[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
”..أحيانا أعثر على كنز دفين في صفحات أحد الكتب القديمة التي أحرص على الاحتفاظ بها في مكتبتي المتواضعة رغم غزو الشبكة العنكبوتية وطغيان السرعة أي (الفاست فكر على غرار الفاست فود) فأجلس لأعيد قراءة كتاب أو بعض كتاب كنت طالعته سنوات المراهقة والشباب وأستأنس برأي عبقري لا تزال حرارة الحقيقة فيه حية حارقة ولم يطفأ الزمن الدوار لهيبها ...”
ــــــــــــــــــــــ
يعيش العرب منعطفا خطيرا من منعطفات التاريخ وبالأمس فقط أحصيت عدد شهداء غزة الذين يربون على الألفين وضحايا العنف في سوريا وليبيا وتونس ومصر واليمن فأيقنت كما أيقن الناس أن ما يسمى الربيع العربي مهدد بإنحراف نحو المجهول وبإختطاف شهادة الشهداء ليتحول العالم العربي إلى بؤرة فوضى. وعدت إلى بعض كتب حكماء العرب السابقين لعلها تمنحني قبسا من نور ونار. صحيح أن العلماء ورثة الأنبياء لا في الرسالة فهي حكر على أنبياء الله تعالى إلى عباده ولكن الله سبحانه قال في كتابه الحكيم: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر 9) . و من الذين يعلمون سواء اتفقنا معهم أو اختلفنا أهل الأدب العربي والذين أرخوا لمجد المسلمين والذين جاسوا خلال تاريخ الأمة الإسلامية منذ فجر الرسالة إلى الفتنة الكبرى إلى الفتوحات ومن بين هؤلاء شيخان من شيوخ الأدب هما عباس محمود العقاد بعبقرياته الشهيرة وطه حسين بروائعه التاريخية المعروفة رغم ما انتقدوه فيه عن كتاب (الشعر الجاهلي). وأنا حين أيأس من أدب المعاصرين وجفاف الفكرالحديث أعود بشغف إلى مطالعة هذين الرجلين مطمئنا إلى ما أجده لديهما من دسم الغذاء الفكري و ثري البناء اللغوي و متعة المعرفة التاريخية قبل أن يتحول الفكر في عصرنا إلى تجارة و المعرفة إلى موالاة سياسية. وأحيانا أعثر على كنز دفين في صفحات أحد الكتب القديمة التي أحرص على الإحتفاظ بها في مكتبتي المتواضعة رغم غزو الشبكة العنكبوتية وطغيان السرعة أي (الفاست فكر على غرار الفاست فود) فأجلس لأعيد قراءة كتاب أو بعض كتاب كنت طالعته سنوات المراهقة والشباب وأستأنس برأي عبقري ما تزال حرارة الحقيقة فيه حية حارقة ولم يطفأ الزمن الدوار لهيبها فأحمد الله على نعمة استمرار البصر لدي والبصيرة و أنهل من هذا النهر المبارك الطامي.
أخر ما أكتشفت في كتاب لعميد الأدب العربي طه حسين (أحاديث) هو حديث بعنوان (صريع الحب والبغض) كتبه في ديسمبر 1963 منذ أكثر من نصف قرن حول إنتحار وزير فرنسي إشتراكي هو على ما أذكر (روجيه سالنغرو) عندما أكلت الصحف لحمه حيا وشككت في وطنيته وحقيقة مقاومته للألمان النازيين فاستقال من الحكومة ثم إنتهى به الأمر إلى الإنتحار فتناول طه حسين قلمه ليحلل ظاهرة الانفلات الإعلامي الذي يشهر بالناس بدون حجة متعللا بحرية التعبير ويقول طه حسين في هذا الباب كلاما اعتبرته أنا بعد نصف قرن أروع وأصدق تحليل لللانفلات الإعلامي الذي شمل وسائل الاتصال العربية منذ 2011 عندما انطلقت الألسن بالكلام فجأة وبعد طول سكات فرضته الأنظمة القمعية. يقول طه حسين عن انتحار ذلك الوزير المضطهد: "ذهب الرجل ضحية حرية الرأي أو ضحية الإسراف في حرية الرأي فليس عدو الحرية من ينصب لها الحرب و يفرض عليها الأغلال والقيود وحده و لكن للحرية عدوا أخر ليس أقل شرا ولا أهون شأنا من هذا الطاغية المستبد وهو هذا الذي يتجاوز بها الحدود ويخرجها عن طورها المعقول ويحولها أداة للشر وسبيلا الى الفساد." ويواصل عميد الأدب العربي تحليله لظاهرة الإسراف في الحرية لينتقل من الخاص الذي أودى بحياة الوزير إلى العام الذي يخرب الديمقراطية بالإساءة في استعمالها والتعدي على أصولها فيقول: "تشهد أوروبا هذه الأيام ويشهد العالم معها هذه الحرية البائسة يعذبها أعداؤها ألوانا من العذاب. أولئك يقيدونها ويقيمون الأسوار الصفيقة بينها وبين الناس في شعوب كثيرة من الأرض وهؤلاء يستغلونها ويسرفون في استغلالها فيحررونها من كل قانون ويطلقونها من كل عقال ويشيعون فيها جنونا ينتهي إلى الإجرام واقتراف الأثام...." و طه حسين هنا كأنما عاش مغامرات الربيع العربي وعايش سوء استعمال الحرية للانقضاض على أعراض الناس وتجريمهم دون برهان من منطلق أن لدينا حرية التعبير وهي حق يصبح باطلا لو إنحرفنا به عن غاياته السامية وأهدافة النبيلة! بينما الحرية الحق هي المحاطة بسياج المسؤولية. إقرأوا معي طه حسين يقول:" فأيهما خير؟ نظام يغل الصحافة ويقتل الأقلام ويكبح المعارضة كبحا ويميت الناس غيضا بما يضطرب في صدورهم من الآراء وما يغلي في رؤوسهم من الخواطر، أم نظام يرسل الصحافة على حريتها والأقلام على سجيتها والألسنة على طبيعتها فيكتب الناس من غير حساب ويقول الناس في غير رعاية للحق والعدل ؟ أيهما خير! نظام السلطة العنيفة التي ترد الناس إلى ذلة كانوا يظنون أن عصرها انقضى أم نظام الحرية المطلقة الذي يرد الناس إلى فوضى كانوا يظنون أن عصرها انقضى أيضا؟ كلا النظامين شر من غير شك وما أظن إلا أن الناس جميعا يعرفون ذلك و ما أظن إلا أن كل فرد واحد فيما بينه وبين نفسه يود لو استطاعت الإنسانية أن تصل إلى نظام وسط لا يلغي الحرية فيلغي معها كرامة الإنسان ولا تطغى الحرية فتطغى معها الأهواء والشهوات. ولكن وقد فسد عليها أمرها واختل التوازن بين قواها ولا حظ فيها للروية والتدبير!"
في الأخير يخرج عميد الأدب العربي رحمة الله عليه بحكمة واعتبار كأنما هو يعيش بيننا عام 2014 شاهدا أمينا على انحراف مجتمعاتنا العربية من القمع القديم إلى القمع الجديد و من الاستبداد الأول إلى الاستبداد الثاني وهو ما أطلقت عليه أنا منذ بداية ما يسمى الربيع نعت (من الاستبداد إلى الفوضى) يقول طه حسين:" هل يتاح لنا نحن الشرقيين الناشئين في الديمقراطية أن ننتفع بمنحة الديمقراطية الأوروبية وأن نسلك بديمقراطيتنا الجديدة طريقا وسطا أمنة تعصمها من الطغيان كما تعصمها من الفوضى، تعصمها من أولئك الذين يصبون العذاب على الناس لأنهم يريدون أن يكونوا أحرارا و تعصمهم من أولئك الذين يسرفون في استعمال حقهم من حرية القول فيدفعون الناس إلى اليأس ثم إلى الموت."
و أذكر لكم كلمة قالها الرئيس الفرنسي الأسبق (فرنسوا ميتران) حين إنتحر رئيس حكومته الأسبق (بيار بيريجوفوا) لنفس الأسباب عندما انهالت عليه الصحافة تنكيلا قال (ميتران): " لقد رمينا لحمه للكلاب تنهشه!" هذه بعض درر من حكمة عميد الأدب العربي طيب الله ثراه وكأني به يعيش بيننا اليوم ويمشي في أسواقنا ويتفاعل مع محنتنا الراهنة وهي محنة التجاوزات التي أبتليت بها مجتمعاتنا حين انتقلت بلا روية ولا تمهيد من عهد قمع الحريات إلى عهد إنفلاتها ومن زمن الطغيان إلى زمن ترك الحبل على الغارب وهو داء في الحقيقة لم تنج منه أية ثورة و يكفي أن تذكروا الأرواح التي أزهقت في دوامة الثورات حين أخذ بعض الناس بذنوب لم يقترفوها وجندلهم الرصاص بغير حق مثلما وقع فيما سمي ثورة العراق يوليو 1958 عندما قتل عبد الكريم قاسم ملك العراق فيصل ورئيس حكومته نوري السعيد و افراد عائلتيهما وسحلوهم في شوارع بغداد ثم دارت الدوائر على عبد الكريم قاسم فقتله المنقلبون عليه وسحلوه وجاء الدور على من بعدهم إلى اليوم. اللهم يا رب العالمين قنا عذاب الظلم والظالمين واهد شعوبنا إلى سبيل دولة المؤسسات لا دولة الأمزجة بجاه رسولك الأمين وكتابك المبين أمين.