يقول الجاحظ: " ألا ترى أن أبلغ الناس لساناً، وأجودهم بياناً وأدقّهم فطنة، وأبعدهم رؤية، لو ناطق طفلاً أو ناغى صبيّاً، لتوخّى حكاية مقادير عقول الصبيان، والشبة لمخارج كلامهم، وكان لا يجد بدّاً من أن ينصرف عن كلّ ما فضّله الله به بالمعرفة الشّريفة، والألفاظ الكريمة"1
ونظراً لأنّ لكلّ مرحلة من مراحل الطفولة خصائصها ورغباتها فإن ذلك يشكل عاملاً إيجابياً في الكتابة للطفل، حيث يتوجب أن تتفق اللغة مع درجة نموّهم الفكريّ والثقافيّ والمعرفيّ، وأطرحها سريعاً كي نتمكّن من مواصلة الحديث عن ثيمة الوطن في شعر الأطفال.
المرحلة العمرية (3-5) سنوات يتوجّه فيها الطفل إلى ما حوله من طبيعة كونها مرحلة التصوّر الواقعي، ويناسبهم من النشيد ما يتفق ويحاكي الطبيعة الحيّة أو الصامتة كالنباتات، والحيوانات، والأشخاص المألوفين. وتكون الأناشيد في هذه المرحلة وسيلة للعب وللحركة ولتقليد الأصوات، ويُطلق عليها مرحلة الخيال الإيهامي، أو مرحلة الواقعية والخيال المحدود بالبيئة حيث يستخدم الطفل حواسه للتعرف على ما يوجد حوله.2
أمّا المرحلة العمرية (5-9) سنوات فيُطلق عليها بمرحلة الخيال الحرّ، ويُفضل فيها الطفل الأناشيد المتّصلة باللعب والتّمثيل والتقليد. وكون هذه المرحلة تتسم ببداية النضوج الذهني فمن المحبّذ أن ترتبط الأناشيد بالأهداف الثقافيّة، ومعرفة البلدان، ووصف الحقائق العلميّة مع بعض الخيال. إضافة إلى تنمية الذوق الفنّي والأدبي لدى الأطفال، فالفضول الفطري يغني لغة الطفل لفظاً ومعنىً.3
وفيما يتعلق بالمرحلة العمرية (9- 13) سنة فهي مرحلة المغامرة والبطولة، وتتناسب مع إدراك الأطفال للأمور الواقعية، حيث يميلون إلى النشيد الذي يمجّد البطولات، وما يتعلق بالفروسية، والشجاعة والتضحية، ويصبح الحذر هنا أكثر في استخدام الكلمات ودقّة صياغتها، كون الطفل يميل إلى حب السيطرة، والاشتراك مع أقرانه في الجماعات المختلفة، ويحب الأعمال التي تظهر فيها روح المنافسة والشجاعة والمغامرة، لذلك من الجيد تسليط الضوء في أناشيد هذه المرحلة على تناول حياة القادة والمصلحين والأبطال مما يربّي الطفل على أفضل المُثل في التّضحية وحب الوطن وإنكار الذات.4
ومن ضمن الأناشيد التي استعرضها هنا نشيد (وطني)5 للكاتب السّوري مهند العاقوص، التي يقول فيها:
بلدي الغار
بلدي الدار
مهما عليها الزمن جار
وطني أمّي
تحمل همّي
تسكب في وجهي الأسرار
وطني الوالد
عطر خالد
بين خيوط الروح صار
......
ومن خلال القراءة الأولى للنشيد نجد أن لغته الفصيحة بسيطة متناسبة مع المستوى اللغوي للطفل، وهو متلائم في طوله مع المرحلة العمريّة، ويتميّز بالخفة في الأسلوب، والبعد عن تكثيف الأفكار. وقد جاء التكرار في كلمتي (بلدي) و(وطني) للتأكيد على حالة الترابط الوجداني بين الشاعر ووطنه. واستعمال ياء المتكلم جاءت لتؤكد لعلاقة الوشيجة بين الطفل ووطنه، ولتساعده على الشعور بالانتماء لهذا البلد.
وظاهرة (التكرار) يُقصد بها التوكيد بنوعيه اللفظي والمعنوي، لإحداث التأثير اللازم، وهي ظاهرة شعرية مألوفة في أناشيد الأطفال كونها تثير الأهواء والميول.

ومن النّماذج العمانيّة لأناشيد الأطفال نشيد (عمان يا بلادي) للشاعر سعيد الصقلاوي الذي يقول فيه:
عمان يا بلادي
يا حبنا الكبير
وفرحة العباد
سلطانك القدير
لعهدك انتمينا
وهديك اصطفينا
بفضلك ارتقينا
منازل النّسور
علمتنا الإباء
والعزم والمضاء
يا صانع الرّجاء
بعزمك الكبير
وعشت يا قابوس
وشعشع الضياء
في الأرض والسماء
فمّنا الرخاء
من خيرك الكثير
وأصبحت عمان
أنشودة الزمان
يظلها الأمان
بظلك الوفير
ونستقرئ من خلال النشيد بساطة وصدقاً في مخاطبة مشاعر الطفل، حيث جاءت الألفاظ سهلة فصيحة إلى جانب كونها من بيئة الطفل وواقع اهتماماته اليومية، ومن مفاهيمه وعباراته وانسجامها مع عصره ومرحلته العمرية، فجاءت اللغة رشيقة والتراكيب خفيفة، ومنسجمة مع الأصوات والمعاني. وفيما يتعلق باستخدام الضمير (نا) في معظم ألفاظ النشيد ومفرداته فهو يبرز أهمية التعاون البنّاء والروح الجماعيّة التي يجمعهم حولها حبّ الوطن، وكذلك التآلف والترابط لتحقيق الهدف الذي يشير إليه الشّاعر.
وأذكر للشاعر عبدالرزاق الربيعي نشيد (وطن جميل)6 الذي يقول فيه:
لي وطن جميل
خيراته وافرة
وشعبه أصيل
سماؤه عالية
وأرضه طيبة
ليس لها مثيل
أشجاره باسقة
أزهاره مشرقة
ونخله طويل
ونجد أن الألفاظ الواردة في النشيد جميعها تلامس حياة الطفل، وتداعب مشاعر الفرح لديه، وقد جاءت الجمل قصيرة وبسيطة غير مركبة لتساعد الطفل على استيعابها والإقبال عليها، وهي مستمدّة من بيئة الطفل ذاته.
وقد غلبت على الأناشيد السابقة اللغة الحسيّة البعيدة عن التجريد، حتى يسهل على الطفل إدراكها وتمثّل صورها وأخيلتها، وهذا يعتبر من الشّروط الأساسية التي يُكتب في ضوئها نشيد الأطفال.

---------------
المراجع
1 الجاحظ، أو بعثمان عمر بن بحر. 1991. (رسائل الجاحظ)، ج3، ط1، بيروت، دار الجبل. ص 37
2 عبد الفتاح، إسماعيل. 1999. (أدب الأطفال في العالم المعاصر). القاهرة، مكتبة الدار العربية، ص 18
3 حسن، سعيد أحمد. (أدب الأطفال ومكتباتهم). ط1، عمان، مؤسسة الشرق للعلاقات العامّة للنشر والترجمة. ص 52
4 أبو معال، عبد الفتاح. 1986. (دراسات في أناشيد الأطفال وأغانيهم). عمان، دار البشير، ص 48
5 مجلة (طيارة ورق)، العدد 88، ص 12
6 الصفدي، بيان (2016)، ديوان الطفل العربي، ج3، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة. ص 221

د. وفاء بنت سالم الشامسية