ترصد معاناة الشعب الفلسطيني في المخيمات
ترصد رواية "سروال بلقيس" للروائي صبحي فحماوي معاناة الشعب الفلسطيني في المخيمات ، وتصور بكثير من الصدق والواقعية والمرارة الوضع اللاإنساني الذي يعرفه واقع الحياة فيها ، وذلك إثر تعرضه للطرد والتشريد والتهجير من لدن الاستعمار الإسرائيلي المحتل لأرضه بدعم من العصابات الصهيونية وحلفائها من القوى الاستعمارية العالمية سنة 1948 .
ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن القضية الفلسطينية موضوعة حاضرة في كل أعمال الكاتب الروائية ، إلا أنها تتفاوت في درجة هذا الحضور ، ففي بعضها تحضر بشكل جزئي ضمن قضايا أخرى تكون هي المهيمنة ، وذلك من خلال شخصيات ذات أصول فلسطينية طالها التشريد والتهجير في أرض الشتات، وظلت دائماً مهمومة بالقضية ، حالمة بالعودة إلى أحضان الوطن ، أو من خلال الإشارة إلى أحداث فارقة تتصل بالمقاومة والكفاح داخل أرض فلسطين وخارجها كما هو الحال مثلا في روايتي " الإسكندرية 2050 " ( 2009 ) و " باب الهوى " ( 2014 ) . أما بعضها الآخر ، فتحتل فلسطين تاريخاً وقضية ومأساة شعب ، الموضوع الرئيس أو المهيمن فيها ، وهذه الأعمال هي : " عذبة " ( 2005 ) ـ حرمتان ومحرم " ( 2007 ) ـ " قصة عشق كنعانية " ( 2009 ) ـ " سروال بلقيس " ( 2014 (
إن فلسطين هم يؤرق الذات الكاتبة ، وجرح نازف في أعماقها لا يكف أبداً عن الوخز والإيلام.
تتألف رواية "سروال بلقيس" من فصل استهلالي قصير غير مرقم ، وسبعة فصول مرقمة من ( 1 إلى 7 ) ، يقدم السارد العليم في الاستهلال أهم الشخصيات الروائية ، ويقحمنا في فضاء المخيم البائس الذي تدور فيه أحداث الرواية . والملاحظ أن الكاتب لا يذكر اسم البلد المجاور الذي أقيم على هامشه المخيم، وهو بذلك يشير إلى أن كل المخيمات في البلاد العربية المجاورة سواء ، تعيش نفس الأوضاع المزرية البائسة ، ونفس المعاناة الأليمة القاسية . أما الفصول السبعة ، فتشتمل على ثلاثة مسارات سردية رئيسية :
ـ المسار السردي الأول : يمتد على مدى فصلين من الرواية : الأول والثالث ، و يتعلق برحلة ثلاث نساء من المخيم ، يقمن بها قبل انبلاج ضوء الصباح في يوم من أيام الربيع من سنة 1951 ، ليجمعن بقايا حبات الزيتون وبعض الأعشاب البرية لسد جوعهن وجوع عيالهن . " لا يوجد شيء اسمه ( سوق عمل ) ، ولكن الناس تريد أن تأكل وتعيش ، والجوع مر ياعالم ! " ( ص : 22 ) ، ثم يعدن إلى المخيم ليهيئن بضاعتهن لعرضها للبيع في سوق المدينة. وهؤلاء النساء الثلاث هن : بلقيس المرأة الخمسينية المعروفة بصلابتها وتحديها وجرأتها ، وحمدة المحمودية الأرملة الأربعينية التي استشهد زوجها دفاعاً عن الوطن ، وترك لها ثلاثة أطفال ، وصالحة السمراء الثلاثينية المتعلمة النازحة مع زوجها أبو خضر من مدينة الناصرة.
ـ المسار السردي الثاني : إذا كان المسار السردي الأول رصده المؤلف لنساء المخيم ، فإن المسار السردي الثاني خصصه لرجاله ، ويمتد على مدى فصلين هما : الثاني والرابع . ويتم التركيز فيه على معاناة الرجال في جحيم كسارات الحجارة التي هي المجال الوحيد الذي يتاح لللاجئين العمل فيه . لقد كانت الكسارات في السابق فضاء مخصصاً للمحكوم عليهم من لدن الحاكم العسكري الإنجليزي ، أما في زمن اللجوء والتهجير والتشريد ، فقد أضحى فضاء للعمل الشاق ، يدخل إليه رجال المخيم تحت ضغط وإكراه الحاجة بعد أن سدت في وجوههم أبواب الرزق في أعمال أخرى ( ص : 71 وما بعدها ). في هذا الفضاء الجهنمي ، يعمل هؤلاء الرجال في ظروف غير إنسانية ، يتعرضون للاستغلال والمهانة وخطر الموت في أية لحظة. " ( ص : 76 ) ، ومن أبرز الشخصيات التي تمثل رجال المخيم العاملين في الكسارات أبو رزق زوج بلقيس ، ووحيد الأرملة ابن أحد الشهداء.
ـ المسار السردي الثالث : يختص برصد حياة مجتمع المخيم ومعاناته المختلفة ، ويمتد على مدى فصول ثلاثة : الخامس والسادس والسابع. ويعج مجتمع المخيم بالشخصيات ، بالإضافة إلى نظيرتها الرئيسية التي تمت الإشارة إليها سابقاً ، ومن أهمها أبو خضر البغل زوج صالحة السمراء ، النازح من قريته صفورية بعد أن قصف المحتلون بيته ، وقتلوا أباه ( ص : 138 وما بعدها ) ، وشخصيات أخرى تعتبر ثانوية ، ولكن لها وظيفتها في تأثيث الفضاء البائس للمخيم .
من الملاحظ أن هذه المسارات السردية الثلاثة التي تشكل المحكي الإطار ، تزخر بالمحكيات الصغرى المضمنة ، وظيفتها “ توسيع الحكي " ([1] ) ، وتسليط المزيد من الضوء على الشخصيات للتعرف على حياتها والأوضاع البائسة التي تعيشها في المخيم، أو على حياتها الماضية في أرض الوطن قبل الاحتلال ومحنة الخروج. إنها كما يقول كولن ويلسن “ أشبه ما تكون بعدسات التصوير المقربة والمكبرة التي تساعد القارئ على استجلاء جزئيات الأحداث وأدق ملامح الشخصيات والغوص في الفضاء العام للرواية. "( [2] ) وهي ترد عن طريق الحوار أو تقنية الارتداد أو من خلال صوت شخصية من الشخصيات.
يقدم لنا صبحي فحماوي من خلال هذه المحكيات الصغرى والشخصيات التي تعج بها الرواية ، صورة حية نابضة عن حياة المخيمات الفلسطينية في السنوات التي أعقبت النكبة ، ( [3] ) تجسد مأساة الشعب الفلسطيني المتمثلة في " طرد شعب كامل من أرضه ، بوسائل عديدة من الإرهاب. " ( [4] )
على مستوى الرؤية السردية ، نجد أن الذي يهيمن على السرد راو عليم ، يروي بضمير الغائب ويعلق على واقع الشخصيات ويتعاطف معها ويدافع عن مواقفها ويعلن عن آرائه الخاصة. نقرأ تعليقه على وضعية اللاجئ الفاقد للهوية " كأن اللاجئ ـ ياحرام ـ موقوف حتى عن اسم وطنه ، ولا يُعترف له بوطن ، أو أنه ليس وطنياً مخلصاً بالمرة ، ما دام قد تشرد بهذه الطريقة البشعة “ ( ص : 104 وما بعدها ) ، غير أن الروي العليم يتخلى في بعض المقاطع السردية عن مهمة السرد لرواة ـ شخصيات مشاركة في الحدث ، وأهم هؤلاء الرواة : بلقيس ـ حمدة المحمودية ـ صالحة السمراء ـ أبورزق ، فبلقيس تروي حكاية عملها المضني إلى جانب نساء أخريات من المخيم في حقول الفلاحين " الوطنيين " ( ص : 54 ) ، وتتبادل الحكي في حوارها مع رفيقتيها حمدة وصالحة حول تجاربها وتجارب غيرها مع الحيات المرقطة المميتة أيام الحصاد القائظة ( ص : 45 ) ، كما تحكي عن قطفها بعض حبات الزيتون في غفلة عن أصحابه من " الوطنيين " ، مبررة فعلها بأنها إنما تأخذ " حق الأيتام من أبناء المخيم على مائدة هؤلاء " الوطنيين المنعمين " ( ص : 55 و 62 ). وتسرد حمدة المحمودية قصة لقائها الجنسي العابر مع الشاب مسعف ذي الثامنة عشر ربيعاً تحت أشجار المزارع الوارفة الظلال بعد طول حرمان ، ومعاناتها بعد ذلك من الشعور بالإثم ، والخوف من الفضيحة ( ص : 38 ـ 42 ) ، كما تسرد صالحة السمراء ذكرياتها عن الأيام السعيدة مع زوجها أبو خضر في قرية صفورية في بيت نظيف يطل على بحر عكا ( ص: 50 ) ، وذكرياتها عن أيام الدراسة ومعلمتها بسمة المسيحية النصراوية التي كانت تدرس تلميذاتها قصائد إبراهيم طوفان الوجدانية الجميلة ، وتعرفهن على الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، وتحفظهن النشيد الوطني الفلسطيني الجميل الذي ألفه الشاعر سنة 1934 ( ص : 63 وما بعدها ) . أما أبو رزق ، فيتولى مهمة السرد حين يريد أن يسري عن رفاقه في الكسارة ، ويخفف عنهم معاناة العمل بها لحظة الاستراحة ، حيث يحكي لهم حكايات مسلية تخرجهم مؤقتاً من عالم الكسارة الجحيمي الذي يعيشون فيه ( 78 وما بعدها )
والملاحظ أن الراوي الرئيس في الرواية ، يسلم دفة السرد لهؤلاء الشخصيات ، لكي تحكي بنفسها عن أحداث تتعلق بذكرياتها الحميمة أو أسرارها الخاصة .
على مستوى اللغة ، نلاحظ أن الرواية تعتمد على التعدد اللغوي ، ويمكن أن نحدده كما يلي : اللغة العربية الفصيحة ، وهي التي تهيمن على الرواية ، ويستخدمها المؤلف في سرد الأحداث ووصف الشخصيات والفضاءات / لغة تمزج بين الفصيح والدارج ( اللهجة الفلسطينية ) ، ويتم استخدامها في بعض المقاطع السردية ، وفي بعض الحوارات بين الشخصيات / اللغة الدارجة الفلسطينية التي فرضتها طبيعة الشخصيات الواقعية التي تنتمي إلى بسطاء الناس في مجتمع المخيمات ، وغالباً ما تستخدم في حوارات الشخصيات أو في سردها بعضَ الأحداث حين يسمح لها الراوي العليم بتولي عملية السرد.
من اللافت لنظر القارئ أن الرواية تزخر بظواهر فنية وأسلوبية أبرزها : الاعتماد على طرائق الحكي الشعبي ـ السخرية ـ أسلوب التشبيه .
1 ـ طرائق الحكي الشعبي ، وتتمثل فيما يلي : التوجه إلى القارئ مباشرة ، و توالد الحكايات وتناسلها كما هو الحال في حكايات " ألف ليلة ولية " ، و " الانطلاق من العجيب إلى الأعجب إلى الأكثر عجباً “ ( [5] ) ، واستخدام طريقة الراوي الشعبي في الحكي.
2 ـ السخرية : تتميز الرواية باستخدام السخرية التي تعتبر من السمات البارزة في كتابات صبحي فحماوي. يواجه بها السارد والشخصيات الروائية واقعاً قاسياً مشحوناً بدواعي الألم والحزن لا قبل لها بمواجهته إلا بالسخرية. إنها "تؤكد أن الشرط الذي ينتج أحزاناً كثيرة ،قادر في الوقت نفسه على إنتاج ضحكات كثيرة تنطلق منه لترتد سهاماً إلى نحره " ([6] ) ، ويمكن أن نصنف السخرية في الرواية كما يلي : السخرية من الواقع المعيش في المخيمات. والملاحظ أن الشخصيات لا تستنكف من السخرية من الذات أو من الغير ، معبرة عن سخطها ونقمتها وعدم قبولها للواقع المأساوي الذي ألفت نفسها في أتونه / سخرية السارد من المنظمات والهيئات الدولية المنوط بها الاهتمام بشؤون اللاجئين وغوثهم : تصير "عصبة الأمم المتحدة" ،"عصابة الأمم المتحدة ضد فلسطين" ، مستخدماً الجناس اللغوي الذي سنصادفه في عبارات ساخرة أخرى في الرواية. وقد وظف إيميل حبيبي هذا الأسلوب البلاغي بشكل ملحوظ ، في روايته الذائعة الصيت "المتشائل" ([7] ) / السخرية من الوضع العربي المتردي المهزوم : يوجه السارد نقداً لاذعاً إلى منظمة الجامعة العربية وقممها المتعددة التي عجزت عن توحيد الصف العربي من أجل الخروج من واقع الخيبة والهزيمة ، وذلك حين يصفها بأنها “ تجمع جموع جماعات جمعية قادة القمم العربية المتحفزين للفر والفر “ . لاحظ التلاعب اللفظي في بداية الجملة ، سخريةً من واقع التشتت والتشرذم والعجز عن تحقيق الوحدة التي كانت إحدى مطامح الشعوب العربية ، ولاحظ كذلك استبعاد لفظ الكر ، دلالة على أن هذا الوضع المتردي لا يفرز إلا الهزيمة والنكوص / السخرية من الإعانة الهزيلة التي تقدمها وكالة غوث اللاجئين . إن السارد يورد على لسان الشخصيات في سائر المتن الروائي حكايات تتسم بالطرافة ، وتقطف من شفاهنا البسمة ونحن في غمار جو المأساة.
3 ـ أسلوب التشبيه : يستخدم الكاتب أسلوب التشبيه في الرواية بشكل لافت للانتباه ، يجعل منه ظاهرة أسلوبية تستحق وحدها الدراسة والتحليل. نقرأ في الرواية : " تبدو الخيام كبقايا مهاجع لواء عسكري منكسر ، جره الخراب ، فمر مستسلماً مخذولاً مدلدل الآذان في وديان فلسطين وسفوحها " ـ " يتكاثف المشردون من شواطئ بحر فلسطين ، مثل أسراب طيور مكسرة الأجنحة فلا تستطيع الطيران المحلق “ ( ص : 19 ) ـ يمر " العمال الرجال " مثل " عاملات النمل " لا يتوقفون في ذهابهم وإيابهم " ( ص : 76 ) ، والملاحظ أن التشبيه يوظف لبيان أحوال اللاجئين في المخيمات الفلسطينية ، وما يعانونه من انكسار وذل وشظف العيش.
من القضايا التي تعالجها الرواية ، وتشغل بال شخصيات المخيم البسيطة ، وتؤمن بها إيماناً راسخا ، قضيتان : قضية حق العودة ، وقضية المقاومة كسبيل لتحقيق العودة وتحرير الوطن. تقول بلقيس “ وهي تحدث نفسها بأن المقاومة وليس الاستسلام هي خير وسيلة للبقاء “ ( ص : 59 ) ، وأبلغ تعبير عن الروح المقاومة للشعب الفلسطيني ، هو ما كتبه بعفوية وبراءة الفتى رزق ـ الذي يمثل الجيل الصاعد ـ في دفتر إنشائه : " أحبك ياوطني الغالي / أحبك يا فلسطين المعتقلة خلف أشواك الحدود / وأنا مستعد للتضحية بروحي في سبيل العودة إليك أنا وأهلي كلهم .. " ( ص : 179 )
بقي أن أقول إن صبحي فحماوي قدم في هذه الرواية ، صورة مشرفة للمرأة الفلسطينية الكادحة في المخيمات وأرض الشتات ، وكفاحها المرير في خضم واقع قاس رهيب . إن بلقيس مثال للمرأة الفلسطينية البسيطة القوية المتحدية المقاومة ، وهي تذكرنا بشخصية " أم سعد " في رواية غسان كنفاني التي تحمل هذا الاسم.
إن الرواية في رأيي تكريم للمرأة الفلسطينية البسيطة الصبور المتحدية المقاومة بكل أشكال المقاومة من أجل البقاء ، لتصنع أجيالا من الأبطال ، تفخر بمقاومتهم العدو ، وباستشهادهم من أجل الوطن. ومن هنا جاء إهداء الكاتب :
" إلى الأم بلقيس شخصياً رمزاً للشقاء والتحدي".

د.عبدالجبار العلمي
كاتب وناقد مغربي