يؤكد أنه لا يمكن فهم سلوك المجتمعات دون العودة إلى الثقافة القديمة التي تشكلت منها

الإنسان نصفه كائن عقلاني ونصفه الآخر ميثولوجي
أجرى الحوار ـ وحيد تاجا:
إذا كان هناك من يقول بأن التاريخ مليء بالأساطير فإن لنا أن نقول الآن بثقة إن الأساطير هي الأخرى مليئة بالتاريخ. هذا ما أكده الباحث العراقي فاضل الربيعي في هذا الحوار، داعيا إلى "ضرورة اعتماد علم الميثولوجيا في تحليل كثير من الظواهر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية"! والمفكر الربيعي ولد في بغداد ١٩٥٢. ــ متخصص في الميثولوجيا والدراسات الأنثروبولوجية الحديثة. ــ عضو اتحاد الأدباء العراقيين واتحاد الكتّاب الهولنديين.ــ له مؤلفات كثيرة في الرواية والقصة والأدب والتاريخ الاجتماعي والسياسي العراقي والعربي والأنثروبولوجيا من أهمها: ارم ذات العماد - أبطال بلا تاريخ - العسل والدم - فلسطين المتخيلة - المناحة العظيمة - المسيح العربي - القدس ليست أورشليم - الشيطان والعرش - شقيقات قريش - حقيقة السبي البابلي - كبش المحرقة - غزال الكعبة الذهبي - يوسف والبئر. الأسطورة والسياسة ـ ..

* يلاحظ اهتمامك بعلم الأساطير حتى إن جميع كتبك الأخيرة اعتمدت عليه بشكل خاص.. ما سر هذا الاهتمام؟
- علم الأساطير أو الميثولوجيا هو جزء من منظومة علوم متقاربة ومتشابكة في المناهج مثل السيسيولوجيا والإنثربولوجيا، وبالتالي هي تتشابك معها وتتقاطع، فعلم الأساطير يبحث في تاريخ وأساطير المجتمعات القديمة، بينما الإنثربولوجيا تهتم بالمجتمعات في تطورها التاريخي، والسيسيولوجيا تهتم وتختص بتحليل الجانب الاجتماعي من حياة البشر. فهذه العلوم متقاربة ومتماثلة في الأدوات، لكن للميثولوجيا ميزة أو خصوصية تفرض علينا الاهتمام بها كعلم جديد في ثقافتنا العربية المعاصرة. وأتعجب من عدم اعتماد هذا العلم وتدريسه في الجامعات العربية، في الوقت الذي اعتمدته معظم جامعات العالم، وأذكر على سبيل المثال أن جامعة لايدن في هولندا افتتحت فرعا خاصا في علم الأساطير أو الميثولوجيا، بينما لا يجري مثل هذا الاهتمام في العالم العربي.. فهناك التباس لدى العامة من الناس وحتى أهل الاختصاص مرده الخلط بين الأسطورة والخرافة. وثمة معتقدات سطحية تجتاح حتى النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية، فتخلط بين ما هو أسطوري وما هو خرافي، وعدم التمييز هذا ناجم عن أن الثقافة العربية المعاصرة لم تتمكن من تحديد دخول كثير من العلوم والثقافات والمناهج والفروع الثقافية التي تهتم بها.
وعلى الصعيد الشخصي بدأ اهتمامي بالميثولوجيا منذ وقت طويل، وهو اهتمام ينصب على دراسة أساطير العرب القديمة بشكل خاص وليس اهتمام بالأسطورة بشكلها المطلق، بل بشكل أخص على أساطير العرب قبل الإسلام، بينما احتلت الأساطير البابلية والفارسية والسومرية وأساطير الفرس والأتراك والهنود مرتبة أدنى في سلم اهتماماتي؛ لأنني وجدت أن أساطير العرب قبل الإسلام تستحق أن يجري الاهتمام فيها كفرع مستقل عن بقية الثقافات في المنطقة.

* ما هو السبب الذي أعطى للأسطورة عند العرب قبل الإسلام هذه الأهمية؟

-السبب الرئيس هو أن الفرد اليوم، سواء كان ينتمي إلى النخبة الثقافية أو فردا عاديا، يعجز عن فهم مجتمعه ما لم يتمكن من التعرف على الراسب الثقافي القديم المستمر باستمرار المجتمع. هذا الراسب الثقافي الهائل الذي يمتد في الزمن إلى آلاف السنين هو الخزان الثقافي الهائل الذي يتضمن كثيرا مما هو مفتاحي وأساسي في فهم المجتمع المعاصر. فالإنسان لا يستطيع اليوم فهم سلوك المجتمعات العربية المعاصرة في كثير من الميادين دون العودة إلى الثقافة القديمة التي تشكلت هذه المجتمعات في إطارها.
وفي هذا السياق يجب ألا نصرف جل اهتمامنا لثقافتنا فقط، بل أن نضفي على هذا الاهتمام كل ما يلزم من احترام الخصوصيات الثقافية.

* يبدو أن هناك خلطًا لدى العرب بين علم الأساطير والخرافة. وقد يكون هذا سبب عدم الاهتمام؟

- هذا صحيح.. وغالبا ما ترى في كثير من الدراسات ما يشبه الدمج بين مفهوم الأسطورة ومفهوم الخرافة، في حين أنه يجب التمييز بينهما، فالأسطورة شيء والخرافة شيء. الأسطورة هي جهاز رمزي أو جهاز سردي يقوم بإرسال رسالة رمزية مشحونة بكثير من الدلالات، وهذا الجهاز له وظائف وأشكال من التشغيل قد لا يعرفها حتى كثير من المثقفين والكتاب الذين لا يهتمون بهذا العلم مثلهم مثل عامة الناس، وهذا طبيعي لأنه علم حديث.
فالأسطورة لها أبجدية تبدو منسية، أو أننا نسيناها، أو نسينا تعلمها، وعندما نتمكن من تعلم أبجدية الأسطورة فسنتمكن من فك فحوى الرسالة الرمزية التي ترسلها وعلى سبيل المثال بالنسبة للمواطن العادي عندما يسمع جهاز الإرسال القديم المورس وهو يصدر أصواتا غريبة مزعجة قد تشعر من يسمعها بالضيق أو النفور.
ويعتبر هذا نوعا من الطنين غير المفهوم، ولكن على الضفة الأخرى فإن الشخص الذي يعرف أبجدية المورس ويسمع هذا الطنين فإنه يحوله فورا إلى كلمات يفهم من خلالها الرسالة، والفارق بين الشخص وذاك أن الأول نسي هذه الأبجدية أو لم يتعلمها أصلا، بينما الآخر مازال يتذكرها وربما يكون قد طور مهاراته وتعلمها بحيث تمكن من فض الرسالة وقراءتها.
والأسطورة تعمل تماما كما يعمل جهاز المورس، هي ترسل إشارات وتبعث رسالة بلغة مشفرة وبأبجدية لا يعرفها الكثيرون، فقط الذين لهم صلة بعالم الميثولوجيا ويستطيعون تفكيك بناها وشفراتها المغلقة يستطيعون فهم مغزاها، على سبيل المثال بالنسبة لدارس التاريخ العربي القديم لا يستطيع أن يحصل على كل الملفات القديمة الخاصة بهذا التاريخ؛ لأنها إما تلفت أو بيعت أو طمرت تحت التراب، ونحن نعلم أن جزءا كبيرا من تاريخ العرب لم يدون وبقي شفهيا متناقلا في الرواية بواسطة القصائد والحكايات والأساطير. وعندما نعود إلى هذا الخزان فسوف نكتشف جزءا من التاريخ الذي ضاعت ملفاته، أي إننا إذا لم نجد اليوم ملفات ونقوشا وسجلات عن قبيلة عاد وثمود مثلا فسنجد أن أساطير هذه القبلية سوف تساعدنا في إعادة تركيب هذا التاريخ الرائع.
أهمية ذلك بالنسبة لدارس التاريخ هو أنه من أجل أن يقدم رؤية متماسكة عامة يجب أن يعود إلى السجلات والنقوش والوثائق، ولكن إذا لم يتمكن من الحصول على سجلات ووثائق فعليه العودة إلى الشعر والأساطير والمرويات القديمة ليعيد من خلالها بناء هذا التاريخ، وكما قلت لك نحن نعيش في قلب مجتمع ما تزال فيه الأسطورة حية، وهنا يجب أن نفرق بين الأسطورة والخرافة.

* ما هو الخط الفاصل بين الخرافة والأسطورة؟

- الخرافة هي حكاية ليس فيها أي مدلول ولا تتضمن رسالة محددة، وهي أقرب إلى أدب التسلية، والفارق الجوهري بينهما أن الأسطورة هي التاريخ!
عندما كان جيمس فريزر في غينيا الجديدة يسأل أبناء القبائل الأفريقية (البدائية) أن يرووا له جزءا من تاريخهم، كانوا يقومون برواية الأساطير؛ لأن (العقل البدائي) لا يفرق بين الأسطورة والتاريخ. وأيضا هناك تماثل من الناحية اللغوية بين كلمةhistory) ) الإنكليزية وكلمة (أسطورة)، هذا التداخل له صلة بحقيقة أن التاريخ بمعنى من المعاني هو الوجه الآخر للأسطورة. الفكرة التي أريد إيصالها الآن أن التاريخ كما يقال مليء بالأساطير، ولكن حان الوقت لنقول إن الأساطير هي الأخرى مليئة بالتاريخ، ونحن نستطيع أن نحصل على هذا التاريخ إذا عدنا للأساطير.
إذًا الفارق بين الأسطورة والخرافة هو أن الأسطورة كجهاز سردي تتضمن شيئا من التاريخ فضلا عن الرسالة الرمزية المشفرة التي تريد إرسالها، ولها وظيفة محددة لها طابع اجتماعي وأخلاقي وديني، بينما الخرافة هي مادة تسلية لا وظيفة محددة لها؛ لذلك قال العرب قديما هذا حديث خرافة.
ليس صحيحا ما يزعمه البعض من أن مفهوم "الخرافة" يتمثل في رجل كان يروي الخرافات، وأن العرب في الجاهلية كانوا يقولون هذا حديث خرافة، هذا التأويل غير صحيح وغير دقيق، فقد قصد العرب بقولهم هذا خرافة أنه حديث لتمضية الوقت والتسلية ولا معنى له، بينما قال العرب أيضا تلك أساطير الأولين بمعنى أن هذا جزء من تاريخ منسي قديم، هذا هو الفارق الجوهري الذي ينبغي أن ننتبه إليه.
بالمناسبة واحدة من المخلفات الفظيعة التي تركتها المدرسة العقلانية الغربية في ثقافتنا العربية المعاصرة تتمثل في هذا الجانب، فالمدرسة العقلانية الغربية أوهمتنا أن الإنسان كائن عقلاني، بينما الحقيقة أن الإنسان نصفه كائن عقلاني ونصفه الآخر ميثولوجي؛ ولذلك هناك عقل باطن وعقل ظاهر، وفي الكتابة الإبداعية نجد هذين المستويين.. هناك العقل الواعي والعقل اللاواعي أو ما يسمى تيار اللاوعي؛ ولذلك من أجل أن نحترم مجتمعاتنا ونفهم خصوصياتها يجب أن نتعلم أبجدية الأسطورة، ونقوم بتفكيك هذا التاريخ لدراسة هذا المجال. ولذلك قلت إن الميثولوجيا هي جزء من منظومة العلوم، فهي تمشي بالتجاور والتلازم مع الإنثربولوجيا في دراسة المجتمعات، أي إن دراسة ثقافة المجتمع "أساطيره وتاريخه" كما في علم الميثولوجيا لها صلة بدراسة المجتمع؛ إذًا نحن ندرس المجتمع وندرس ثقافته القديمة.
* لفت نظري حديثك في الكتاب عن ظاهرة إرسال رسائل إلى الإمام الشافعي في مصر، وهي ظاهرة غير معروفة في العالم العربي؟

ـ في مصر هناك ظاهرة قديمة هي ظاهرة إرسال رسائل إلى ضريح الإمام الشافعي، وهذه الظاهرة لم يفهمها كثير من المثقفين، وقد ذهبت شخصيا إلى القاهرة عدة مرات وتحققت من هذه الظاهرة وكتبت عنها دراسات عديدة.
حيث إنه في مصر يقوم كثير من الفقراء المصريين من الذين يتعرضون للمظالم مثل "الفلاح الذي تسرق بقرته، والمرأة التي تضرب... الخ" بعض هؤلاء كانوا من الأميين الذين يطلبون من كتبة يرتبطون بهم بقرابة مباشرة مساعدتهم في كتابة هذه الرسائل وإرسالها بواسطة البريد الحكومي، فيما يشبه ممارسة عادية، كما لو أن المرسل يبعث برسالة إلى شخص آخر حيّ يرتبط به بصلة قرابة من نوع ما، أو يتوجه إليه بوصفه صاحب سلطة.وكان بعض المشاركين في كتابة الرسائل، يشرك آخرين في كتابة رسالته، بما يجعل منها ممارسة جماعية أو مشتركة، يجمع بينهم الشعور بوقوع مظلمة بحقهم من جانب أفراد آخرين يتمتعون بالقوة والنفوذ في المجتمع. هؤلاء الناس عندما لا يجدون في مجتمعهم جهازا قادرا على رد حقوقهم أو كراماتهم "الدولة أو مؤسساتها"، يلجئُون لإرسال الرسائل إلى ضريح الشافعي، ويكتبون عن المظالم التي وقعت لهم، وهم يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأنهم يتوجهون إلى صاحب سلطة وقرار!، ويرسلون هذه الرسائل بالبريد الحكومي ويكتبون عليها (ضريح الإمام الشافعي).
وأذكر أن عالم الاجتماع المصري الراحل د. سيّد عويس، الذي كان يعمل باحثا في المركز المصري للبحوث الجنائية كعالم اجتماع؛ أثارت انتباهه هذه الظاهرة؛ ولذا تقدم بطلب خطي إلى الأزهر الشريف طالباً السماح له بالاطلاع على هذه الرسائل لأغراض البحث العلمي. وقد تطلب الأمر بعض الوقت قبل أن يعطي الأزهر موافقته الرسمية على فتح الضريح المقدس وإخراج عدد محدود من الرسائل لم يتجاوز حدود ستين رسالة، جرى اختيارها عشوائياً إلى حد ما. وبعد استلامه هذه الرسائل بدأ مشروعه الرائد لدراسة أحوال المجتمع المصري من منظور جديد: "الكشف عن سلطة الأموات على الأحياء في المجتمع المصري الحديث".
وقد أصدر على إثرها كتابا شهيرا بعنوان "إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي" وربط ربطا محكما وذكيا بين هذه الرسائل وطريقة دفن المصريين القدامى للموتى أيام الفراعنة، حيث كانوا يرسلون الرسائل مع الموتى، ويضمنونها طلبا لعقد المحكمة الإلهية!.
والغريب أن الرسائل المعاصرة التي يرسلها المصريون اليوم إلى ضريح الإمام الشافعي ويطلبون النظر في شكواهم غالبا ما يختمونها بجملة تقول "بشفاعتك نطلب عقد المحكمة الإلهية بحضور الامام الحسين وأخته السيدة زينب"، والأغرب من هذا أنهم يضيفون أيضا اسم "أوزوريس" الإله المصري القديم و"إيزيس".ولقد تابعت هذا الموضوع وأعدت تحليل الظاهرة من منظور جديد، وسوف أضمنها كتابي الجديد، ولفت نظري أيضا ظاهرة جديدة في المجتمع المصري بدأت تظهر في التسعينيات، وتحققت منها بنفسي، وهي إرسال رسائل إلى ضريح الرئيس جمال عبد الناصر؛ وذلك لأن كثيرا من الناس كانوا يشتكون من الرئيس عبد الناصر ومن ظلم السلطات. وقد اطلعت على عدد من هذه الرسائل وقرأت بعضها، كما نشرتها جريدة الأهالي المصرية في التسعينيات، إذًا هذا الترابط والتواصل بين هذه الظواهر يدلل على أن مجتمعنا العربي ما زال يعيش في قلب هذه الأساطير، مع التأكيد أن هذه ليست خرافات، بل هي معتقدات تتعلق بعقيدة الخلاص.
* ما هي الظواهر الأخرى التي ناقشتها في الكتاب؟
ناقشت فيه أيضا قضية الموت والموتى وموقف الناس من الدفن والموتى؛ ولا بد أن نتوقف عند ظاهرة السكن في المقابر حيث يعيش مئات الآلاف من المصريين. فهؤلاء البشر يشعرون بالوحشة أو الغربة لأنهم يعتبرون الموتى أحياء، والإنسان المصري المعاصر يعتقد مثله مثل الإنسان القديم أن للموتى سلطة على الأحياء؛ ولذلك يخاطبون الإمام الشافعي والرئيس جمال عبد الناصر؛ لأن في اعتقادهم أن هؤلاء موتى، ولكن لهم سلطة روحية وأخلاقية.
* في كتابك "المسيح العربي.. النصرانية في الجزيرة العربية.. الصراع البيزنطي- الفارسي"، تحدثت عن صورتين متناظرتين للسيد المسيح عليه السلام.. هل يمكن إيضاح الفكرة؟

- الكتاب يتحدث عن الصورتين المتناظرتين للسيد المسيح وكيف اندمجتا وكيف افترقتا، صورة عيسى ابن مريم النبي كما بلورتها الثقافة العربية القديمة قبل الإسلام، ثم مع الإسلام بنزول الآيات القرآنية الكريمة التي أكدت على نبوة عيسى ابن مريم.
والصورة الأخرى هي صورة يسوع الرب التي أنتجتها حقبة المسيحية الرسولية، نسبة إلى بولس الرسول، وهذه اختمرت في ظل الصراع البيزنطي- الفارسي، وهو صراع عالمي هائل استمر أكثر من ستمائة عام متواصلة بين الروم والفرس، ثم بين الفرس والبيزنطيين، وفي قلب هذا الصراع اختمرت صورة يسوع الرب، وتراجعت صورة عيسى ابن مريم النبي. وقد أردت من خلال الكتاب أن أقرأ تطور المسيحية بين هاتين الصورتين، ولماذا نقول حتى اليوم عن المسيحية هذا نصراني، وما هو الفارق بين النصرانية والمسيحية.
النصرانية هي مسيحية العرب الأولى، وهي دين عيسى ابن مريم، النبي العربي الذي ولد في ظل نخلة كما في النص القرآني، بينما فكرة يسوع الرب، "وكلمة يسوع أخذت من التوراة التي تعج بصورة يسوع المخلص، وفكرة يسوع هي فكرة توراتية بالأصل" كيف اختمرت في صورة الرب، وكيف تعارضت هاتان الصورتان، وكيف تم استغلال هاتين الصورتين في الصراع.
حيث إن الفرس في إطار صراعهم مع الروم البيزنطيين لاحظوا أن روما اعتنقت دينا عربيا هو المسيحية في سياق تطوير المواجهة العسكرية معها، وكانت الإمبراطورية الرومانية والفارسية إمبراطوريتين وثنيتين، وكان الصراع بينهما يدور حول الشرق، ومن منهما يصبح القوة المهيمنة في الشرق.
ومن هنا انتبه الروم ومن ثم بيزنطة إلى أن فارس تستطيع أن تجذب من حولها القبائل العربية، وهي قوة مرهوبة الجانب ولا يستهان بها، وكانت عنصرا حاسما في المعارك، وقد تنبه قسطنطين العظيم وأمه هيلانة إلى أن هؤلاء البدو العرب لديهم دين، فاعتنقت روما دين العرب وأصبحت مسيحية في سياق تطوير مواجهة فارس وإزاحتها عن الهيمنة على الشرق.

وعندما انتبهت فارس إلى أن روما اعتنقت دين العرب وأصبحت مسيحية في مواجهتها عملت على دعم وتطوير المذاهب المنشقة عن المذهب الرئيسي الذي تعتنقه روما؛ ولهذا سمحت بالكنائس النسطورية في مواجهة المذهب الرسمي الذي تعتنقه روما، والمذهب النسطوري نسبة إلى الراهب اليوناني نسطورس الذي طور فلسفته في إطار جدل الفلسفة العميق الذي دار حول شخصية السيد المسيح والتي تبلورت فيها صورته كرب.
* من هنا إذًا ظهر الاختلاف أو التناقض بين المدارس المسيحية أو تداخل اللاهوت والناسوت؟
- كانت هناك مدرستان: المدرسة المونوفيزية في حلب ببلاد الشام، ومدرسة إنطاكية.. وهما من أتباع يعقوب البرادعي المسيحي السوري الذي كان يقول بالطبيعة الواحدة للمسيح، بينما كانت تقول النسطورية الشرقية إن للمسيح طبيعتين إلهية وبشرية، وإن العنصرين امتزجا؛ فأصبح الصراع بين أنصار الطبيعة الواحدة وأنصار الطبيعتين تعبيرا عن صراع دولي بين فارس وبيزنطة.
ودعمت فارس الكنائس النسطورية في مواجهة المذاهب الرسمية في إطار هذا الصراع؛ لذلك أردت أن أدقق في هذه الصورة، ثم ركزت على أساطير مملكة الحيرة وكيف أن هذه الأساطير كانت تروي جزءا منسيا ورائعا من تاريخ المسيحية، ولم يقترب منه أحد حتى هذه اللحظة، مثلا أسطورة تنصر النعمان في الموارد العربية القديمة، ومن هو النعمان الذي تنصر وعلى أي مذهب تنصر، وكذلك أسطورة يوم السعد ويوم النحس عند النعمان وهو يومان يوم الفرح ويوم البكاء على الإله الشهيد، وعيد الفسق، أو أسطورة جذيمة الأبرش ومصرع النديمين.

وقد قمت بإعادة تفكيك وتركيب هذه الأساطير كي أبعث من قلب هذا الركام جزءا منسيا من تاريخ المسيحية كما نضج في هذه المنطقة في إطار الصراع اليبزنطي-الفارسي. وبالتالي أظهرت أن المسيحية القديمة في الأصل هي نصرانية العرب وهي مسيحيتنا، وأن المسيحية الرسولية التي وفدت من خارج الجزيرة العربية في ظل عاملين رئيسين أولهما احتدام الجدل الفلسفي المستند إلى الفلسفة الإغريقية حول اللوتس وفكرة الإله، والعامل الثاني هو الصراع الفارسي-البيزنطي.
أي إنه كان هناك صراع عالمي هائل استمر أكثر من 600 عام، وهناك جدل فلسفي عميق حول شخصية المسيح لا قِبَل للعرب عليه ولا يستطيعون الانخراط فيه؛ فتبلورت شخصية اليسوع الرب، بينما تراجعت شخصية عيسى ابن مريم؛ أي نصرانية العرب إلى الوراء، ولم يتبق منها سوى الأحناف وهم بقايا نصارى العرب في الجزيرة العربية.
* كيف طبقت هذه الأفكار كلها في كتابك "فلسطين المتخيلة"؟
- كتاب فلسطين المتخيلة هو محاولة لإعادة تفكيك وتركيب تاريخ التوراة الذي نسب خطأ إلى تاريخ فلسطين وأصبح جزءا منها، في حين أن التوراة لا علاقة لها بفلسطين، ولم تذكر اسم فلسطين أو الفلسطينيين، كما أنها لم تذكر اسم القدس، ولا تقول بأن القدس هي أورشليم؛ فهذه كلها صور استشراقية ركبها المخيال الغربي لتبرير اغتصاب فلسطين.
ولذلك عندما أعدت ترجمة النصوص العبرية، وقمت بتركيب التاريخ كما روته التوراة، اكتشفت أن كل الأسماء التي وردت في التوراة "صور وصيدا.. وغيرهما" لا علاقة لها بفلسطين أو المنطقة المحاذية لها، وأن القدس ليست أورشليم، وأن التوراة تقدم وصفا متناقضا لمكانين مختلفين لا علاقة لهما ببعض، حيث إنها تتحدث عن مكان اسمه "قدس أو قدش" وهو جبل شامخ تقول عنه إنه جبل، والثاني أورشليم وهو مكان آخر تصفه كمدينة.
وكان السبيل إلى استجلاء هذا التاريخ ونبشه مستحيلا من غير إعادة تحليل وتركيب كل ما جاء في التوراة، واليوم أقوم باستكمال هذه الأطروحة بكتاب جديد باسم "القدس ليست أورشليم"، وأؤكد خلاله أن التوراة لا تقول على الإطلاق بأن القدس هي أورشليم، وأنها تقدم وصفا لجبل اسمه "قدس" لا علاقة له بأورشليم.
حيث إن هذا الجبل في صورته التي تقدمها التوراة لا يتطابق مع وضع مدينة القدس؛ فالقدس فوق هضبتين وليس قربها جبل، وليست فوق جبل، والمنطقة الوحيدة الجبلية هي سلسة جبال الخليل وهي سلسلة صغيرة لا علاقة لها بالوصف الذي تقدمه التوراة؛ فالتوراة تتحدث عن "قدس" أخرى، وهي ليست سوى جبل قَدس الذي وصفه الهمداني، ولا يزال قائما إلى اليوم ويبعد 80 كيلومترا عن مدينة تعز باتجاه عدن، وهو جبل مبارك ومقدس يعرفه اليمنيون، ووصفه يتطابق كليًّا هو والمناطق المحيطة به مع ما ورد في التوراة.

* أين تتفق وتختلف فيما تطرحه مع نظرية الدكتور كمال صليبي الذي سبق وأصدر كتاب "التوراة جاءت من الجزيرة العربية"؟
- نتفق في القواعد العامة للبحث، وفي المنطلقات الأساسية في قراءة هذا التاريخ، ونختلف في الأدوات، فالدكتور الصليبي لجأ إلى لعبة المقاربات اللغوية التفكيك والتركيب (البنى الصوتية) للأسماء، بينما قمت أنا بالعودة إلى النصوص الموازية للتوراة مثل شبه جزيرة العرب كما كتبها الهمذاني والشعر العربي القديم والشعر الجاهلي، فهذان المصدران حاسمان للغاية في رسم جغرافية التوراة، ولا يوجد مصدر يستطيع رسم جغرافية دقيقة للأماكن مثل الشعر الجاهلي؛ لأنه شعر مواضع وأماكن.
* أذكر كتابا صادرا عن دار الفكر بدمشق للدكتور فؤاد شعبان بعنوان "من أجل صهيون" يتحدث فيه عن الأسطورة في أمريكا، وطبيعة العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية المبنية على أسس توراتية؟
- هذا صحيح، فالأمريكيون يعتقدون أنفسهم العبرانيين الجدد؛ لأن اليهود الذين هاجروا في الموجة الاستيطانية الكبرى التي عبرت المحيط الأطلسي من أوروبا إلى أمريكا نقلوا ذكريات توراتية، وتخيلوا أنفسهم وهم يعبرون الأطلسي، كما أنهم يحاكون الجماعة المسماة الجماعة العبرانية في التوراة؛ ولهذا نجد العديد من المدن الأمريكية الآن مسماة بأسماء مدن توراتية.