مجموعة قصّصيّة للكاتب العماني: محمد جداد

لاحظت الفترة الأخيرة مدى تعمد الكتّاب إلى اختيار أغلفة باهتة في محاولة لمواراة الباطن، وستر المشاعر خلف الخيبة التي تغلف قصصهم، وفي الحوجري يظهر على الغلاف منظر لغرفة مظلمة يحتله رجلُ وحيد يشخّص بصره إلى نافذة تشع منها الضوء. هذا الانتظار أمام النور يجعلنا في موضع الكاتب، بحيث ننظر الى هذه النصوص وكأنها بصيص أمل جردت الحكاية إلى النور، ومنحتها ولادة بصرية قادرة على تعرية الأحداث في مجتمع جنوبي يعيش في ستر ملتزم وغطاء على أفكاره المتخفية.
نص من خلفية الحوجري الذي قدمه الأديب نصر سامي قائلا: "الكاتب مغرم بالقراءة، متذوق للسرد بأنواعه ونصوصه تعلق بالنفس، وتدفع للمتابعة، وتخبئ أسرارها في كثير من الأحيان، وهي بالفعل اندفاعة باهرة في طريق طويل"... ومن النص الأول يمكن ملاحظة الفكرة بوضوح، فالنضج الكتابي الذي وصل إليه الكاتب بعد قراءات طويلة في الأدب العربي والغربي بدا واضحا في الاسترسال القصصي الذي امتاز به في كامل المجموعة، والتي ضمت عشر قصص، تناول فيها مختلف القضايا. متنقلا بين تقمص شخصية إلى أخرى،برع في تجسيدها ككاتب يحمل هما خاصا مرتبطا بعاطفته وبمنطقته.
سائق التاكسي: وهي القصة الأولى في المجموعة، بطلها شخصية صابرة ينتصر على الأحوال الصعبة بالنضال، إذ يتذكر بتقنية "الفلاش باك" ماضٍ ممتد، متجدر في النضال ما بين الإخفاق والخيبة، يصور مشكلة مخرجات التعليم الوفير، ورغم ذلك فالبطالة تنال ذوي المؤهلات الجامعية أيضا. ولأن المعيشة تجبرك على إيجاد حلول بشتى الطرق؛ فأحيانا ننجرف وراء السعي والرزق لنجعل الشهادة معطلة في رفوف الإهمال. في القصة ثمة تنقل وتبلور للشخصية من مرحلة الدراسة الإبتدائية إلى ما بعد الجامعة ومن ثم دخول غمار العمل. بكونه بدأ كتاجر في حارته في المعتزة، مرورا بمهنة سائق التاكسي لفترة، ومن ثم فتح محل في المنطقة الصناعية. تعكس القصة شخصية الكاتب الواضحة والمكافحة، والمناضلة حتى بعلاقته مع قلمه وأفكاره والقضايا التي يتناولها.
المعلقة: القصة الثانية في المجموعة، يثير استغرابي قلم ذكوري، يكتب بكل ذلك العنفوان الرافض للظلم الذي يقع على المرأة، ويعمد بالمطالبة لتحقيق العدالة لها. نص من صفحة 21" كثيرا ما تسقط سعادة بعضنا في فخ العادات وتتلاشى في فضاء التقاليد، وتنصب كمائن تعاستنا تحت بعض المسميات". القصة تجسد المعاناة النسائية في مجتمع يتغاضى عن بعضا من حقوقها، على حساب الزاميتها بالصبر والتحمل. وتحكي قصة امرأة لم يحبها زوجها فتخلى عنها متعذرا بالديون الملحقة به من جراء مصاريف الزواج. وقدرة الرجل على التملص من الزواج بكل بساطة، وخلق مشاكل لتعليق المرأة لتصبح غير متزوجة ولا مطلقة. فكرة جدا قوية ومثيرة للجدل، وتكاد تتحمل المرأة عواقبها في أغلب الأحيان. طرحها الكاتب بجرأة منتصرا للمرأة.
الكاتب محمد جداد متعمق في بيئته، كما أنه مستمع جيد للقصص الشعبية المتداولة، يقتنص الموروث الشفهي من الأساطير ويعيد صياغته بأسلوبه الخاص، ولا تبهت هنا قدرته الخضراء بالتدفق الخيالي، يتمثل ذلك في قصة خوروري. فتوظيف المكان بدا ذكيا وموفقا بشكل قاطع، إذ أن تلك المنطقة نفسها " خوروري " مليئة بالأسرار. ويحيط بها الغموض الذي يشعل جذوة القص والحكايات. وهي منطقة معروفة في محافظة ظفار. ورؤية الكاتب وانتقاءه لموضيع ذات مضامين مثيرة للتشويق ينم عن بديهة الكاتب الحرة في اقتناص القصة وإعادة قولبتها في خيال خصب.
قصة أم البنات: تكشف عن التباهي المفرط، وكشف النعم وكل ما يجدر ستره وإخفائه، تتحدث عن والدة وبناتها اللائي يتعرضن للابتزاز بسبب الأم التي لا تفّرط مناسبة دون مدحهن وذكر محاسنهن، وذلك يؤدي إلى نقل الحديث وانتشار خصال البنات بما يعود بالسوء عليهن. فيتم استعمال المعلومات المتناقلة ضدهن. وهذه القصة صريحة وواضحة وفكرتها كبيرة جدا ولكن طريقة عرضها بسيطة وفي نفس الوقت مؤثرة ومحذرة. وتأتي الخاتمة بشكل وعضي ونصحي بحت. كانت القصة ستبدو أكثر جاذبية لو أنها انتهت بنهاية مختلفة، أو كانت النهاية مغايرة؛ قابلة لفتح باب التأويل والتفسير. القصة بدأت قوية ثم أصابتها عجلة سريعة جعلت الأحداث خالية من الروح، كما أن هذه القصة افتقدت للوصف الإبداعي الذي اتصف به الكاتب في القصص الأولى للمجموعة.
وضاح والبحر: تصور القصة علاقة الإنسان ببيئته، وامتنانه لمصدر رزقه. خيبته من الخسارة التي لا تورث المحبة جيلا بعد جيل. فهو يحب البحر وحرفة الصيد لكن الأولاد ابتعدوا للعمل الوظيفي والمرتبات العالية، ناهيك عن عدم تقديرهم لموارد البلد. تسلط القصة الضوء على العمالة التي تشغل المهن والحرف البسيطة بينما يتم استغلال ا لمواطن وتهميش انتفاعه بمصادر وطنه الحيوية كالبحر في هذه القصة. ومع الأيام يتم فقد الذكريات المتوهجة بالسعادة والمرتبطة بالبقعة تلك. وهي تمثل حنين الأباء وحسرتهم في الوقت ذاته. للقصة وجهات كثيرة ويمكن قراءتها من زوايا عدة ورغم بساطة الفكرة والحبكة السلسلة، لكن الكاتب فتح محاور انطلاقية تساؤلية لمشكلة مجتمعية تتضخم كل يوم منها: إهمال الحرف، الاستغلال الأجنبي للموارد، المناطق الطبيعية المسلوبة لغرض السياحة، المدنية الطاغية .... الخ، ومن خلال السطور ومرة أخرى اتسمت شخصية محمد جداد بالكفاح والنضال مثل شخصية سائق التاكسي والصياد تماما.
قصص بعناوين: "الورشة" و "أميرة بنجلور" و "كرشنا": قصص مفتوحة على سنما البوليود الهندية، وتشبه تلك الأفلام التي تشبعنا بها وتعودنا عليها، ولا أظنها تضيف للقارئ شيئا جديدا أو تقدم الفكرة المستهلكة من منظور مختلف، لكنها تكشف لنا قرب الكاتب من العمالة البسيطة القادمة من الهند سواء في الورشة التي تبدو أجواءها مألوفة لنا، خاصة بحكم ارتباطها بمنطقة الصناعية وهي منطقة في صلالة مكتضة بهم. ورغم الوصف الجميل والسرد اللطيف في عرض بعض القضايا الاجتماعية في الشعوب الهندية:كسهولة الانتحار في مواجهة صعوبات الحياة، أو الحب والعشق الذي يجمع الأخوين المنفصلين بجعرافيا المكان، أو الغربة التي يواجهها الهنود لكسب الرزق؛ نتيجة السفر والارتحال. لكن الفكرة الشاملة خرجت عن نطاق الوحدة القصصية والفكرة العامة للكتاب. وهي الهموم الاجتماعية لمجتمع ظفاري له طابع ملتزم، يتطور ببطء شديد سواء على مستوى الفكر أو التقاليد أو الانفتاح العقلي والحياتي.
مقهى الصعاليك: قصة أخلاقية قائمة على استخلاص حكمة حياتية وقيمة كبيرة، وهي توخي الحذر وعدم الانجراف نحو الإهمال، والتمسك ببوصلة المسؤوليات التي تضبط حياتنا وتوصلها لطريق النجاح. شخصيات القصة مذهلة، ومجسدة ببساطة وجمالية قابلة للتصدق، والتصور من خلال وصف الأفعال في هيئة خاصة يمكن تخيلها بشكل درامي متصاعد، أحداث القصة سريعة. الكاتب استطاع من خلال القصة أن يجعلنا متلهفين ومتشوقين إلى النهاية. التصاعد والاضطراب لم يكمنا في نقطة واحدة، بل السرد بأكمله كان يمثل تصاعدا مضطربا، والعقدة كانت تتجدد في كل فقرة.
الحوجري: القصة الأبرز والمعنونة للمجموعة القصصية، بما لا يدع مجالا للشك بأن الكاتب عماني من ظفار، وهو عنوان موفق للغاية في قدرته وقوته على التسويق والانتشار. وفيه يتحدث الكاتب عن استحواذ السحر والشعوذة في حياة البشر وهيمنتهما، وتأطير الفكر في العين والحسد اللذين يسببان الأمراض. وتم تناول الفكرة بشكل حبكة دائرية بحيث يرجع الحل إلى نقطة البداية والقرب الذي يجب البحث فيه وجعله المنطلق الأول للعمل.
المجموعة مختزلة دون زوائد أو حشو مبالغ، وذات لغة سلسة للغاية، تتناول قضايا مركزية تشير إلى حلول تتفتق في النهايات للقصص. ومع ذلك يمكن للكاتب أن يحقق التشويق الأقصى لو أنه جعل النهايات أكثر غموضا، دون غلق خيال القارئ أو على الأقل إحالته للتأويل والتحليل دون التفسير. قدرة الكاتب على تقديم القضايا النسوية بلسانها الخاص والتعمق في معاناتها يشير إلى التقمص الكتابي الناجح. رغم ذلك أرى في الكاتب قدرة أكبر لو أنه طرح القصص دون نهاية مكتملة. وذلك ما أرجوه من الكاتب في مجموعته القادمة لصياغة قارئ قادر على المشاركة في رسم قصة ذات أبعاد مختلفة ورؤى عديدة.
ارتباط الكاتب وضح جليا في بعض المفردات التي تم ذكرها أكثر من مرة وفي عدة قصص مثل: "سائق التاكسي، الورشة، الصناعية" رؤية واضحة في الأمكنة التي يمرق عليها الكاتب مثل:"عوقد ،المعتزة ،الحافة ، الدهاريز، صلالة" كل هذه المصلحات أعطتنا دلالات مكانية واضحة. الأسماء المذكورة في القصص كانت مرتبطة بقبائل وهويات معينة قد لا تكون واقعية، رغم ذلك أضاف للقصص خصوصية يمكن تفاديها في المستقبل لتجنب تشابه الواقع بفن الخيال القصصي والوقوع في فخ الحصر القبلي.
المجموعة القصصية محكمة ومنضبطة في العرض والطرح للأفكار والقضايا، إذ أنها تقربك من مجتمع مربك، يخاف التفوه بخصوصيته ويفزع من البوح بقضاياه. وأجاد الكاتب النسج التام للحبكة وجعلها سهلة التقبل وسهلة المعالجة من خلال النهايات التي قادت إلى حلول مرضية وهي الصابئة حسب وجهة نظر المجتمع.

إشراق بنت عبدالله النهدية