيين، لأنه يصل إلى المَسِّ بعُذرية مريم من جهة، وبالقول إن المسيح من روح الله أو كلمة الله، من جهة أخرى. ويمس أيضاً بالمعتقد المسيحي وفق مذاهبه .. فمن يقول منكم "إن المسيح هو الله، أو ابن الله، أو بالثالوث"، لا يمكن أن يستقيم معتقده مع القول بأن المسيح يهودي، فهو بهذا يقطع بأن المسيح من نطفة رجل.
6 ـ أمَّا النقطة الأخيرة التي أود أن أشير إليها، في معرض ما رأيته من ملامح توجه استراتيجي، للعمل والنهج المختارين من قبل السوريين القوميين.. فهي الربط بين خطرين غذّاهما الغرب الاستعماري، وركزت عليهما دول خدمت المشروع الصهيوني، بوصفه مشروعاً معطِّلاً للبعدين العربي والإسلامي، أشار إليهما سعادة بقوله: "إن الخطرين الشمالي والجنوبي ـ الخطر التركي والخطر اليهودي ـ قد أصبحا مداهمين، وأن ملاقاتهما بصورة ناجحة لا يمكن أن تتم إلا بدرس القضية السورية درساً جديداً شاملاً، ابتداء من الأساس القومي".
وقد كانت رؤيته تلك، نتيجة لاستقراء الوقائع، ومعطيات التاريخ الساخنة التي فرضتها القوى الاستعمارية المتعاونة مع تركيا والصهيونية، حيث تم في العشرينيات من القرن الماضي إلحاق كيليكيا بتركيا، ثم في نهاية الثلاثينيات تم سلخ لواء اسكندرون من سوريا "سايكس ـ بيكو"، وإعطاؤه لتركيا أيضاً، وكيليكيا ولواء اسكندرون أراض سورية تاريخياً. وكان ذلك الجهد الاستعماري ـ الصهيوني يرمي إلى خلق حالة من العداء والتنازع المستمرين بين سورية وتركيا، من أجل راحة "إسرائيل "التي كان يُعدّ لإنشائها في جنوب سوريا "فلسطين".
إن هذه الملامح التي أشرت إليها في النقاط التي ذكرتها، تشير إلى موقف فكري ونضالي وسياسي كان للسوريين القوميين ولزعيمهم، ومازال هذا الموقف مستمراً، من قضية فلسطين، يحكم النظرة إلى الصراع مع الصهيونية، ويشير إلى حق لا يمكن التنازل عنه، ويستقرئ نتائج وأوضاعاً في المنطقة، كانت وستبقى متوترة، ومنذرة بمراحل من الانفجار، ما لم يتحقق حسم لهذه القضية.
وفي نشوة نضالية تخترق الواقع المؤلم، واقع الاحتلال وإنشاء الكيان الصهيوني، وتتمرد عليه يقول سعادة:"إن كل اقتراح أو كل مشروع لا يضمن سيادة الشعب السوري في فلسطين، ولا يمنع الهجرة اليهودية، ولا ينفي إقامة دولة قومية لليهود، ولا يضع مبدأ الحق موضع مبدأ الظلم ـ "سيخفق" ـ فمشكلة فلسطين ستستمر في تعقدها، ويستمر الشعب في تمرده وغضبته، استمراراً يجعل مصير هذه القطعة الغالية من الوطن السوري، رهينة الظروف، ومتوقفة على مبلغ ما في الأمة السورية من حيوية وقوة وكرامة، ويقول" :يمكن للقوة أن تفرض مشيئتها، ولكن أصحاب الحق لن يتنازلوا عن حقهم. والأرض السورية لا تصير يهودية في هذا النزاع الطويل العنيف. والاعتراف بدولة يهودية في فلسطين لا يحل المشكلة بل يزيدها تعقيداً".
بعد تسعة وستين عاماً على وفاة صاحب هذه الرؤية والمواقف والأفكار، نسأل ما الذي تغير جذرياً بالنسبة للثوابت التي طرحها أو انطلق منها حول القضية الفلسطينية؟ !ونوجز ما نذهب إليه من رأي في الآتي:
أ ـ إن الصراع العربي الصهيوني صراع مستمر من وجهة نظرنا، بوصفه صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود. وهو ما ركزته، وآمنت به، وعملت عليه، فصائل وأحزاب ودول في الوطن العربي، ومازال هو ديدنها وهدف نضالها. ولا نظن أن نظرة السوريين القوميين وأهدافهم تخرج عن هذا، فهم ممن يناضل من أجل ثبات هذا المبدأ وتحقيقه، انسجاماً مع استراتيجياتهم الفكرية والمبدئية.
ولا نعتقد أن اتفاقيات الإذعان "كامب ديفيد ـ أوسلو ـ وادي عربة"، ولا "صفقة القرن" أو صفعته الترامبية، تشكل مخرجاً أو تقود إلى سلام، أو تهيئ إلى ما يسمونه لقاء أبناء إبراهيم على وئام واحترام.
ـ فالصهيونية حركة استعمارية ـ عنصرية ـ توسعية تستهدف الأمة، وجوداً ومصالح وأرضاً وحضارة، ولا يمكن التعايش معها، كما لا يمكن أن تستقر الأمور على أرضية استمرار الاحتلال، والركون إلى استسلام مذل للأمر الواقع الذي يفرضه هو وحماته وأعوانه وعملاؤه.
ـ والمشروع الصهيوني هو نقيض تام للمشروع العربي، بكل الأبعاد والمعايير والاستنتاجات. ولذلك فحتمية الصراع قائمة ومستمرة، وهناك مصداقية في القول" :إن مصالح اليهود لا يمكن بحال من الأحوال أن تتفق مع مصالح السوريين في فلسطين".
ـ والفلسطينيون الذين شرّدوا من وطنهم، ومازالت تفتك بهم أنواع القهر والغربة، ومازالوا يدفعون ضريبة الدم من أجل فلسطين.. لا يمكن أن يتنازلوا عن وطنهم وعن حقهم التاريخي فيه، ولا يمكن أن تتحقق لهم عودة إلى ذلك الوطن من دون قوة هي قوتهم أولاً، وقوة سورية كلها ثانياً، وقوة الأمة العربية التي دخلت دخولاً تاريخياً وشرعياً في صلب قضية فلسطينية، وأصبحت بحق القضية المركزية في نضال العرب الحديث. وهذا يقودنا إلى إشارة تتعلق بالبعد القومي للقضية الفلسطينية.
ب ـ إن القضية الفلسطينية قضية قومية اليوم، دخلت من أجلها معظم أقطار الأمة في أشكال صراع مع العدو الصهيوني، ومن مصلحتنا أن يستمر هذا البعد القومي للقضية. ولكن الطبيعي والمنطقي أن تكون تكلفة تلك القضية، والتبعات الناتجة عن استمرار الصراع، هي مما يقع على عاتق العرب السوريين، الذين رفضوا ويرفضون، وسنبقى نعمل على أن يستمر رفضهم، لأي شكل من أشكال الاعتراف بالعدو الصهيوني، ولأي شكل من أشكال تطبيع العلاقات معه. وهاهي الوقائع تثبت أن العرب في بلاد الشام هم الذين تحملوا العبء الأكبر في الصراع، ولكنهم يحتاجون في كل مراحله لدعم أشقائهم في أقطار الوطن العربي. فلا يمكن لسوريا الطبيعية أن تقف وحدها، مشكلة توازناً حضارياً وعسكرياً شاملاً مع قوة الغرب الاستعماري والصهيونية التي تقف كلها وراء "إسرائيل"، وتدعم مشروعها الاستعماري ـ الاستيطاني.
جـ ـ إن البعد القومي للقضية يثبت تاريخياً، واثنياً، أنه بعد عربي شامل، فالآموريون والكنعانيون والآكديون، هم من سلالات العرب القدماء، وإذا كان جهل عرب الجاهلية بأصولهم وفروعهم قد أدى إلى جهل بهذه الصلات؛ فإن وعي العرب اليوم وعلومهم تكشف أن هذه الأقوام من أرومة واحدة، كانت تقيم معاقلها الحضارية في مدينة بعد مدينة، وتتجول في أرضها الواسعة، وتبقى ملح الأرض، ونكهة ثمرها الحضاري.
وقد كان الفضل لفريق من أبناء الأمة ومفكريها، في التنبيه إلى الصلاة المتصلة بين أبناء اليوم وأبناء الأمس، أبناء القرن الحادي والعشرين والآموريين والكنعانيين.. وهو ما أخذ اليوم يشكل قناعات المثقفين وبعض السياسيين الذين نجوا من شباك "سايكس ـ بيكو "وسواها من الأحابيل الثقافية والسياسية المدمرة للوعي والانتماء العربيين في أبعادهما الإثنية والتاريخية والحضارية.
وإذا كان منطق السوريين القوميين صائباً فيما يتعلق بإقامة الحجة على وعد بلفور بالحق التاريخي الذي يصل الوجود "السوري "في فلسطين بما هو أقدم من الفتح الإسلامي، فإن الوجود السوري هو وجود عربي زيَّنه الإسلام بدعوة، يقول سعادة بإقرار الألفة والرضا لنزع فتيل كل تقاتل طائفي من أجل وحدة بوجه العدو المحتل، لنبقى كلنا مسلمين:"ليس من سوري إلا وهو مسلم لرب العالمين، فاتقوا الله واتركوا تأويل الحزبيات الدينية العمياء، فقد جمعنا الإسلام: منا من أسلم لله بالإنجيل، ومنا من أسلم لله بالقرآن، ومنا من أسلم لله بالحكمة".
على هذه الأرضية، وفي المراحل الراهنة التي يتحول إليها الصراع، بما يقتضيه من استعدادات وقوى، ليس لنا إلا أن نتشبث بكل قوة تدعم صمودنا ولو بمقدار شعرة. وليس لنا إلا أن نعمل في أطر تتكامل عربياً، لأن هذه هي حقائق الصراع ومعطيات الواقع.
الكنعانيون الذين منهم الفينيقيون هم من الأرامية والأكادية الواسعة التي تشكل جذر العروبة القديم، والعرب الذين حملوا الإسلام ورايته قابلهم العرب الذين كانوا تحت الاحتلال البيزنطي في سوريا " بلاد الشام" بقبول حسن، وأصبحوا بيضة الإسلام.. وتفاعل الأقوام جميعاً كما تفاعلت الأديان، وتشكل معطى ثقافي عربي ـ إسلامي، فيه عطاء أبناء الديانات السماوية أساس.
إن الإسلام والمسيحية، والعرب اليوم وعرب الأمس، مستهدفون من قبل صهيونية عنصرية معادية، آذت المسيح كما آذت محمداً، وقاتلت الكنعانيين قديماً كما تقاتل العرب في سوريا وسائر البلدان الأخرى اليوم.. وعلينا أن نقبل جميعاً هذا التطور الفكري والعقائدي والسياسي والنضالي الذي فرضه تطور الوعي والمعرفة والعلم، وتطور أفق القضية الفلسطينية وأبعادها ووقائعها ومعطياتها، ويفرضه الانتماء الواعي للأرض والتاريخ والحضارة. لقد كانت نظرة السوريين القوميين التي جسدها زعيمهم سليمة ومخلصة لقضية التحرير، وذات رؤية ووجهة نظر في التفسير والتحليل للوصول إلى حل، وكانت رؤية سواهم من القوميين والعرب المهتمين بالقضية الفلسطينية، والمكتوين بنارها، تأخذ أفقاً أوسع.. وتنبع من الإخلاص ذاته ومن الحرص ذاته للقضية. ونكاد نتفق اليوم مع سعادة فيما ذهب إليه من قول، إذ قال: "إن الدولة اليهودية لم تنشأ بفضل المهارة اليهودية، ولا بشيء من الخلق والعقل اليهوديين، إذ لا توجد لليهود قوة خلاقة. بل بفضل التفسخ الروحي الذي اجتاح الأمة السورية ومزق قواها وبعثر حماستها وضربها بعضها ببعض وأوجدها في حالة عجز تجاه الأخطار والمطامع الأجنبية".. ولكنا نوسع الهامش لتغدو ضفاف الحكم أرحب، وضفاف الأمل أيضاً أرحب: فنقول بما أصاب "الأمة العربية كلها"، ونقول بأمل ينبع ويتجلى من إقبالها كلها على قضيتها وعلى استعادة حضورها في التاريخ، وعلى مقاومة أعدائها، لتكون من جديد شراع الإنسانية المبحر في فضاء يعمّه العدل ويسوده الإخاء الإنساني.
إن القضية الفلسطينية اليوم تمر في مرحلة متقدمة من مراحل نضال أبنائها ومعاناتهم أيضاً، ولكن الوعي بها اليوم وبأبعادها، وباستهداف الصهاينة لأقطار الأمة العربية وأبنائها، متخلف جداً عما كان من حيث المعرفة والفهم والموقف، ويحتاج إلى أداء أفضل في كل الميادين، لمواجهة الأخطار الزاحفة على الأمة، والضعف والتواكل والتآكل والتقاتل، والاستسلام المفجع الذي يستشري في أوساط سياسية وثقافية، ويسوَّق للناس وكأنه آخر الآمال التي يمكن أن يتعلق بها من يغرقون في خضم الأحداث اليوم.
إن حسم الصراع مع الصهيونية اليوم هو مسؤولية السوريين قبل سواهم، ولكنه مسؤولية الأمة العربية التي يشكلون نواة قوميتها، وعمقها الروحي، وصلابة موقفها الحضاري والمبدئي.. وعلى أبناء الشام أن ينظروا جيداً إلى دور الشام العريق، في كل صمود وتحرير ونهضة وخلاص، ليكونوا قادة الميادين التي يتم فيها التحرير والبناء.. وهذا أمل لا تنقصه المعطيات الإيجابية، ولا يُستَنبَت في الفراغ.