هل كان شيوخ ابن خلدون محقين؟

" سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الادب وأركانه أربعة دواوين : وهي كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة الدينوري ، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها " تتصدر هذه المقولة الكتب المذكورة، والذي أعرفه، ولن يكون جزماً أن هذه الكتب لم تكن متداولة على نطاق واسع في القطر العماني، لأن ما يغلب كتب عمان هو ما ينسخه النساخ من كتب الفقه والادب العمانيين والشعر، أو ما يمكن أن يأتي من خارج القطر مع تعاقب الأزمان.
وما طالعتنا به الكتب المدرسية من الأدب كان جلها من كتب الجاحظ وليس من الضرورة الكتاب المشار إليه، كما لم أذكر أن عرض علينا شيئاً من النصوص من الكتب الأربعة الأخرى أو ما يشير اليها، فقد كانت الصورة الحاضرة هي صورة الجاحظ الذي طبقت شهرته الأوساط، لما تميز به من انتاج ليس له مكان للحديث عنه في هذه المقالة، وذلك أن أعماله تكفي للحديث عنه، ومن أراد الاستزادة في المعرفة فليرجع الى المصادر الموصلة الى ذلك.
لعل أقدم هذه الكتب الأربعة هو كتاب " البيان والتبيين " للجاحظ" وبالرغم من أن وفاة الثلاثة " الجاحظ 255هـ ، ابن قتيبة 276هـ ، المبرد 285هـ ، وبعدهم الأمالي 356هـ المتوفي بما يقرب من سبعين سنة من سنة وفاة آخرهم، ولعدم وجود تواريخ تثبت إنهاء تآليف ووضع هذه الكتب؛ فأن المعيار الذي سيؤخذ به في أقدميتها هو أسبقية الوفاة، وبذلك يكون كتاب" البيان والتبيين" هو أقدمها.
أما عن أفضلية هذه الكتب وتمايزها عن بعضها فأنه لم توجد ما يدل على أفضلية بعضها على الآخر، والعل السبب يعود في ذلك الى عدم وجود دراسة مقارنة بينها، أو أن السبب الآخر يعود الى انفراد كل كتاب بخط انتاجي مختلف عن الآخر، ويلتقيان في المصب الذي يخدم القارئ ويجد الأديب فيه بغيته، والمتعلم ما يسد رغبته، واستثناء وجدت مفاضلة بين كتابي " الأمالي" و" الكامل" حيث قال محمد بن حزم : " كتاب نوادر ابي علي مبار لكتاب الكامل الذي جمعه المبرد، ولئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحواً وخبراً، فإن كتاب ابي علي أكثر لغة وشعراً" هذا ما وجد، وبرغم ذلك فأن المفاضلة أنصفت الكتابين ولم تجحف حق أي منهما.
فلماذا أجمع شيوخ ابن خلدون على هذه الكتب الأربعة؟ وهل كانوا محقين في تقدريهم؟ وفي هذه المقالة سنحاول التعرف عن كثب عما تنطوي عليه هذه الكتب، وما يغلب على جمعها وصنعتها و تأليفها، وأي هذه الكتب أخذت نصيبها من الشهرة والصيت في أوساط متلقي العلم؟
يتكون البيان والتبيين من ثلاثة أجزاء وقد قسم الى عدد من الأبواب يندرج تحت كل باب أبواب فرعية ، حيث يصفه الجاحظ ويقول: " القول في البيان والتبيين، وما شابه ذلك من غرر الاحاديث، وشاكله من عيون الخطب، ومن الفقر المستحسنة، والنتف المتخيرة، والمقطعات المستخرجة، وبعض ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكرة، والجوابات المنتخبة" وهذا الوصف ينطبق على كل الكتاب. بالإضافة الى مرويات وقصص ومنقولات، وحكايات قصيرة مركزة تخدم كل باب، أما الأبواب الرئيسية في الجزء الأول هي (البيان، ذكر اللسان، الصمت) وكل ما اندرج في هذه الأبواب لا يخلو من صنعة ظاهرة كما تم الوقوف في هذا الجزء على وصية الجاحظ نفسه لمن يريد تكلف صناعة الأدب. ومما يؤخذ على الجزء الأول أن الجاحظ لم يقدم له التقدمة التي يمكن أن تميزه بشيء واضح، بل دخل في لجة البحر دون مقدمات، أما صدر الجزء الثاني فقد ابتدأ فيه الجاحظ بالرد على الشعوبية في طعنهم على خطباء العرب، وبذلك خص هذا الجزء بخطباء السلف الصالح، وأهل البيان من خطباء المتقدمين من العرب، والمزدوج من الكلام، والملغز في الأجوبة، كما احتوى هذا الجزء على باب واحد رئيسي هو باب اللحن، كما احتوى على أخبار النوكى والعيين، وفصل من الكلام المحذوف، أما الجزء الثالث فقد خصه بتسمية "كتاب العصا" وبدأ فيه بذكر مذهب الشعوبية، وبمطاعنهم على خطباء العرب.
أما كتاب "أدب الكاتب" فهو أصغر هذه الكتب واكثرها تنظيماً، وأحذقها صناعة وترتيباً، ويبدو من عنوانه أنه يخدم الكاتب، ويأخذ بيده ليمكنه من مسالك الكتابة، ويجد فيه بغيته لمعرفة الأشياء، ويوقفه على الكثير مما يرسخ قواعد الكتابة، ومعاني الكلمات وإملائها وصرفها، ويتكون الكتاب من مقدمة وأربعة أقسام، يتوزع كل منها في أبواب؛ فالقسم الأول هو "كتاب المعرفة" ويتألف من ثلاثة وستون باباً، والقسم الثاني هو "كتاب تقويم اليد" ويتضمن سبعة وأربعون باباً، والقسم الثالث هو " كتاب تقييم اللسان" ويتوزع في خمسة وثلاثون باباً، والقسم الرابع هو "كتاب الأبنية" وقد قسمه المؤلف الى أربعة موضوعات :(أ) أبنية الأفعال(ب) معاني أبنية الأفعال(ج) أبنية الأسماء(د) معاني أبنية الأسماء.
أما كتاب (الكامل في اللغة والأدب) ويقع في سبعة وخمسون باباً متنوعاً، وقد ذكر مؤلفه في مقدمة الكتاب " أن هذا الكتاب ألفناه يجمع ضروباً من الآداب، ما بين كلام منشور، وشعر مرصوف، ومثل سائر، وموعظة بالغة، واختيار من خطبة شريفة، ورسالة بليغة، والنية فيه أن نفسر فيه كل ما وقع في هذا الكتاب من كلام غريب، أو معنى مستغلق، وأن نشرح ما يعرض فيه من الأعراب شرحاً شافياً، حتى يكون هذا الكتاب بنفسه مكتفياً، وعن أن يرجع الى أحد في تفسيره مستغنياً" هذا ما ورد في مقدمة واضع الكتاب وهي تغني عن أي وصف آخر.
اما كتاب "الأمالي" فهو يعد من الكتب النفيسة وينقسم الى كتابين كبيرين وذيل ملحق بكتاب " بالنوادر" أي كأن الكتاب من ثلاثة كتب، ومما يبدو أن الكتابين يأخذان نفس السياق في الموضوعات، ويكاد تتشابه في موضوعاتها مع الكتابين السابقين "البيان والتبيين والكامل" إلا أن كتاب الأمالي ينحو منحى الشعر وأخبار الشعراء أكثر، أما ملحق كتاب النوادر فهو كتاب " ذيل الأمالي والنوادر" ويبدوا أنه يشبه ما جاء في جزئي الكتابين أما النوادر فأيضاً لم نجد ما يميزها كما لم تكن هناك مقدمة توضح ما جاء في محتوى النوادر وأنها من فرائد القصص وربما انها تبدو كذلك، حيث لا يخلوا بعضها من تكلف صناعة اللغة وإبراز غريبها.
إن الكتب الأربعة التي عرضنا عليها بناء على توصية من شيوخ عالم يعتبر رائداً من علماء "علم الاجتماع " فالمطلع على هذه الكتب لا بد أن يجد ضالته وشاردته في معارف شتى يمكن أن يبنى عليها، ويزداد ويستنبط، ولأن فيها من العلوم والفكر والامثال والسير والقصص والحكم والمقولات والمأثورات الشيء الكثير، فلا غرو في أن يعجب بها الناس ويتلقفها طالبوا العلم، ويتخذها شيوخ المجالس ركيزة أساسية في جعلها منهاجاً للتعليم والأدب، حقاً أن شيوخ ابن خلدون كانوا محقين في ذلك.

سعيد الكندي
[email protected]