[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
ارتفاع مداخيل وموازنات العديد من الدول دفعها إلى التوسع في ترسانتها العسكرية, الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة واضحة في أعداد الصراعات والنزاعات والتدخلات الدولية, بل وأبرز ظاهرة سياسية ربما تكون جديدة بعض الشيء على التاريخ السياسي, وهي ظاهرة ارتفاع سقف رغبات النفوذ والهيمنة عند الدول الصغيرة ذات الثروات المالية الكبيرة, والتي كان لها أبلغ الأثر كذلك في توسيع تلك الدائرة من الصراعات والنزاعات والحروب العابرة للحدود الوطنية.

في العام 2005 كتب الدكتور اوديد شينكار في كتابه العصر الصيني (يتوقع المشهد التصادمي أزمة تخيم على الولايات المتحدة الأميركية والصين, ستصل ذروتها إلى تصادم في التيارات الاقتصادية والسياسية وفي مجالات الأمن القومي ... وستقوم الإدارة والكونجرس بفرض الرسوم الجمركية وإجراءات الحماية الأخرى, وستذهب الإدارة هذ المرة إلى أبعد مما تنص عليه الحصص النسبية الواردة في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية... ولا يستبعد أن تتخذ الولايات المتحدة إجراءات أحادية الجانب مثل الرسوم التأديبية من أجل حماية صناعتها من خارج إطار منظمة التجارة العالمية, مهددة بذلك نظام التجارة العالمي)(1)
طبعا ليس وحده الدكتور شينكار من توقع مثل هذا السيناريو التصادمي بين الولايات المتحدة الأميركية والصين, فقد سبقه إلى ذلك العديد من المنظرين والباحثين السياسيين والاقتصاديين كبريجنسكي وفوكوياما وهنري كيسنجر وجومسكي وبورشتاين وهذه الأسماء هي على سبيل المثال لا الحصر, فالمسألة ـ كما يبدو ـ طبيعية جدا عند الحديث عن قوة عظمى تحاول البقاء على رأس قمة الهرم السياسي والاقتصادي العالمي، وأخرى تسعى إلى المنافسة على ذلك المقعد الاقتصادي, وعلى ما يبدو بأنها تسير في المسار الصحيح في حال ظل سيناريو الاستمرارية كما هو. وبتصوري الشخصي أن العقد الثالث من القرن الـ21 سيكون العقد الأخير الذي يحدد نهاية ذلك المسار المتعلق بالتنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين.
وهذا (ما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الصين ستكون على الأرجح ساحة التنافس ـ الاقتصادي ـ في القرن الحادي والعشرين, إذا سوف تتنافس الشركات الأميركية واليابانية والأوروبية والآسيوية بعضها مع بعض, مع الشركات الصينية العملاقة المحلية, من أجل الحصول والسيطرة على الصناعات والأسواق الرئيسية) (2)
لذا يمكن التأكيد في هذا السياق على أن هناك أسبابا كثيرة ومتعددة لقيام ما يطلق عليه بالحروب التجارية بين الدول بوجه عام, وبين الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص, يدور أغلبها من وجهة نظري حول التنافس على المصالح الجيوسياسية ورغبات الهيمنة والنفوذ والسلطة على رقعة الشطرنج العالمية, كما قد تؤدي بعض القضايا السياسية والأمنية إلى الدخول في ذلك النوع من الصراعات والنزاعات بين القوى الدولية, كما قد تلجا بعض القوى الفاعلة في النظام الدولي إلى هذا النوع من الصراعات كنتيجة طبيعية عند شعورها بتراجع أو انهيار منظومتها الاقتصادية, ما يدفعها إلى اللعب بهذه الورقة لإعادة التوازن أو لتقليص الفجوة في القوة الاقتصادية المواجهة, أو لتضييق الخناق على اقتصاد الدول المنافسة. أو لحماية ما تبقى من مصالحها الاقتصادية المهددة من قبل القوى الناشئة.
ومن أبرز الأمثلة الحاضرة على مثل هذه التوجهات في النظام الدولي الراهن تلك السلوكيات السياسية والتوجهات والقرارات الاقتصادية والتجارية التي اتخذتها كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين في الفترة من العام 2016م – 2018م في حق بعضهما البعض, والتي كان آخرها في شهر أبريل من العام 2018 عندما قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية على واردات بلاده من الفولاذ والألمنيوم والتي ردت عليها الصين بتاريخ 6 أبريل بإجراء مماثل على سلع أميركية مختلفة. وما زالت نتائج ذلك القرار وردود الأفعال المتبادلة عليه مستمرة حتى يومنا هذا.
وتعليقا على التطورات الأخيرة (قال أنجيل جوريا الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين مقلق للغاية, وأوضح جوريا في معهد تشاتام هاوس الدولي البحثي في لندن: هذا أمر مقلق للغاية. تتحدثون عن أكبر بلدين تجاريين في العالم. وأضاف: هذا ليس في مصلحة أحد، إنه أمر سيئ... وضع يخسر فيه الجميع)(3)
ويلحظ المتتبع لتلك المتغيرات والتحولات الكبرى الحاصلة في النظام العالمي أن العولمة الاقتصادية أدت إلى انهيار الكثير من الحدود الفاصلة بين الفوضى والاستقرار في النظام الدولي بالقرن الـ21, سواء كانت تلك الحدود فواصل قانونية أو سياسية أو أمنية أو غير ذلك, الأمر الذي أدى بدوره إلى تمزق العديد من السياسات والعلاقات بين الدول, وللأسف الشديد كان على قائمة تلك الجوانب التي تأثرت بمد العولمة الاتفاقيات التجارية التي لم تعد تؤدي أحد أهم أدوارها الرئيسية, وهو الدور السياسي والأمني في إحلال الاستقرار والسلام بين الأمم والشعوب انطلاقا من مبادئ الاعتمادية أو التبادلية على سبيل المثال لا الحصر.
حيث إن للتجارة (دورا بالغ الأهمية في منع الحرب, لأنها تعزز تأثيرات مهدئة مباشرة وغير مباشرة, فبجانب الأثر المباشر, هناك آثار غير مباشرة للتجارة الحرة على تقليل مخاطر النزاع العسكري, وذلك عن طريق النمو والازدهار الاقتصادي والرفاهية وكذلك الديموقراطية, وبما أن استثمار المكاسب المتحققة من التجارة هو الهدف أو الجوهر الرأسمالي والأسواق الحرة)(4) و(لهذا السبب يرى البعض بأنه يمكن جيدا للجيو ـ اقتصاديين وغيرهم أن يصلوا إلى قناعة بأن الصراع العسكري يتراجع عندما تزاد التبعية المتبادلة التجارية أو المالية بين الأمم)(5)
كذلك ومن الجوانب التي أصابها التأثير في هذا السياق النمو الاقتصادي للدول، والذي كان له أبلغ الأثر في توسيع دائرة الاضطراب والصراع على رقعة الشطرنج العالمية في وقت كان يفترض فيه أن يكون للنمو الاقتصادي الدور الأبرز في رفع مستوى الاستقرار السياسي والأمن الإنساني وإحلال السلام بين البشر. فارتفاع مداخيل وموازنات العديد من الدول دفعها إلى التوسع في ترسانتها العسكرية, الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة واضحة في أعداد الصراعات والنزاعات والتدخلات الدولية, بل وأبرز ظاهرة سياسية ربما تكون جديدة بعض الشيء على التاريخ السياسي, وهي ظاهرة ارتفاع سقف رغبات النفوذ والهيمنة عند الدول الصغيرة ذات الثروات المالية الكبيرة, والتي كان لها أبلغ الأثر كذلك في توسيع تلك الدائرة من الصراعات والنزاعات والحروب العابرة للحدود الوطنية.
وبحسب رأي هنتجتن في كتاب صدام الحضارات من أن التجارة بين الدول قد مزقت السياسة العالمية عبر أساليب مختلفة جميعها تدور حول الأثر السلبي للنمو الاقتصادي على واقع الأمن والاستقرار السياسي والعسكري قائلا إن: (النمو الاقتصادي يمكن الدول الآسيوية من توسيع قدراتها العسكرية، ويثير القلق بشأن العلاقات المستقبلية بين هذه الدول ودفع إلى الصدارة بقضايا ومنافسات كانت مكبوتة, كما أن النمو الاقتصادي يزيد من حدة الصراعات بين المجتمعات الآسيوية والغرب والولايات المتحدة الأميركية ويقوي من قدرات المجتمعات الآسيوية على أن تسود في تلك الصراعات, كما أن النمو الاقتصادي لأكبر قوة في آسيا يزيد من النفوذ الصيني في المنطقة وسيطرتها التقليدية في شرق آسيا)(6)