واشنطن تقترب بحذر من الخرطوم.. والبشير يقود الأزمة إلى الحلحلة
4 رؤساء أميركيون تباينت مواقفهم تجاه "العقوبات" واتفقوا على "لائحة الإرهاب"

إعداد: أيمن حسين
بعد ما يقرب من ربع قرن يبدو أن الأيام القادمة ستشهد إزالة السودان من القائمة الأميركية السوداء للدول الراعية للإرهاب، وهو القرار الذي سيساهم في تحسن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الخرطوم، بيد أن القرار الأميركي المزمع إصداره له معطياته وله مقدماته، ويمثل انفراجة حقيقية للضغوط التي تتعرض لها حكومة الرئيس السوداني عمر البشير منذ سنوات منذ توليه سدة الحكم عام 1989، فقد تعهد المبعوث الأميركي إلى السودان الأربعاء الماضي بالعمل مع الخرطوم ودعم جهودها لإزالتها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، كما رحب بقرارها قطع علاقاتها مع كوريا الشمالية.
وبحسب هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" قال ستيفن كوتسيس، السفير الأميركي في الخرطوم، في تصريحات بمناسبة احتفالات 4 يوليو في السفارة الأميركية بالخرطوم إن كوريا الشمالية تمثل أولوية قصوى بالنسبة للأمن القومي للولايات المتحدة، وأضاف "لهذا السبب، نود تأكيد تقديرنا للإجراءات التي اتخذها السودان وجميع حلفائنا وشركائنا في جميع أنحاء العالم الذين يدعمون ضغوطنا الدبلوماسية والاقتصادية على كوريا الشمالية".
وقال كوتسيس في الاحتفال الذي حضره مسؤولون سودانيون ودبلوماسيون أجانب إنه "ما تزال هناك تحديات كثيرة"، مضيفاً أن معظمها يجب أن تُحل من قبل السودانيين، مضيفاً "لكنني لا أستطيع أن أنكر أنه طالما بقي السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب، فسيكون من الصعب عليه التغلب على هذه التحديات"، لكنه تعهد بأن "تعمل السفارة الأميركية بكل طاقتها وتركيزها على تهيئة الظروف لرفع السودان من قائمة الإرهاب".
وصعّدت واشنطن ضغوطها على السودان في الأشهر الأخيرة لقطع جميع علاقاتها مع بيونج يانج بالرغم أن الخرطوم لا تربطها أي علاقات دبلوماسية رسمية مع كوريا الشمالية، وفي يونيو الماضي، أعلن السودان عن إلغاء عقود كانت قد أبرمتها شركاتها الدفاعية مع الدول المنبوذة في آسيا، كما أقرت للمرة الأولى بوجود صفقات مع كوريا الشمالية.
نشأة الأزمة:
وتعود أحداث الحظر الأميركي على السودان إلى عام 1992 حينما استضافت السودان أسامة بن لادن، مؤسس تنظيم القاعدة، وهو الإرهابي الأول في قائمة التصنيف الأميركية للإرهابيين المطلوبين على مستوى العالم، وزعيم التنظيم – وقتها – واستمر الشد والجذب بين واشنطن والخرطوم والتلويح بعقوبات ضد السودان لطرد ابن لادن، حتى انتهى الأمر بأن أدرجت وزارة الخارجية الأميركية السودان في 12 أغسطس 1993 في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وفي عام 1996 أوقفت الولايات المتحدة عمل سفارتها في الخرطوم، لكن ابن لادن غادر السودان تحت ضغوط دولية متجهاً إلي أفغانستان حيث كانت جماعة طالبان – ذات العلاقة القوية معه - تسيطر على الحكم هناك، وتبدأ رحلة جديدة في مواجهاته مع أميركا؛ لكنه ترك السودان تعاني جراء هذه استضافتها له.
ففي 3 نوفمبر 1997 أعتبر الرئيس الأميركي "بيل كلينتون" أن السودان يمثل مصدر تهديد لأمن الولايات المتحدة القومي ولسياستها الخارجية لأنها تدعم الجماعات الإسلامية المتشددة، فأصدر قراراً تنفيذياً بفرض عقوبات مالية وتجارية على الخرطوم، تم بموجبها تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأميركية للسودان، وألزمت الشركات الأميركية، والمواطنين الأميركيين، بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع السودان.
وفي أغسطس 1998 اتهمت الولايات المتحدة السودان بالضلوع في الهجوم على سفارتيها في العاصمة الكينية نيروبي وعاصمة تنزانيا دار السلام، وشنت أميركا هجوماً صاروخياً على مصنع الشفاء للأدوية في السودان بسبب قيام المصنع بإنتاج المواد الكيميائية التي تدخل في صناعة الأسلحة الكيميائية – حسبما قالت الولايات المتحدة وقتها.
تغير استراتيجي:
وعقب هجمات 11 سبتمبر عام 2001، طرأ تغيير في العلاقة بين البلدين، حيث أبرمت الخرطوم مع واشنطن اتفاق تعاون في محاربة الإرهاب، بيد أن الجانب الأميركي أصدر بصورة منفردة "قانون سلام السودان" عام 2002، وربط العقوبات الأميركية بتقدم مفاوضات حكومة السودان مع المعارضة السودانية في جنوب البلاد والمتمثلة في الحركة الشعبية لتحرير السودان.
كما فرض الكونجرس في عام 2006 عقوبات إضافية ضد شخصيات سودانية وصفهم بأنهم مسؤولون عن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بسبب أعمال القتل والانتهاكات الواسعة في إقليم دارفور غرب السودان، وأصدر الرئيس الأميركي جورج بوش الابن قراراً بالحجز على أموال 133 شركة وشخصية سودانية في نفس العام، وادعى بوش أن سياسات حكومة البشير تهدد أمن وسلام وسياسة أميركا، خاصة سياسة السودان في مجال النفط.
انفصال الجنوب:
مع انتهاء المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بانفصال الجنوب عن الشمال إلى دولتين في 2011 عاصمتهما جوبا والخرطوم، ظن السودانيون أن العقوبات حل زوالها، لكن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما فاجأهم في نوفمبر 2012 بتجديد العقوبات المفروضة على السودان رغم إقراره بأن النظام السوداني حل خلافاته مع جنوب السودان، وحذر من أن الصراعات في إقليم دارفور وغيره ما زالت تمثل عقبات خطيرة على طريق تطبيع العلاقات بين واشنطن والخرطوم، إلا أنه عاد في 17 فبراير 2015 وأعلن عن تخفيف العقوبات على السودان، بما يسمح للشركات الأميركية بتصدير أجهزة اتصالات شخصية، وبرمجيات تتيح للسودانيين الاتصال بالإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وفي نوفمبر من العام التالي مددت إدارة أوباما العقوبات لمدة عام، غير أنها أشارت إلى إمكان رفعها في حال حقق هذا البلد الإفريقي تقدماً.
بوادر إيجابية:
باراك أوباما في أواخر عهده أصدر أمراً تنفيذياً رفع بموجبه، جزئياً، العقوبات المفروضة على السودان لمدة ستة أشهر، على أن يتم البت في رفعها كلياً بعد ستة أشهر، حال التزام السودان بتعهدات قطعها على نفسه عرفت بـخطة المسارات الخمسة، والتي تتضمن جملة من القضايا المحورية محل الاهتمام المشترك، وعلى رأسها التعاون في مكافحة الإرهاب والأمن الإقليمي، والسلام في كل من السودان وجنوب السودان، واحترام حقوق الإنسان – بحسب صحيفة الشرق الأوسط.
الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 أفرزت الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، وفي 13 يناير2017 أعلن ترامب رفعاً جزئياً لبعض العقوبات الاقتصادية المفروضة على الخرطوم، التزاماً منه بالأمر السابق، وقال البيت الأبيض إن ذلك نتيجة للتقدم الذي أحرزه السودان، لكن الإدارة الأميركية أبقت السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب مرة أخرى، بالرغم من صدور تقارير أميركية أشارت إلى تعاون السودان في مكافحة الإرهاب، منها تقرير وزارة الخارجية عام 2006، وآخر للكونجرس عام 2009.
رفع العقوبات:
وفي سبتمبر الماضي رفعت الولايات المتحدة قيوداً كانت قد فرضتها في وقت سابق على سفر المواطنين السودانيين إلى أراضيها، وفي الشهر التالي رفعت غالبية العقوبات الاقتصادية والتجارية المفروضة على السودان منذ أكثر من 20 عاماً، وقالت هيذر نويرت، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، في بيان، إن قرار تخفيف العقوبات جاء بعد نحو 16 شهرا من الجهود الدبلوماسية المكثفة للتوصل إلى انفراجة مع السودان، وأضافت أن الخطوة إقرار بـ"التصرفات الإيجابية المتواصلة" للسودان، لكنها أشارت إلى ضرورة تحقيق مزيد من التقدم لأن السودان ما زالت على لائحة الإرهاب، ووصف مسؤولون أميركيون القرار بالأمر الإيجابي لأن السودان أحرز تقدما في جهود مكافحة الإرهاب وقضايا حقوق الإنسان، حسب قولهم لوكالة رويترز للأنباء، فيما عارضت منظمات حقوقية أميركية ودولية تخفيف العقوبات.
ورحبت وزارة الخارجية السودانية بالقرار الأميركي، واصفة إياه بأنه "قرار إيجابي"، بينما طالب المسؤولون السودانيون بضرورة رفع بلادهم من لائحة الإرهاب لأن تواجد السودان في القائمة السوداء لواشنطن، يجعل البنوك الدولية حذرة من التعامل معها، وبالتالي يتم إعاقة النهضة الاقتصادية في البلاد، بينما رفعها سيجعل الممولين الدوليين يفكرون في الاستثمار في السودان، موضحين أن الاقتصاد تضرر بشدة بفعل التضخم وارتفاع الدين الخارجي وخسارة مكاسب النفط منذ انفصال جنوب السودان عن شماله في عام 2011.
اقتراب حذر:
الغريب في الأمر أن القرارات المبشرة للجانب السوداني يلازمها دائماً إجراءات أميركية أمنية احترازية تثير المخاوف والشكوك، فبعد أيام قليلة على رفع واشنطن الحظر التجاري في أكتوبر 2017 صدر تنبيه أميركي لمواطني الولايات المتحدة بعدم السفر إلى السودان بداعي وجود مخططات إرهابية تستهدف الأجانب.
كذلك الحال، قبل يومين من اعلان السفير الأميركي رفع السودان من القائمة السوداء، نشرت وزارة الخارجية الأميركية تنبيهاً على موقع السفارة في الخرطوم، قالت فيه إن مجموعات إرهابية تواصل التخطيط لهجمات في السودان وخصوصا في الخرطوم، وأنهم – أي الإرهابيين - قد يهاجمون بعد إنذار محدود أو دونما إنذار مستهدفين أجانب ومنشآت حكومية محلية ومناطق يتردد عليها غربيون، وأكدت الخارجية الأميركية في تحذيرها أن على المواطنين الأميركيين تجنب السفر إلى مناطق النزاع الثلاث في السودان، وهي دارفور والنيل الأزرق وشمال كردفان، وحذرت مواطنيها أيضاً من السفر إلى ولايتي كسلا وشمال كردفان اللتين فرضت فيهما حالة الطوارئ منذ العام الماضي.
وقال التنبيه – بحسب وكالات الأنباء - إن تقارير وردت بخصوص اعتقالات تعسفية استهدف بعضها أجانب في مختلف أنحاء السودان، وإن الحكومة الأميركية لديها قدرة محدودة على تقديم خدمات طارئة لمواطنيها في السودان.
وكان من الطبيعي أن تدافع السودان عن نفسها في مواجهة تقارير وبيانات تتناول وضعها الأمني، فقالت وزارة الخارجية السودانية إنها تأسف لإعلان واشنطن الذي يأتي رغم إقرار الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية بوجود "بيئة سياسية وأمنية إيجابية" عموماً في البلاد – بحسب بيان لها لوسائل الإعلام العالمية – ووصفت هذه "البيئة" بأنها مكنت بعثات السفارة الأميركية في الخرطوم من السفر بحرية في كافة أنحاء ولايات دارفور، وأضافت أن التنبيه الأميركي الجديد يتجاهل الحقيقة على الأرض في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، ويتناقض أيضاً مع التقارير الأخيرة للأمم المتحدة وبعثتها في دارفور، كما حضت وزارة الخارجية السودانية واشنطن على مراجعة إعلانها، وأكدت التزام الخرطوم بمحاربة الإرهاب إلى جانب شركائها الدوليين لتعزيز الأمن الإقليمي.
البشير هدفاً:
منذ العام 2009 لا يزال الرئيس السوداني عمر البشير مطلوباً لدى المحكمة الجنائية الدولية بسبب مزاعم غربية حول تورطه في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور المضطرب غرب البلاد، إضافة إلى اتهامه بـ"الإبادة الجماعية"، وربما يكون هو أحد أهداف الولايات المتحدة من فرض العقوبات على السودان، فرغم جهوده في نزع فتيل الأزمة في جنوب السودان على مدار عامين وتوقيع اتفاق التهدئة الأسبوع نهاية يونيو الماضي في الخرطوم، إلا أن الولايات المتحدة يبدو أن لديها نوايا تجاهه وهو ما يعكسه قرارات وتصرفات المحكمة الجنائية الدولية – التي يسيطر عليها الغرب – حيث قال فاتو بنسودا، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أمام أعضاء مجلس الأمن يوم 23 يونيو الماضي إن "السيد عمر البشير وعددًا من أعضاء حكومته مازالوا طلقاء، ولابد من إلقاء القبض عليهم، وتسليمهم للجنائية الدولية في لاهاي لمحاكمتهم"، بحسب وكالات الأنباء، بينما وقف مندوب الولايات المتحدة في مجلس الأمن خلال جلسة المناقشات وقال "الولايات المتحدة يؤسفها أن الرئيس عمر البشير ما زال يسافر الي الخارج"، وأضاف أن بلاده سوف تقوم بكل ما يمكن للضغط على الحكومة السودانية من أجل تحسين حالات حقوق الإنسان في السودان.
بالتأكيد الموقف الأميركي وجد تأييداً من دول بريطانيا وفرنسا والسويد وهولندا وبولندا وبيرو، في حين كان هناك مواقف رافضة لهذا التوجه مثل روسيا والصين والكويت وكازاخستان وبوليفيا وساحل العاج وغينيا الاستوائية وأثيوبيا التي رفض مندوبها مخاطبة المدعية العامة للمحكمة لرئيس إفريقي بمصطلح "مجرم".
الخلاصة:
قرارات رفع العقوبات الأميركية عن السودان باتت واقعاً ودخلت حيز التنفيذ بالفعل منذ ما يقارب العام، وأصبح التعامل التجاري والاقتصادي الأميركي والعالمي يسير وفق ما المعطيات الجديدة، أما قضية رفع السودان من القائمة السوداء لواشنطن والخاصة بالدول الراعية للإرهاب، يبدو أنها تسير وفق عامل زمني معين، حيث تدرك واشنطن أن عامل الزمن لم يستطع حلحلة البشير من حكم السودان، لكن يمكن التعاطي مع وجوده القوي في أزمات إقليمية مثل قضية جنوب السودان، وكذلك قيام حكومة الخرطوم بإثبات حسن النوايا لواشنطن من خلال مواقفها من "الدول الراعية للإرهاب" الموجودة في قائمة واشنطن السوداء وعلى رأسها كوريا الشمالية، والتي كان موقف حكومة البشير منها بمثابة القربان صوب الولايات المتحدة لإحلال وضع جديد للسودان بعيد عن اتهامات الإرهاب، وأن مغادرة القائمة السوداء آت لا محالة ولكن يحتاج لبعض الوقت والعمل.