النقد الثقافي


ثمة صلة وطيدة بين الفنون الشعبية العمانية المغناة من ناحية، والنصوص الشعرية المتصلة بها من ناحية أخرى، على اختلاف أنواعها (إيقاعية / نغمية)، وهي - أي الصلة- لا يمكن العبور إليها أو الغوص فيها خارج إطار فلسفتها المجتمعية، التي تبدأ - أساسا- من خلال الشاعر الفرد، الذي منه يتم توجيه الفنون لتكون رسالتها الجمعية ذات بناء فكري واجتماعي فردي في المقام الأول.
لكن، ومن خلال الفهم البسيط لدينا، لم نجد حفرا لتلك العلاقة، وإن كانت متحققة واقعيا - أي الفنون- من بوابة التجسد والتبني والانسجام والتدفق الوجداني لها في البنية المكانية القديمة، ولم تفتح الدراسات والأبحاث والمقاربات نافذة نقدية تجاهها، بغرض القراءة جوهريا أو المقاربة نقديا، ولم يتجسد سوى الفعل الوجداني الذي يتم ترداد نصوصه مع الحركة الجسدية المنسجمة مع الإيقاع حينا، أو المنسجمة شعوريا مع النغمي منها حينا آخر، مع أننا نظن بضرورة عدم التوقف عند الشكل من دون حفر في الجوهر الذي يحيل إليه الفن، في سياق الجغرافيا، وما ينبئ عنه النسق الجمعي في إطار الفن الذي انشغل به الناس عقودا من الزمن، ولم يبارح الوجدان.
ثمة نصوص شعرية عمانية، انفتحت على الفنون كما وجدتها، وشكلت صلة ما مع إيقاعاتها أو أنغامها، هذه النصوص لا نتقصد توثيقها، بل نجتهد في محاولة فهم نشوء علاقتها بالمتجسد في الواقع الفنوني في المكان العماني القديم بشكل عام.

الجغرافيا والإيقاع
في تحديد مسبق من جانبنا للجغرافيا التي نقصدها، سنجدها ممتدة من مسندم، مرورا بجنوب وشمال الباطنة، ثم مسقط والداخلية والظاهرة، ثم الوسطى وشمال وجنوب الشرقية، وصولا إلى الجنوب حيث ظفار، هذه الجغرافيا فيها ما فيها من فنون مختلفة، وطقوس مواسمية متعددة، ومناسبات دينية ومجتمعية، ومناخات تحمل في كل منها طابعا خاصا، مما يجعلنا أمام زخم هائل بين فنون عمانية وأخرى ذات مناخات بيئية خارجية، مختلفة في لغتها وطريقة تعاطي فنونها، منتمية إلى الحس الوجداني في الانتماء إلى تلك الفنون، واكتسابها حفرا شعوريا عميقا في الثقافة الجمعية والتاريخية، بما يشير إلى أن التعاطي معها ليس سهلا، وإن كان تم توثيق بعض جانبيها نصوصا وسياقا أدائيا، إلا أن محاولة فهم وتفكيك العلاقة بين محاور تلك الفنون ظلت حبيسة أزمنتها، ولم تتم قراءتها من زاوية النقد الثقافي بما يتلاءم مع خيار تعاطي المجتمع معها في مراحلها السابقة.
لعل الإيقاع الذي نفهمه نحن العمانيون يقع في سياق مختلف من الناحية العامة، وهو الطبول بأشكالها المختلفة، صغيرة وكبيرة، ولكنه في السياق الثقافي الفني لا تعدو تلك الصورة أن تكون شكلا لما تنطوي عليه تلك الفنون، وهو ما جعل الظاهر والمؤثر منها هو إيقاعها، بما يعكسه من سحر ينعكس على ما تتركه في الوجدان من انتماء، وما يتفاعل مع الأداء الجسدي لها ونشوء نشوة تقع خارج دائرتي التفسير والتحليل، وهو ما عطّل الإدراك العميق لما يمكن أن يحيل إليه فهمنا الطرق الغامضة التي تماهى - من خلالها العمانيون- مع فنونهم، أو بالأحرى لم ندرس فلسفتها، ولم نقف عندها.

صناعة اللفظ
إذا كان بناء القصيدة فرديا في المقام الأول، ثم من بعده يتشكل التماهي بين القصيدة والشاعر، فإن الشاعر - بصفته فردا - لا يمكن إغفال القاسم المشترك بينه والمكان الذي ينتمي إليه، وبالتالي تحقق القاسم اللهجوي المشترك مع المكان (الإرث اللفظي الجمعي)، أي أن الشاعريأخذ قاموسه من المكان، ثم لا يلبث - من خلال الفن والقصيدة- بناء قاموس شخصي، منتم إلى وصف شعوري شخصي مستقل، ولكنه يجد هوى لدى المنتمين إلى المكان، وهو ما يحقق الترداد الذي يتعمق في الوجدان لدى العامة عبر الفن الشعبي الذي تنتمي إليه القصيدة، مع الحفاظ - ضمنيا - على الفرادة والخصوصية التي تميز هذا الشاعر عن ذاك، وتعطيه ملامحه الفارقة، بخاصة في السياقات التي تحمل تنافسا ومواجهة عبر الفن ذاته، أو تواصلا عبر وسيط ناقل القصيدة وحدها بمعزل عن الفن في الأداء المباشر، والاستناد هنا ينقلنا إلى العديد مما هو مروي صوتيا، أو ما تم قوله عبر توثيق شهادات مكتوبة لنصوص تنتمي إلى شعراء محددين في فنون معينة (الميدان نموذج شائع في هذا السياق).
صناعة اللفظ في نصوص الفنون الشعبية العمانية، عبر ما قالته شخوص عن المرحلة العمانية القديمة، حين كانت الفنون الأدائية الغنائية في مرحلتها الشغوفة، كانت تنافسية بامتياز، وهو ما جعلها جزءا أصيلا في الحياة اليومية، رائجة لدى الكل، ونافذة إلى القلوب والوجدان، وبحسب تقييم المنتمين زمنيا إلى تلك المرحلة، فإن وجودها في الذاكرات العابرة السنوات مرتبط بجدة القاموس اللفظي، ومعمارية التصوير الشعري، وفرادة الحبكة الدرامية فيها، فضلا عن غزارة الخيال وجزالة المعنى، لأن المجتمع - حينها - كانت لديه فطنته النقدية الخاصة، التي يبني أسسها على الدهشة والشغف والإيغال في الاختلاف الذي رأته الذائقة آنذاك.

بناء النغم
في سياق نصوصي مختلف، خارج سياق الفنون الإيقاعية، المرتبطة بالطبول والدفوف، سنجد القصيدة المنتمية إلى الفنون الصوتية، سواء كانت فردية أو جماعية، نسوية أو رجالية، حيث النغم وحده ينسج خيط الصورة والمعنى واللحن الداخلي، وغالبه ينتمي إلى الشجن والعاطفة الإنسانية العميقة.
هذه النصوص هي وليدة اللحظة، تتدفق شجنيا من دون سابق تخطيط، وعندما يتم غناؤها تفتح الدلالات المختفية خلف ظاهر الألفاظ أجفان المعاني، وتنسج المخيلة لغزها الكبير، الذي يظل مفتوحا على التأمل وعصيا على التفسير، ولكنه مرن في انسياقه وراء جمال التكوين النغمي والجرس الموسيقي الذي يجعله حيا ومستمرا في ذاكرة المنتمين إلى جغرافيا الفن من ناحية، وخصوصية المستوى اللهجوي من ناحية ثانية.
ما يجعلنا أمام عديد أسئلة متصلة بنصوص الفنون النغمية، هو انحسارها في الذاكرة بدلا من توثيقها على الورق، وما تم اللحاق به في الزمن الحاضر ليس سوى قليل من كثير، ولكن هذا القليل ربما يجعلنا نعيد التفكير في البناء النصوصي، لنفهم الجسر بينه والمجتمع الذي ينتمي إليه، وبالتالي فهم سبب قدرته على حضوره في الذاكرة الجمعية للمكان.

مساحات الفنون
أكاد أجزم أن الفنون الشعبية العمانية القديمة تركت لنا الكثير مما يستدعي طرح الأسئلة النقدية حول النصوص، فضلا عن النبش في الصلات الوجدانية والتاريخية والمكانية تأثيرا وتأثرا، وربما تكون جزئية المتحقق عبر الذاكرة الشفاهية والتسحيلات الصوتية المسموعة، والفيديوية المرئية، بمثابة مفتاح أول، لربما يكون المستكن خلف أبواب النصوص والفنون أكبر مما نظن للوهلة الأولى، وهنا تحضر مسؤولية المقاربة الثقافية للمكان، والحس المختلف المتوجب حضوره في هكذا تأملات.

خاتمة
الصيرورة التي آلت إليها نصوص الفنون الشعبية العمانية القديمة، وهو الترداد اللفظي في سياق استحسان جرسي واندهاش بنائي، ربما تجعلنا نعيد التفكير في أهمية هذه الصيرورة، للاستفادة منها بشكل مختلف عما هي عليه، وجعل هذه الصيروة مبتدأ وليس منتهى، وخيارا نفتح منه طرقا أخرى لفهم الشكل الكلي للنسق الجمعي من واقع ثنائيات مختلفة، من قبيل : الفن-القصيدة، الفن-الشاعر/الشاعرة، الفن-الإيقاع، الفن-المجتمع، وهكذا، من خلال استيلاد علاقات مزجية نفتح من خلالها العيون، ونختبر مرئياتنا تجاه المجتمع العماني القديم.

عبدالله الشعيبي