ملحمة ليل القرامطة للشاعر السعودي محمد الفوز جاءت مقسمة حسب ملحمة جلجامش إلى ألواح؛ وكل لوح يحوي نصا شعريا؛ وفي مقدمة اللوحة تأتي لوحة تشكيلية معبرة عن معنى النص.. إن الوجوه التي تقنّع بها القرمطي في الملحمة لم تكن إلاّ ذلك الإنسان الذي عاش في غرب الخليج العربي، ذلك الإنسان الذي يبحث عن ذاته في معمعة الفوضى التي خلقتها أنساق ثقافية منذ البدء على تلك الأرض، ليتجلّى في الشاعر نفسه، ممثلاً ذلك القرمطي المتشبّع بتفاصيل الجغرافيا والتاريخ والإنسان..
"أنا القرمطي المبعثر في هلوسات القُرى
أنا القرمطيّ الذي هام في موبقات الكرى
أنا القرمطيّ الذي شرَّدَتني المساءات في عتمة لا ترُى!!
أنا القرمطيّ المؤجَّل في شيمة الآخرين
ولا انفكت الطلسمات بروحي "عُرى"
أنا القرمطيّ بلا رحمة
تتخلل أكباد فجر/معي... قد سرى!
أنا القرمطيّ المكابر في البؤس ما كانت اللثغات بصمتي تُرى
انا الليل ضيَّعْتُ لون الممر الذي خاف من ظلّه في الثرى
أن القرمطيّ
ولا شيء يبلغ عين المدينة
في ريفنا الهَجَرِيّ الذي عاد تاريخه القهقري
أنا القرمطي
أنا ......."
هذا القرمطيّ الذي مرّ علينا في النصّ السابق متجذّر بكل تفاصيل المكان والهوية والإنسان، لا ينفصل، يظّل متربعاً على عرش الجغرافيا.
إن الألم الذي يصاحب القرمطيّ هو عودة التاريخ "القهقري" الذي خلق العزلة في "عين المدينة" لينبثق من كل ذلك هذا الألم المتجذّر منذ البدء؛ لكن التركيب أحيانا يقودنا إلى عكس ذلك، أي أن عودة التاريخ القهقري هو بمثابة الحارس لذلك الشتات وتلك الأحداث التي تعصف بالمكان.
يقول الشاعر في قصيدة "ما العمر إلّا طريق الجسد":
".. وننسى، هنا أو هناك الجحيم ابتداء لأضلعنا القرمطية"
في هذا المقطع دلالة على التماهي الحاصل بين الشاعر والقرمطي بجسده الأثيري، ليدخلنا في مسألة الاختلاف القائمة بين العرب وبما لا يجب فيه أن نختلف، ليؤكد أن الاختلاف هي مسألة متعلقة بالعرب لترزح بثقلها على الحضارة في تشكّلاتها، وهنا لا ينفع إلّا أن يتغلغل القرمطي في تفاصيل الحياة مهندساً بذلك تراتيل العُصاة المتعلقة بالعرب.
"نحن العُصاة اختلفنا بما لا يجب، فكنّا الركام الثقيل برأس الحضارة... كنّا العرب"

إن الشاعر لا حدود لتمرده، يتشكّل حسب ما يراه، وبالتالي يصبح أن يلتقي ذلك القرمطي والشاعر في هذا التمرّد، يبحثان عن وجودهما في الحياة، ويؤكدان حضورهما من خلال البحث عن الذات في معمعة الجماعة، لذلك الشاعر عندما يكتب قصيدته فإنه يبحث عن تجذّره في المكان والحياة، ليبقى التاريخ ذلك العامل المساعد على الأرض..
"وما (القرمطيّ) سوى شاعر..."

يقول الشاعر في اللوح (بعض المواعيد من كاتب الوَرْد):
"أنا القرمطي الأخير بفوضى الحياة!!
أنا القرمطي الأخير بأرض الوشاة"

من خلال الشكل رقم (1) يمكن دراسة التركيب اللغوي في المقطعين السابقين وذلك من خلال خلق علاقات تبادلية في التراكيب اللغوية:
- التركيب الأول: أنا القرمطيّ الأخير بفوضى الحياة.
- التركيب الثاني: أنا القرمطيّ الأخير بأرض الوشاة.
- التركيب الثالث: أنا القرمطيّ الأخير بأرض الحياة.
- التركيب الرابع: أنا القرمطيّ الأخير بفوضى الوشاة.

من خلال التراكيب الأربعة السابقة يمكن ملاحظة أربعة مفردات تشكل العلاقات التبادلية بين العناصر( بفوضى، بأرض، الحياة، الوشاة)؛ بالنسبة للتركيبين الأول والثاني فقد كانا في النصّ بذات الصيغة التركيبية، أما الثالث والرابع فقد قمنا بتفكيكهما لفهم التراكيب اللغوية في المقطعين وعملية تبادل العناصر ومدى تناسب المعنى والدلالة والانسجام الموسيقي أثناء التفكيك والتركيب.. لذلك إذا ما لاحظنا التركيب اللغوي الثالث (أنا القرمطيّ الأخير بأرض الحياة) نجد أن التركيب لا خلل فيه من حيث المعنى، ويعطي دلالة الوجود لهذا القرمطي على اعتبار أنه آخر الكائنات البشرية التي تمثّل هوية المكان والتاريخ على أرض الحياة، لكنه يقود إلى عنصرية هذا القرمطيّ الأخير..
لكن عندما نعيد التركيب كما جاء في النصّ (أنا القرمطي الأخير بفوضى الحياة) يقودنا إلى معنى متخلف عما جاء في التركيب الثالث، ليعطي دلالة تترجم معاناة هذا القرمطي الذي أدرك الكثير من خلال التجارب التي مرّت به في جغرافيته المتخَيَّلة حول التاريخ، لتكون مسألة وجود واستقلال وحرية، ورفض للتبعية، وعلى اعتبار أن الفوضى التي أدركها تغصّ بالعنصرية في تلك الجغرافيا..
بالنسبة للتركيب الرابع (أنا القرمطيّ الأخير بفوضى الوشاة)، الدلالة تقود إلى أنه، أي القرمطيّ الأخير، أصبح قرمطيّاً أخيراً بفضل فوضى الوشاة، مما أبعد الدلالة عن المقصود حول ماهيّة هذا القرمطيّ، لكن بالرجوع إلى التركيب الثاني (أنا القرمطيّ الأخير بأرض الوشاة) تغيّرت الدلالة بمدلولها، حيث الوشاة الذين جعلوا من هذا القرمطيّ أن يكون أخيراً على الأرض الموصوفة، مما جعل منه قوة ضمن السياق وضمن التركيب الذي جاء في النصّ قبل التفكيك.
- النديم:
إن الخطاب الموجه إلى النديم أحياناً يأتي من السارد الشاعر، وأحيانا من السارد القرمطيّ، واحيانا يأتي من سارد داخلي.. إن صوت السارد يندمج أحيانا، وفي أحيان أخرى يتفرد بصوته المرتفع الذي ينادي بأعلى صوت.. كانت البداية مع هذا النديم في اللوح أو النصّ الثاني ( يلوّن رايته بالعناد)، إذ جاء الصوت خافتاً في حوار بين السارد والنديم (هو الحال من بعضه يا نديمي!).. بعد ذلك نجد أن وتيرة صوت السارد ترتفع بحكم أن المساء لا يليق إلّا بوجوده:
"أعيدوا المساء!
أعيدوا المساء!

فم يدرك الليل إلّا نديمي
يقمّط........
عُري الوفاء الأليم!"
وبحكم أنه في هذا المساء قد بلغ النضج بعد ذلك العمر فإنه، أي المساء، أصبح بالغ الأهمية مما كان وجود النديم أيضا له أهميته التي لا يستطيع الاستغناء عنها هذا السارد.
بعد ذلك نجد أن السارد يرثي النديم لتبقى ذكراه حاضرة في المكان والأشياء..
"فكل نديم يموت!
وذكراه في همسات الممر
تؤثث روح المكان التي استسلمت للوداع"
ثم في اللوح (بأيّ نحيب أُبَوصِلُ رمش الوداع) يبحث عن نديمه يناديه نداء الغياب " يا نديمي....." فلا يجده؛ ليسأل السارد عنه في اللوح (ما العمر إلّا طريق الجسد)، إنه بدون هذا النديم وحيد يعيش وحدته القاسية :
"فأين نديمي؟!!"
لم يجد نديمه الذي غاب ليبقى السارد في تيهه محاولاً إيقاظه:
"أفق يا نديمي ...... أفق:
فهذي البلاد/ بلاد الأرق!"
وتستمر رحلة البحث عن النديم في قصيدة (خسرنا الجهات):
"فأين نديمي الذي حدّني للشقاق؟!!
أتيتك في أثر بابليّ/ يسامرُ ممشاي حزنُ العراق"
ويستمر النداء والبحث عن هذا النديم إلى أن نصل إلى نهاية الملحمة في اللوح (بعض المواعيد من كاتب الورد) ليقرر بعدها عدم الانتظار:
"ولا تنتظرني
ولن أنتظرك"
- الأيديولوجيا والقصيدة:
من الملاحظ على الملحمة ومن خلال القضايا الشائكة التي تطرحها وتسائلها تظل الأيديولوجيا قضية كبرى اهتمّ بها الشاعر وبدأت الجدلية تتحرك عبر مسارات مختلفة.
إن الخطاب الديني المؤدلج الذي انتقده الملحمة بشدّه يظلّ ذلك الظلّ الثقيل على كاهل الإنسان والإنسانية، ولذلك وفي أول اللوح المعنون ب(كل الجراحات بلاهات شر) فإن الهجوم شرساً على هذه الايديولوجيا التي قلبت حياة الإنسان في المكان وتحكمت في مصيره:
" لنا كاهن/
يسرق الغيب
ننطره ما يقول!!"
ذلك الخطاب الذي طالما تكلم باسم الله على الأرض وطالما تدخل في حياة الإنسان من خلال بيع الوهم المختلط بالقبليّة والقبيلة ونخوة تخون حرية الإنسان في كثير من المواقف:
"إذا الليل غطّى دماء الفجيعة....
في نخوة لا تزول!"
ليبقى الخلط بين الدين والعادات والتقاليد لتبقى صورة الكاهن المؤدلجة المنعكسة على حياة الإنسان، ذلك الإنسان الذي يبحث عن السعادة والراحة والطمأنينة.
- العلاقات الجدلية في الملحمة:
من بين القضايا التي طرحتها الملحمة هي القبيلة بكل تشكّلاتها على الأرض، عندما تكون في جدليتها مع المدينة ذلك الاستفزاز القَبَليّ ليكون الثأر القبلي منذ الجاهلية:
"إن السياسة آخر حظّ عرفناه في الجاهلية/
حتى شربنا دماء
ولحم "أخ" مستتاب أكلنا/
لم نستسغ حزنه/
وهو لن يكتفي دون ثأر، فضيع النوايا، فما للقبيلة إلّا
التبختر بالقتل والحقد والشرف المتعاظم في كل ذبحٍ....."
بالتالي فإن الجدل الحاصل بين القبيلة والمدينة وعلاقتها بالحضارة من بين القضايا الرئيسية التي تطرقت لها الملحمة:
"تؤرقني الحادثات
فأنبذ شأو الحضارة!!
حيث التمدّن عار علينا
وأما الحداثة رحم بذيء
لكل مخاض بلا مستقرّ"
بالتالي نلاحظ أن مفردات( القبيلة، والجاهلية، المدينة والحضارة، والعرب) أخذت مساحة ضمن إطار الجدل الحاصل بينهما والصراع الشرس على الجغرافيا، هذا ما ولّد هاجس عظيم بين الماضي والحاضر، وما الصراع الذي عاشه المثقف "الحداثي" مع الخطاب الديني المؤدلج خلال فترة الثمانينات والتسعينيات من القرن المنصرم إلّا دليل على هذا الصراع المتجذر ليبقى القبلّي تحت تأثير الخطاب الديني معلقاً بين شدّ وجذب.
في النهاية..
يبقى الشاعر أو ذلك القرمطيّ الأخير، أو ذلك السارد المجهول يقول لنا منذ البدء وقبل أن تبدأ الحكاية:
"أكابد فوضى الممر الذي غاب
في لجة العابرين
وتاه الطريق
وشذّ الغبار"

فهد بن مبارك الحجري