[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"] د. محمد الدعمي[/author]
".. والحق أقول، بأن الذي يفرح ويسعد أي رجل محترم عندما يوصف بأنه "فارس"، إنما هو طقم من السجايا والفضائل التي لا يكمن عليها رعاع القوم وضعاف نفوسهم والمحدودي التطلع الاجتماعي والأخلاقي، ذلك أن الفروسية إنما هي الشجاعة والانتخاء وغوث الضعيف ومساعدة المرأة المثكولة، معاونة الفقير والكرم الحاتمي من بين جميع الفضائل.."

يخطئ الكثيرون "الفروسية"، معتقدين أنها فنون الفروسية القتالية فقط، كالمبارزة والتصويب الدقيق وركوب الخيل وارتقاء ظهور الجمال بسرعة خاطفة، ناهيك عن قدرات المرء في سرعة حركة السيف الخاطفة، والرمي بالرمح واستعمال القوس والنشّاب بدقة، كأن يصيب "الفارس" تفاحة مثبتة على رأس شخص أو أن يقطع عصا خشبية في "رمشة عين"، من بين سواها من أعاجيب الفنون العسكرية المتوارثة منذ العصر الوسيط المبكر.
بيد أن المبرزين من أصحاب هذه الفنون العسكرية ما لبثوا وأن غارت نجومهم في غياهب النسيان، خاصة بعد أن تم استبدال السيف بالبندقية والمسدس، والمنجنيق بالمدفع ذاتي الحركة وبالطائرات المقاتلة والقاصفة. وبذلك، فقدت الفروسية التقليدية القديمة بريقها، بعد أن كانت تهيمن على القصص الشعبي والحكايات المأثورة التي راحت، هي الأخرى، تخبو، ثم تنطمر فيطويها النسيان، بعدما حلت شواخص من نوع جديد محل العتيد من الفرسان: "السوبرمان" محل "عنترة"، وحلّ الحاسوب (الكومبيوتر) محل فاعلي المعجزات من أبطال الحكايات الدينية والفلكورية الذين لم يتمكنوا أن يواكبوا عصر الحاسوب والشبكات الرقمية، حيث استبدلت حتى مفاهيم البطولة والفروسية بأشكال أخرى من الفروسيات والبطولات، ولكن "الإلكترونية" هذه المرة، تلك التي لا ترى ولا تسمع إلا على أجهزة الحاسوب (الكومبيوتر) والألعاب الإلكترونية التي طردت أبا زيد الهلالي وأمثاله من عوالم الطفولة والحكاية الشعبية لتمسخ معنى البطولة والفروسية كما غرسها الدين والأسرة والتراث في نفوسنا ونحن يافعين صغار السن.
والحق أقول، بأن الذي يفرح ويسعد أي رجل محترم عندما يوصف بأنه "فارس"، إنما هو طقم من السجايا والفضائل التي لا يكمن عليها رعاع القوم وضعاف نفوسهم والمحدودي التطلع الاجتماعي والأخلاقي، ذلك أن الفروسية إنما هي الشجاعة والانتخاء وغوث الضعيف ومساعدة المرأة المثكولة، معاونة الفقير والكرم الحاتمي من بين جميع الفضائل التي تميز سراة القوم عبر التاريخ من أصحاب الشأن الذين يعرفون أن الثروة ليست ثروة المال والذهب المكنوز، وإنما هي ثروة الذكر الطيب الذي يترك في النفوس نفحا طيبا مثل المتلاشي من نفوسهم وآمالهم الكبار.
بل إن الفروسية يمكن أن تمتد من جيل إلى جيل تال في خط توارثي، فيقولون رحم الله فلانا على تربية ولده أو ابنته بهذه التربية الأخلاقية الرفيعة! وهذا هو غاية ما يتمناه المرء من معطيات الفروسية الحقة، تلك التي لا تسكت على الضيم ولا تغمض العين عن الظلم ولا تتركه لحاله، دون تدخل "فروسي" أخلاقي يعيد المعايير إلى أماكنها، ولا يرضخ للعبث بها، خاصة في عصرنا هذا؛ إذ لا يعجب الإنسان من بث إعلامي لا ملتزم يمجد الرذائل من الصفات الذميمة. بدلا عن الفضائل من صفات الفروسية الطيبة.
وإذا كان صديقي جنرال المشاة الكبير يعتقد بأن الفروسية هي فنون القتال بالأسلحة القديمة فحسب، فإن عليه أن يدرك الآن أن هذه هي واحدة فقط من سجايا الفروسية، فالفروسية عند العرب القدماء تشمل كذلك ركوب الخيول والجمال والقتال وروح المجازفة والمغامرة، كما تشمل حسن القول، درجة الشعر والتفنن باللغة نثرا كذلك، وهي تشمل حتى التغزل بالجمال وبالمرأة، ذلك الغزل العذري الذي لا يهبط إلى حدود الحسية العمياء المخدشة للمشاعر وللذوق الرفيع. هكذا كانت الفروسية العربية والأوروبية والعالمية عبر التاريخ، ولم تزل هي كذلك.