[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2015/03/must.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أحمد مصطفى[/author]
في خضم كل ذلك تبدو الصحافة، على الأقل تقليديا بالطريقة التي عرفناها على مدى عقود، هي التي تتعرض للتهديد الأخطر ولم يعد ممكنا إغفال خطر زوال المهنة بكل قيمها ومعاييرها أمام موجات التغيير الهائلة التي يصعب وقفها، إن لم يكن حتى من المستحيل مقاومتها.

تواجه الصحافة بشكل عام، وليست المطبوعة فحسب، تحديا هائلا يفرضه واقع الانتشار السريع للإنترنت وتحول منافذ مثل ما تسمى مواقع التواصل إلى مصدر رئيسي للخبر والمعلومة والرأي. ويختلف الواقع الحالي عما واجهته الصحافة المطبوعة مع ابتكار الإذاعة وبقيت وإن ضعفت، وما واجهته الصحف والإذاعة مع ظهور التلفزيون واستمر الثلاثة كمنافذ وأدوات توصيل صحفية. أما التحدي الذي يفرضه انتشار الإنترنت وارتباط الهواتف المحمولة بها فهو مختلف تماما لأنك أمام "وسلة توصيل" تتضمن الثلاثة معا: النص المكتوب والصوت والصورة. ومع تطوير أشكال جديدة للمحتوى تتضمن العناصر الثلاثة مثل الانفوجرافيك والفيديوجرافيك أصبح الوسيط الجديد بسهولة بديلا عن أدوات التوصيل الثلاثة التي لم يمح أحدها الآخر، وظلت جنبا إلى جنب توصل الخبر والمعلومة والرأي ويستخدمها الصحفي بالتوازي أو بالتكامل. فنحن الآن أمام وسيلة توصيل تجمع كل تلك الأدوات وأكثر سهولة في الانتشار وسرعة في الوصول والتوصيل ووفرة غير مسبوقة في الكم.
كل ذلك يمكن أن يكون تطورا مهما أضافته الابتكارات التكنولوجية التي لا يمكن إلا التكيف معها ومحاولة الاستفادة منها، لكن الأهم أن تلك الأداة والوسيلة نفسها تعمل على أن تحل محل الصحافة بإنتاج المحتوى، أو "تجميع" aggregation المحتوى ـ لتوخي الدقة ـ من منتجين متطوعين غير مهنيين بالضرورة. وهكذا نشهد الآن، بعد ما سمي Citizen Journalist الصحفي المواطن، ما يمكن تسميته Crowdsourcing للأخبار والمعلومات أي تجميعها في موقع أو محرك بحث من قبل مشاركين فيه يتطوعون بذلك بحماس من يريد أن ينشر شيئا أو يشاركه مع من يرتبط بهم عبر هذا الموقع. وهذا هو الخطر الحقيقي على الصحافة كمهنة وعلى دورها في المجتمعات الديموقراطية وغير الديموقراطية على السواء، ولا يبالغ المرء إن رأى أنه خطر على دور الصحافة في دعم ما يحفظ استمرار البشرية على هذا الكوكب. لأن اقتصار الأمر على وسائل جديدة للتوصيل وأدوات للنشر والبث يمكن أن يكون ميزة للصحفيين تسهل عملهم، وتجعله أكثر انتشارا وتأثيرا، ويبقى العبء على الناشر في تعظيم استفادته التجارية من تلك الأداة الجديدة بابتكار "نماذج عمل" تأخذ في الحسبان العائد الإعلاني والترويجي من النشر والبث عبر الإنترنت ومن خلال مواقع كبرى أو تطبيقات وسائل التواصل.
لكن التطور التكنولوجي الهائل الذي نشهده يمثل تحديا للجميع مرة واحدة، ولا يكاد الآن يترك فرصة للتمييز في اكتساحه بين ناشر وصحفي وما يسمى "إعلامي"، ويرسخ فعليا دور المنتج والموزع ومستقبل الإعلانات وعائدها ـ وهذا ما جعل شركات مثل فيسبوك وتويتر، وقبلها جوجل وأمازون، وغيرها كيانات اقتصادية هائلة تتجاوز قيمتها السوقية ميزانيات دول كثيرة. ربما فات أوان الحديث عن مسألة النشر والبث كعملية تجارية بحتة، فذلك أمر يبدو محسوما لصالح منافذ جديدة تعتمد التكنولوجيا، وتعمل على تطويرها، وتحقق عائدات وأرباحا تجعل طرق النشر والبث التقليدية إلى زوال أكيد. لكن الخطر هنا مرة أخرى أن تلك الأدوات الجديدة لا تبدو معنية كثيرا بالجودة والدقة، بل ربما تعمد قاصدة إلى التغاضي عن هذه المعايير حتى تنتهي تماما بما لا يعيق التوسع والانتشار وتعظيم العائدات والأرباح. وإذا كان بزنس النشر يتعرض إلى ضغط شديد، فإن ذلك التحول ربما كان مفيدا لمهنة الصحافة وتطورها مع ابتكار أساليب توصيل أكثر شيوعا وتأثيرا. وربما تمكن الناشر الذكي من تطوير نموذج عمله للاستفادة من التكنولوجيا و"ركوب" موجة الإنترنت. ومن شأن ذلك أن يقلل من حالة الاحتكار الهائلة لبضع شركات قليلة تستحوذ على كامل فوائد التكنولوجيا تقريبا.
في خضم كل ذلك تبدو الصحافة، على الأقل تقليديا بالطريقة التي عرفناها على مدى عقود، هي التي تتعرض للتهديد الأخطر ولم يعد ممكنا إغفال خطر زوال المهنة بكل قيمها ومعاييرها أمام موجات التغيير الهائلة التي يصعب وقفها، إن لم يكن حتى من المستحيل مقاومتها. وإذا كان الصحفيون اعتمدوا في السابق على الناشر وصاحب بزنس البث والتوصيل مقابل عائد الإعلانات أو الدعم الحكومي أو المؤسسي المباشر فلعل الخطوة الأولى هي تجاوز ذلك والبدء في التفكير بطريقة مختلفة تماما. فجوجل لا يوظف صحفيين، وفيسبوك وتويتر قد يكونان بالفعل "ضد الصحافة" كما يعرفها أبناء المهنة، وهذا هو حال كل تلك الشركات العملاقة التي لا يهمها كثيرا كون الأخبار "كاذبة" أو الآراء عنصرية أو حتى مساهمة البعض بمحتوى ينافي القيم الإنسانية الأساسية من قبيل ما يحض على العنف والكراهية والتمييز. وقد حظيت تلك المنافذ العملاقة بتأييد كثيرين ممن يكرهون الصحافة طالما لم يستطيعوا استغلالها بالسيطرة عليها. ولنا في رئيس أكبر دولة في العالم نموذجا، إذ إنه يستخدم تويتر لنشر آرائه (التي أحيانا تكون استنادا إلى مغالطات فجة) ومهاجمة وسائل الإعلام متهما إياها بأنها مصدر "أخبار كاذبة".
وإذا سلمنا بنهاية النشر والبث بالطرق التقليدية، فهل يعني ذلك نهاية الصحافة؟ وهل فات الأوان لمحاولة استعادة المهنة مع انتشار مصادر الأخبار والمعلومات والرأي من مستخدمين للإنترنت إلى قادة وزعماء ورجال أعمال يجدونها وسيلة للتأثير والترويج؟ في رأيي أن اندثار النشر والبث التقليدي لا يجب أن يفضي إلى نهاية الصحافة، وأن هناك فرصة للحفاظ على مهنة، مع تطويرها مستفيدين من التكنولوجيا ومبتكراتها، لكن لهذا حديث آخر.