فنّان مسكون بفنّ الخزف و كأن الطين إمتداد طبيعي لروحه و جسمه يرتحل فيه عبر ذاته العميقة المتسائلة ،تراسلا و توافقا و انصهارا .رحلته مع فن الخزف غذّاها بحث مدقق و ثبّتها مراس متواصل بدأت بمدرسة الفنون الجميلة بتونس و تواصلت مع مدرسة ماسانا ببرشلونة و بين أروقة المعارض في اليابان و إسبانيا ،فأكسبته مهارة الأقدمين و أسرارهم و فتحت له أبواب التجديد فإذا بابتكاراته الخزفية تتجلى مكتفية بذاتها تاركة ما علق بجنسها من وظيفية و زخرفية تقليدية لتكون خزفا فنيّا خالصا.
خالد بن سليمان هو خطاط و رسام و خزّاف تونسي ولد في 09/08/1951 أصيل المعمورة ولاية نابل تخرج من المعهد التكنولوجي للفنون و العمارة و التعمير بتونس إختصاص خزف ،يعد من أهم الفنانين في تونس الذين عملوا على أن يكون الخزف الفني فنا قائم الذات و مجالا من مجالات الإبداع بداية من إحياء التقاليد الفنية له في تونس . اهتدائه للفن كان بفضل جملة من الرحلات التي قام به بين 1975 و 1976 إلى إيران و الهند و باكستان و بعد حصوله على شهادة المعهد التكنولوجي سافر إلى إسبانيا و التحق بمدرسة "ماشانا " الشهيرة ببرشلونة ،وبعدها عاد إلى ارض الوطن سنة 1979 حيث أقام مشغله الخاص بمنزل أسرته و حصل على و ظيفة أستاذ تربية فنية بمعهد منزل بورقيبة و في سنة 1982 تحصل خالد بن سليمان من الدولة على منحة سفر إلى اليابان دامت خمسة أشهر ،حيث مثلت هذه السفرة مرحلة مهمة جدا في حياته الفنية حيث تعلم الكثير حول ما يمثله الخزف من معاني روحية لعديد الشعوب و بدا رحلته ليساهم في تعزيز الرصيد الإبداعي و الثقافي عاملا على تحويل ممارسة الخزف من الصناعة الحرفية إلى الإبداع الفني كرد اعتبار لتقاليد الخزف في بلادنا معتمدا على ما في جعبته من خبرات و قدرات واسعة في هذا المجال مستندا إلى ما هو جوهري و روحي في التراث .

له رصيد فني زاخر بالأعمال التصويرية و الخزفية ،انتهج طريقا لم يكن مسلوكا من قبل حيث سيّطر إستعمال الرسّم الخطّي المتّبع في تحرير مواثيق الإرث المختومة بأقلام العدول و الأشياخ و عقود البيع و الانكحة على اغلب أعماله ،منبع وجده في خزانة جده فكان خامة بحث تنصب عليها تصوراته في إنشاء السطوح و هندسة الفراغ ،فجاءت خزفياته بمثابة إبداع تنجلي فيه التحولات التشكيلية للخزف و إمكاناته التعبيرية و الشكلية و تأثيراته الحسية و ترقيماته اللونية.
فإذا به يحتل تدريجيا مكانة إبداعية خاصة تلتقي إبداعاته حول منزع التجريد الذي يعبر بشكل حسي عن الرؤى الداخلية و الخارجية فتلتقي بالتالي اغلب أعماله حول اختيار جمالي تجريدي يجمع بين مكتسبات الذات من ناحية و ما تحتويه الثقافات و الحضارات الإنسانية الأخرى التي اطلع عليها الفنان و تشّبع من معانيها.
رحلة الفنان خالد بن سليمان في مادة الطين رحلة بحث عن الحقيقة رحلة في المطلق تطلب الوجود و تبحث عن اللامحدود بالإعتماد على عدة منطلقات فكانت أعماله فريدة و طريفة و متجددة أبدا لا تمثل قطيعة مع الماضي فهو على مستوى الأشكال لا ينزع لابتداع أشكال غير مألوفة بقدر ما يتمسك بالأشكال الخزفية التقليدية، حيث يستعيد عراقة صانع الفخار فكانت الأقداح ،الفناجين ،الأطباق ،الجرار هي محامله التي يعمل على إبداع رؤية جديدة لها من خلال ما يضفيه عليها من سحر فيكرّمها و يرتقي بها من منزله الوظيفي إلى مرتبة أعلى و أسمى هي مرتبة العمل الفني حيث حمّله زخما روحيا عاليا من خلال ما حمله من دلالات و رموز . و هذا ما نشاهده على الأقداح ذات البياض الناصع من خطوط غليظة سوداء ،كذلك إسم الجلالة المكرر كثيرا على نسق الذكر المتسارع ،هذا بالإضافة إلى ما جاء على المسلات الاسطوانية و الأطباق أو الصحون الصغيرة سنة 1987 من تكرار لعبارات مثل "هو" و أسماء عناصر الطبيعة الأربعة "الأرض ،الماء ،النار،الهواء". مع حلول سنة 1988 ظهرت بما يسمى بالمسلات الأفقية التي تمثل تأملات غريبة في الموت و شهدت تكاثرا خصوصا في التسعينات من خلال تلك الشواهد الروحية كتحية لسيدي قاسم الجليزي شيخ الخزافين.
فهو يعد من الفنانين القلائل في بلادنا الذين عملوا على النهوض بتقاليدنا الخزفية الأصيلة فيجمع بالتالي في خزفياته بين القديم و الحديث، نماذج عتيقة و معاصرة اعتمد في تشكيلها على ما إكتسبه طوال مسيرته الفنية من خبرات دعمتها الرحلات التي قام بها سواء كان ذلك إلى إسبانيا من خلال ما تميزت به تكويناته من إحتواء المساحات الفارغة و الألوان الأولية و العلامات و الرموز التي تذكرنا بما جاء به تابياس و خوان ميرو ،أو الى اليابان من خلال ما إكتسبه خطّه من قوة و بساطة على أرضيات فاتحة ،عناصر لولبية و خطوط متواترة و مكثفة. لكن العنصر الأبرز الذي سيّطر على أغلب مسيرته الفنية هي تلك اللعبة مع العقود القديمة التي مثلت الكنز الذي عثر عليه لينهل منه حركية الخط المبهم الذي يرقص ،ينحني يلتف حول نفسه في تعريج و إستدارة.
خزفيات خالد بن سليمان مزيج عمل خزّاف معالج للمادة و نظرة تشكيلي يعيد إبداع تصور جديد لموروثه و لمسة خطاط متعجل يرى في هذا النوع من الكتابة "خنفوسة العدول" شحنة في تعاملها مع إختصاص الخزف فيصبح الخط في أعماله اكتشاف جديد يحاول إستنطاقه بإستنطاق الطاقة التشكيلية الكامنة فيه .بما له من بعد تعبيري حيث يتحرك في شكل تراكيب و أشكال لولبية.
لم يكن الفنان يهتم بمقروئية هذا الخط حيث قال في إحدى حواراته انه تفادى حتى قراءتها لم يهتم بمدلولاتها اللغوية بل إن ما شدّه هو جماليته ،جمالية خطّية غير محدودة الحركة ،فغاية بن سليمان ليست الكتابة كما هو واضح بل هو بصدد تأثيث محامل خزفية بظلال حروف و كلمات مكررة بشكل واضح كان اللّون الأسود هو اللّون المميز لها.
كان حضور الحجم في الفضاء ينبه العين او الفكر لقراءة تشكيلية و ليس للنص ،حيث تفطن بن سليمان إلى أن الحروف و الكلمات حجم يغيبه المسطح لذلك إنتقل به الفنان إلى فضاء ثلاثي الأبعاد حيث رأى للحرف حضورا أخر غير المسطّح و اكتشاف للخط المحجم فأصبح له دور أخر غير الزخرفة هو نوع من التشّكيل من خلال حركية هذا الخط الذي أصبح في ارتباط شديد بالمادة أكثر منها بالقراءة، وأصبحت أعماله مراوحة بين هذه الثنائية ثنائية المحمل و الكتابة.
عرفت مجسماته الخزفية تنوع في الأشكال حيث تقوم حسب مسطّحات مهندسة أو كروية ،معمارية المظهر أحيانا و تضع بالدولاب مثل الأواني و الأطباق التقليدية .أو أخرى تلصقه أجزاؤها فتنتهي إلى مكعبات ،قبب و زوايا و أشكال مخروطية و أخرى إسطوانية ذات ألوان نقية متدرجة من النقي إلى الهادئ متقاربة درجاتها الحرارية متباينة قيمها الضوئية، تتخللها خطوطه المتقاطعة النحيفة و الدقيقة و رسوم مجردة هشّة رقيقة في شكل زخارف و خربشات مساحات مخففة من الألوان النقية الهادئة تحتّل أمكنة مهيكلة وسط بياض يوزع الفضاءات فإذا بالخزفية تبدو هوائية متسامية متعددة الأبعاد بياض صمت ما قبل الوجود.

تلتقي أغلب خزفياته حول اختيار جمالي تجريدي هو في حقيقة الأمر اختيار للامساك بكنه الجمالية التقليدية الأصيلة و التفاعل مع المحدثات الفنية الحاضرة في العالم ،خط و تكرار لا متناه للمفردات و الرموز و العلامات بحثا عن باطنها و جوهرها اللامكاني و اللازماني.
إبداعاته متأثرة بالتأملات في الكون و الوجود معبرة عن دواخل النفس المترددة بالألوان و الأشكال المجردة فلا غرابة في أن تلتقي إبداعاته الفنية نحو منزع التجريد و قد مكّنه هذا الإختيار الجمالي من إنتاج فضاءات متفردة تنتهي إلى التعبير بشكل مادي عن ما يخالجه.
أصبحت أعماله مسرحا تلتقي فيه لترقص العلامات و الأحرف و الكلمات و الرموز الصوفية الهندسية و العضوية لتعطي بعدا و حجما لهذه الكتابة تخترق من خلالها عوالم البعد الثالث و التكعيب و التجريد حاملة هوية جديدة. تسافر لترحل من الهوية القديمة من صناديق العدول المغلقة و المظلمة من أضرحة الأولياء الصالحين إلى عالم الخزف ،هي رحلة بحث عن الحقيقة.
من نص كتابي تصويري إلى نص تشكيلي يعكس ما يخالج هذا الفنان الروحاني، فيصبح الخزف محملها يعطيها ديمومة و حضورا متجددا ينفي عنها صفة التخفي بعد أن كانت طيّ الكتمان لتخرج في تصور جمالي جديد مستغلا خصائصها التشكيلية و ما فيها من تشابك و تداخل و انفتاح الخط و تواصله المؤدي بدوره إلى إمتداده.
نسق من الكتابة و اللّون حيث حضرت هذه الكتابات المتسرعة و البهيمة باللّون الأسود ،كما أن هناك خطوط سوداء ثخينة و رسوم مستديرة لولبية كأنها تدل على نهاية أية و بداية أية أخرى ،هي ربما مستوحاة من لوحات المدبية القرانية تدل أيضا ربما على شساعة الكون دائرات تشبه الكواكب كأنها رجع لإبحاره في البحوث الفلكية في خفايا الأرقام . للون معناه كما للكلمة معناها فهما يتقطعان أو يستقلان تماما. اللون الأسود لدى بن سليمان لون مميز صبغ كل أعماله .
كتابة الفنان بمثابة نسيج سطور تنعقد عليها الخطوط بشكل متصل تشير إلى وجهة الكتابة العربية ،هي غير مقروءة حيث تصبح الريشة من خلالها بمثابة القلم وفق حركة في الكتابة كما يقول رشيد القريشي "كما لو أن مسا كهربائيا أصابنا".
تنطلق كتابة الفنان الهوائية من النصوص الأصلية دون أن تنفصل عنها تحورها تشكيليا دون أن تلغيها ،نجد دائما في هيئتها الغرافيكية الأخيرة بعضا من ملامحها الأولى وزعها خالد بن سليمان فوق الحامل المادي لتتبادل العلاقات فيما بينها، كما يوجد عناصر أخرى غير هذه الكتابة تحيلنا إلى مراجع معروفة لا يوردها كما جاءت في صيغها الأصلية بل يصوغها من جديد فتتولد بالتالي هذه المفردات الفولكلورية في مكان جديد. مثل عبارة التبريك "وفقه الله" ،"هو"،"الله" التي تأخذ مكانها داخل التركيبة كان تأتي داخل رسم مبسط لمسجد ا وان تتوسط الأطباق و الأقداح ،أو أن تأثث سطح الأشكال الاسطوانية للتعبير عن ما هو روحاني و استغلال تأثيرها على القارئ بما هي عباراة مباركة .
الخط و الكتابة في أعمال خالد بن سليمان مادة حيّة يطوّعها و يشكلها كيف يشاء و تصبح بالتالي الخزفيات مجالا للفعل أكثر منها حيزا للنقل، و ما يجري ليس كتابة بل حدث و الهدف هو التعبير الذاتي و حاجة داخلية و روحية لوجود الفنان ذاته . فالعمل الفني تجربة معاشة فهو لدى بن سليمان ينبع من مادة الحياة ،فتعلو الحركة الخلاقة على كل اعتبار أخر ،وربما كان للصدفة و الحدثية و العرضية و الاحتمال و الآنية دور في إبداعاته خاصة تلك الخطوط المنسابة أو تلك اللطخات على المساحات الفاتحة و كان الفعل يتولد عن تتابع الحركات المرتجلة على سطح الخزفيات و هذا ربما يذكرنا نوعا ما بما جاء به الرسام الأمريكي جاكسون بولوك و غيره من رواد الرسم الحركي الذي ينزع نحو تفعيل الحركة و التلقائية في الأداء فتصبح بمثابة الكتابة الآلية.
مجسمات خزفية تتخذ شكل كتل منتصبة تقوم حسب مسطحات مهندسة أو كروية ،معمارية المظهر ،تصنع بالدولاب مثل الأواني أو تلصق أجزاؤها فتنتهي إلى مكعبات و قبب و زوايا و أشكال مخروطية و أخرى اسطوانية و ألوان رمادية زرقاء ينبع الضياء من بريق طلائها.
نسق سريع لكتابة لا محكوم بقواعد النظام و الترتيب المتعارف عليها في مجال الكتابة و الذي يولد تكرارا واضحا للحركة الدائرية على كامل المساحة،عقدة جامعة لمسارات الخط المناسبة لتكون ازدواجية الانفتاح و الانغلاق الكامن في ذات الحركة المتصلة بتعرجات الخط لصنع إيقاع حركي نشيط، شحن مساحة الأثر بذبذبات متغيرة من حيث السمك و الشكل تتجاوز حدود المعنى و تتشكل كواقعة خطية تنصهر داخل تركيب لا محدود في تجربة خالد بن سليمان، يستدعي القارئ للإبحار في ثنايا هذه الشبكة و يستدرجه لتفكيك منتجات المتاهة الخطية بصريا،هي جمالية الحركة و دلالاتها الذهنية و الروحية و التشكيلية الكامنة في الكلمات الساحرة التي ينتقيها الفنان ،هي دعوة للإنعتاق من الحدود و دفعا نحو الامتداد لتصبح عالم من العلامات المجردة التي تغوص بنا في مجالات الرمز و الدلالة و منه إلى جوهر التشكيل .
خزفيات بمثابة إحالات للخط بين الحظور و الغياب ،كتابة و تأثيث فضاءات و محامل خزفية بظلال حروف هو بمثابة حضور للحجم ينبع العين أو الفكر لقراءة تشكيلية و ليس للنص في حد ذاته. تجاوز الخط سجن المسطح من خلال معاشرته للمادة أصبح كأنه في تماه مع المادة الطينية و بالتالي يصبح للحرف حضور أخر غير المسطح ،خطّ محجم يتجاوز الغايات الزخرفية إلى أخرى تشكيلية .
أعمال خزفية تغدق حساسية سخية مرهفة ، تترجم تداخل ألوان و خطوط مطّهرة تكاد تنفصل عن ماديتها بماهي هشة ،غضّة التكوين فهو يؤكد في كل شكل خزفي يتعامل معه على نزوعه اللامحدود إلى إدراك ذالك الرابط بين العالم العلوي و أخر السفلي من خلال علاماته و رموزه و كلماته كلها إحالات ترتقي بالخزف إلى ذلك السجل الروحاني، و الذي يدخل القارئ في فضاء شعري ليس خطي بل يقوم بتعليق مسار القراءة في جدول العلامات حيث ينمحي فيه التعارض بين الشكل و المحتوى و بين الدال و المدلول ،انه ينتظم لوحا أخر للقراءة ،وفضاء غير محدد منفصما بين الكتابة و الحركة الخطية، و بين الخطية و التشكيل إلى درجة يكف معها مسار الخط أن يكون هدفا في حد ذاته لأنه إيقاع و حجم معا و الحركة الأولى لصورة آتية لا ريب فيها أن أجلا أو عاجلا ،هي العلامة فمن خلالها ينكشف الإنسان اللامنتهي ...رغبة .
خالد بن سليمان تمكن بمهارة الخزاف و حساسية الرسام من إحتواء المساحات الفارغة و الألوان الأولية ،كما لم يكن وعيه بالزمن إعتباطي بل كان كائنا حساسا يبحر في الغيبيات كمنبع للوحي و مصدرا للرزق و برزخا للأرواح ،و من هنا نتبين البعد الروحاني في أعماله كأساس للخلطة السحرية لخزفياته الملونة . يرتكز خالد بن سليمان كثيرا على موروثاته المادية و الروحية ليرتكز عليها الحدس الفني لديه فيصبح الإبداع معه حرا طليقا يأبى الأسر حيث يغدو التشكيل لديه مشهدية مشبعة بالعلامات و الكتابات من حروف و عبارات و أسهم و رموز تظهر للوهلة الأولى طلسمية و لفك سرها لابد من الغرق في عالم الفنان الروحاني هذا الفنان المسكون بالتصوف .
رهان خفي لتعميق صلة القربى بين الفنان و أصالته و بينه و ذاكرته ،ترويض للماضي من خلال ابتكار المستقبل حتى يتجرد العمل الفني و ينفلت من الزمن و حتى يتسامى عبر الاستعادة الدائمة للزمن و إنشاده.

دلال صماري
باحثة و تشكيلية تونسية