[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/kazemalmosawy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]كاظم الموسوي[/author]
ما حصل في قضية الكهرباء جرى مع النفط والغاز والمياه، وغيرها من المجالات والفرص. وكشفت الاحتجاجات صورة من الخراب العام في هذه القطاعات، أو سلطت الأضواء عليها مذكرة بما كان وما يجب أن يكون، ولم تتمكن الحكومات من تغييرها، خلال كل هذه الأعوام المتعاقبة، ولعل هذه الاحتجاجات الآن تفتح الأعين وتغير المسار وتعيد العراق إلى مكانته الحقيقية في كل الأصعدة والقطاعات.

لم تكن الاحتجاجات العراقية في المحافظات الجنوبية خصوصا جديدة، بل تتكرر كل عام منذ سنوات، وتحت الأسباب ذاتها والشعارات نفسها، وتتلون حسب ظروفها أو المتظاهرين فيها، من أبنائها أو من خارجها. وكما حصل في السنوات السابقة حدث هذا الصيف في العراق، اندلعت التظاهرات في مدينة البصرة، أولا وتتالت للأسباب ذاتها في المحافظات المجاورة، الجنوبية، الناصرية والعمارة والسماوة، ولتمتد إلى الفرات الأوسط، محافظات الحلة والنجف وكربلاء، وصعودا إلى محافظة الكوت، والعاصمة. والصيف في العراق يتميز كما حال دول الخليج بمواسم حارة جدا، ترتفع فيها درجات الحرارة في الظل إلى أكثر من خمسين درجة مئوية، وترتفع نسبة الرطوبة بالتتابع، وتصبح الأجواء خانقة وصعبة مما لا يسمح بالتعامي أو التغاضي عن الحلول المطلوبة لمثل هذه الأوضاع. وفي كل الحالات الشعارات التي ترفع في هذه التظاهرات هي نفسها أيضا، المطالبات بتوفير الخدمات، الكهرباء والماء، وللأسف لم تسهر لا الحكومة المحلية ولا المركزية على تنفيذ واجباتها أو وظيفتها الأساسية فيها، بحيث لا يمكن تصديق ما يجري وما يحدث. ففي الوقت الذي ترتفع فيه درجات الحرارة تقطع الكهرباء، إلى درجة قاسية وأحيانا نهائيا، وفي هذه الأجواء لا يتوفر بشكل طبيعي ماء الشرب، فإما يقطع أو ينزل بنسبة عالية من الملوحة، بحيث لا يصلح لا للشرب ولا حتى الاستعمالات اليومية، فضلا عن تأثيره الصحي والزراعي والبيئي. فإذا أضيف لهذا القصور الصارخ للسلطات المتحكمة في هذين الأمرين المهمين، البطالة المتزايدة، البحث عن عمل يسد معيشة العوائل التي لا مورد لها غير انتظار التوظيف أو الحصول على أي عمل يعوض عن غيره، يمكن الشباب خصوصا تدبير أمور حياتهم الطبيعية، وإذا أضيف لهذا أيضا تفشي الفساد الإداري والمالي والسياسي فتصبح المشكلة كبيرة ولا تجد جماهير هذه المدن فرصة لها أو أملا بإصلاح أو إجراء ملموس يحل لهم هذه المشاكل المتفاقمة، وهم يرون أمامهم كيف يتصرف المسؤولون وماذا يملكون وينهبون من المال العام ومن الوظائف والخدمات والتفنن في الخداع في كل ما يتعلق بحياة الناس اليومية.
تتسع التظاهرات في محافظة البصرة، فتشمل مناطق جديدة، بعدما بدأت في كرمة علي التي شهدت مقتل شخص وإصابة أربعة آخرين في إطلاق قوات الأمن النار على المتظاهرين. وينصب محتجون خيما على الطريق العام، معلنين اعتصاما مفتوحا لم يحددوا مدته حتى الاستجابة لمطالبهم. ولم تنتهِ عند هذه الحدود، إذ فقدت الثقة والمصداقية بين الوعود والمواعيد، بين المطالب والتنفيذ، بين التطبيق والإنجاز. فتطورت وسائل الاحتجاج وقيل عن تدخلات سياسية فيها، حيث تم حرق الإطارات لقطع الطرق بين المحافظات والمدن الأخرى، وصولا إلى اقتحامات لشركات النفط ومؤسسات حكومية وحزبية وصدامات مع الأجهزة الأمنية واستخدام السلاح فيه.
الحال نفسه، في باقي المحافظات، فامتدت الاحتجاجات إلى محافظة العمارة، حيث تجمع مئات من المواطنين، في تظاهرات ليلية، مطالبين بتحسين الخدمات الأساسية. كما وصلت حماستها إلى محافظات النجف والسماوة وبابل، حيث ردّد عشرات ومئات المحتجين الغاضبين شعارات تندد بالفساد الإداري والمالي وضياع الأموال على ملف الكهرباء وهدرها من دون تطوير الخدمات، وطالبوا بإيجاد حلول سريعة مع حلول فصل الصيف وتصاعد درجات الحرارة إلى مستويات عالية..
توازت معها التظاهرات الاحتجاجية في محافظة الكوت، إذ بدأت بتجمع مئات المحتجين في ساحة تموز، احتجاجا على ضعف الطاقة الكهربائية، ورفعوا شعارات أيضا تطالب الحكومة بتوفير الخدمات. ومعها شاركت مئات المواطنين في الناصرية احتجاجا أيضا على نقص الخدمات أو انعدامها، وانطلقوا لقطع الطريق المؤدي إلى وسطها، وإشعال إطارات وسط الشوارع. وتضامنا مع هذه الاحتجاجات انطلقت تظاهرات في مدن متعددة من محافظة بغداد. وهكذا نرى أن شرارات الاحتجاجات تجددت في هذه المحافظات الجنوبية والفرات الأوسط والوسطى والعاصمة، لما عانته من قصور واضح في الخدمات وانتشار الفساد وفشل الحكومات المحلية في إدارة أعمالها واتهامها أو حكم على بعضها بالفساد والرشوة والسرقة وضعف قدراتها في التخطيط والعمران.
من أبرز ما عاناه العراق بعد الغزو والاحتلال خطط المحاصصة الطائفية واستشرائها في السلطات المركزية أساسا، وتباين المشاعر الوطنية إزاء هذا القصور والنقص الصارخ في وظيفتها ومهماتها وأعمالها، حيث تعاقب على إدارة حقيبة الكهرباء، مثلا، وزراء من طوائف وأحزاب مختلفة، فشلوا جميعا في إيصال البلاد إلى نقطة سد الحاجة من منتجها المحلي، بل أنهى معظمهم مدته متهما بالفساد المالي والفشل في إيجاد حلول لهذه الأزمة المزمنة. بل وأخرجت بعضهم أجهزة إدارة الاحتلال من السجن وهربتهم خارج العراق، ومارست دورها التدميري حتى في عمليات التحديث والإنتاج والشراء والإدارة العملية المطلوبة. ولا توفر المؤسسات العراقية المختصة أي بيانات ثابتة عن حجم الإنفاق في قطاع الطاقة، لكن القول المعلن إنه بلغ نحو 40 مليار دولار منذ 2004. وهذه المليارات ضاعت في طريق تحقيق خدمة ناجحة وقادرة على الوفاء للوعود الكاذبة التي لو سجلت اليوم لكانت وحدها سببا لمحاكمة كل من تحمل مسؤولية في هذا القطاع المهم في العراق، كغيره من البلدان، وفي فصل الصيف العراقي خصوصا. وسجلت خلال الأعوام المتتالية "خروقات كبيرة في عقود الكهرباء تمثلت في التعاقد على محطات توليد لا تتناسب والأجواء العراقية، أو شراء قطع غيار بمبالغ طائلة ظهر أنها غير مطابقة للمواصفات، أو التعاقد مع شركات غير متخصصة أو وهمية لصيانة محطات الطاقة وأبراج النقل"!
ما حصل في قضية الكهرباء جرى مع النفط والغاز والمياه، وغيرها من المجالات والفرص. وكشفت الاحتجاجات صورة من الخراب العام في هذه القطاعات، أو سلطت الأضواء عليها مذكرة بما كان وما يجب أن يكون، ولم تتمكن الحكومات من تغييرها، خلال كل هذه الأعوام المتعاقبة، ولعل هذه الاحتجاجات الآن تفتح الأعين وتغير المسار وتعيد العراق إلى مكانته الحقيقية في كل الأصعدة والقطاعات. الكل يعرف أن الثروات موجودة والطاقات كبيرة ولكن للأسف الإدارة مفقودة والشعور بمسؤولية بناء الدولة لم تترسخ بعد. ولهذا لا بد من أن تكون هذه الاحتجاجات آخر جرس إنذار!