تعتمد رواية "راوي مراكش" على تقنية سردية جميلة، ورائعة تقترب من نمط توالد الحكايات والقصص؛ كما هو في كتاب "الف ليلة وليلة" رغم التباين والفارق الجلي بينهما، وذلك في نسيج روائي متشابك، واحداث متلاحقة لا يملها القارئي، حيث يقوم بسرد حكاياتها رواة كثيرون من شرائح اجتماعية، وأصول عرقية مختلفة، وتدور هذه الحكايات في مدينة مراكش الصحراوية ، وجل الاحداث تدور في ساحة جامع "الفنا " ولكن يبقى أن ما سجله الكاتب الهندي " جويديب روي ـ باتاجاريا" رواية استوحها من زيارة قام بها الى المغرب، ويبدوا أنه قد أقام كثيراً في المكان الذي استطاع أن ينتج كهذه الرواية، وما يبرز في الرواية كيف أن الكاتب أحاط بالكثير من جوانب طبيعة القيم السلوكية، ونمط الحياة الاجتماعية من أفراح وملابس ومأكولات وطرق تعامل الناس فيما بينهم، ودعم ذلك بتأملات عميقة في معاني الحب والجمال والحقيقة والحرية، ومعلومات وافية عن طبيعة وجغرافية الأرض المغاربية، ولغات ولهجات ساكنيه من العرب والبربر والطوارق والمسلمين واليهود، والذين يقطنون كافة المناطق من مدن وأرياف وجبال وموانئ وصحاري .
رواية " راوي مراكش" تدخلك في عالم من السحر والفنتازايا، وعالم البسطاء الكادحين الذين يقيمون في مراكش ليزاولوا اعمالاً تكفل لهم قوت يومهم، فالزائر لساحة جامع " الفنا " يجد العجب العجاب من الكم الهائل من البشر والسائحين والبائعين والحواة والتبضع والحكواتيين، حيث تشعرك أنك قد دخلت عالماً من الخيال لا يمنك أن يتصور في الذهن، وتخرج بعدها النفس بانطباعات سحرية لا تقاوم، كل شيء في هذه الساحة ما لا يمكن أن يكون شبيهه في المغرب قاطبة فهي مركز ثقافي اجتماعي واقتصادي، وحق للروائي الهندي " راوي مراكش" أن أحسن استغلال هذه الكم الهائل من التناقض والتشابك والتداخل في هذه الرقعة الجغرافية، التي لا تكاد تكون ضيقة بمكانها، لكن في المقابل لا يمكن أن تحدها حدوداً فيما تحتويه من جماليات، ومتعة حسية وجسدية لا تضاهيها متعة، وسحر في الطبيعة والمكان يغنيان عن الكثير من الأمكنة .
بجانب ذلك هناك خط روائي بطله " حسن " الراوي الذي ورث السرد القصصي من والده، أما الخط الآخر فهما " أجنبيان " رجل وامرأة اللذين اختفيا ولم يعرف مصيرهما، ويثير غيابهما تساؤلات كثيرة حول اختفائهما ، ولم تعرف الأسباب ذلك الاختفاء، وتثير هذه الحادثة السرد القصصي الذي يختلف من شخص الى آخر؛ من بين الذي اعتادوا أن تكون لهم أمكنة في ساحة الجامع، فكل واحد منهم يسرد حكاية الاختفاء حسب رؤيته ومنظوره في كيفية الاختفاء، فمنهم بائعي البرتقال الجوالون، وممارسوا الألعاب البهلوانية وقارعوا الطبول، وقارئات الطوالع، وبناة الأجسام، والرجال من قبائل الطوارق، والتجار من البربر، والموسيقيون ومربي الافاعي، فكل واحد من هؤلاء يسرد حكاية اختفاء امرأة "أمريكية ـ الفرنسية" باهرة الجمال ورفيقها الهندي الملتحي ذو السلوك الغامض.
ولزيادة الحبكة الروائية عمد الكاتب الى أن يأخذ طريقا سردياً مختلفا؛ وربما لملمح فني مختلف يريد به أن يلفت انتباه القارئ، ويجعله في لحظة متابعة وتشوق مستمرين؛ فقد جعل من حكايات الرواة أن يناقض أحدهما الآخر فيما يررونه عن الرفيقين الأجنبين، وما جرى لهما في ليلة اختفائهما ، فإذا كان الراوي الأول يؤكد حادثة عنهما فلا يلبث الراوي الآخر أن يناقض ما قاله ذاك الراوي ويبتدع سرداً وكلاما آخر، وكأن الحكاية لا تريد أن تخلص إلا بالولوج إلى منعرجات الحكايات، والحياة التي يريد الكاتب إبرازها للقاري، ويجمع اكبر قدر من المعلومات والحقائق حول النسيج الاجتماعي الذي يعيشه الشخوص في أمنكة الرواية .
وبرغم ذلك ستظل حقيقة الحبكة الروائية في خطها الراوي الحقيقي " حسن " وخطها الآخر " الاجنبيان " المرأة والرجل اللذين يبدوان كعاشقين عاشا أجواء المدينة، حيث يظهران بين الفينة والأخرى في صلب الرواية وهما في حالات الحب اكثر منها في حالات المطارحات والمغامرات، كما أنهما يتساويان ويشتركان معا في حالة المخاطرة بالذات والتضحية من أجل الحب، فالرواية برغم سرد قصصها المتشابكة والمتقاطعة؛ إلا أنها تظهرها جلياً على أنها قصة حب فيها من العنفوان الشيء الكثير.
كما استطاع الكاتب بفضل تكنيكه الروائي بالمحافظة على سيرورة الحكاية، ونقلها الى الأجيال اللاحقة؛ برغم مرور السنين حيث يقوم الراوي" حسن كل عام بجمع المستمعين في ساحة " الفنا " فيسرد ويتقاسم معهم الذكريات حول الخط الروائي لما حدث" الأجنبيين" يريد من خلاله تبسيط ما جرى للمستمعين؛ كونه هو الوحيد الذي يمسك بزمام الحكاية وحقيقتها، إلا ان الراوي أدخل في صلب روايته كذلك مستمعي الحكاية فهم يفرضون بدورهم صيرورة الحكاية والمساهمة في كشف حقيقتها، وكأنهم أيضاً معنيين ومتابعين للأمر، أو كأنهم معايشين للحدث، ويتتبعونه وكأنه من صلب اهتماماتهم، فكل واحد من المستمعين كان يدلي بشهادته عن " الأجنبيين " وكأنه يعنيه بصورة مباشرة، بغرض المساهمة بإزالة اللبس والغموض والضبابية بكل ما يحيط بهما. وبذلك يكون الروائي قد أشرك مع الراوي الرئيسي" حسن" وبقية من يرتادون الساحة من ذوي الأنشطة الأخرى وكذلك المستمعين، ودفع القارئ دفعاً للتيقظ حول الحكاية.
أن القصة التي يرويها " حسن " ببساطة ليست وصفاً لجريمة، بل أنه يقوم بسلسة متنوعة ومخترعة من الحكايات بغية ربط المستمعين به الى آخر وقت الانصراف من ساحة " الفنا " آخر الليل، وحول ذلك يقول الراوي حسن " ربما خيط وحيد يفصلنا عن الحقيقة، أو ربما بون شاسع، لكننا سنتيقن من ذلك فقط حينما ننظر الى النسيج بأكمله " وبعدها تظهر الحقيقة بأن في نهاية المطاف، وآخر الليل أن الحقيقة ذاتها أصبحت شائكة ومعقدة وأن خيوطها المجدولة كانت تنحل بشكل متزايد من قبل المستمعين انفسهم" .
إن المؤلف بلا شك قد أورد الكثير مما يمكن ان يختفي في ثنايا النسيج المغاربي عامة والمراكشي بوجه خاص، كما يمكن وصف الكاتب بانه واسع الاطلاع، لماح وذكي جداً، وذلك لسوقه لما يمكن أن يحويه في سرد روائي مثير للكثير من الحيوات في المجتمع المغربي، وأساليب وطرق عيشه، وكيفية تدبير أموره المعيشية، فالبرغم انها رواية تتداخل مع روايات؛ إلا ان ما تكتنفه من حقائق ومعلومات يسردها أبطال الرواية المتعددون بتعدد التنوع الجغرافي والديمغرافي للمجتمع المغربي جدير بأن تعد هذه ـ الرواية ـ مدخلا مهما لدراسة السلوك البشري وطرق عيشه.
تبقى الرواية عالماً سحرياً استطاع من خلاله الراوي ان يصل بالقارئ الى أبعاد لم يكن ليصلها؛ إلا في هذا النسيج السردي الروائي كهذه الرواية، فجانب ما تحويه من سرد فهي تضع القارئ في دواخل الإعتمالات النفسية لساردي الحكايات؛ ليعبر كل واحد عن ذاته ونفسيته، ومن يعيش حوله، وعن الأمكنة المرتبط بها كحيز حياتي وجزء من السرد في نسيج ملحمي متكامل؛ فرض عليه السرد قوة موسوعية؛ استطاع الكاتب من خلال توظيفها اتساعاً في الرقعة روائية المتداخلة في نسيج الحكايات.

سعيد الكندي
[email protected]