النقد الثقافي

عبدالله الشعيبي
مدخل
من الملفت أن التعامل مع فكرة الأسطورة ينبني على ما نسمح به في واقعنا ليأخذ - عبر سرد حكائي - إلى المكانة الذهنية والوجدانية التي نرتئيها، أو التي يتم بها إيصال الفحوى والمبالغة اللتان تحيطان بها، محفوفة بكثير من السمات التي تجعل من الخيال عاملا ذا استمرارية مغذية كمالها. لكن ذلك - وفقا لما فهمناه وحفظناه - يجعل الحكاية هي مفتاح ذلك ومآله، مستبعدا ما عداه، بغض النظر عن تكوّن ذلك في الوعي الجمعي، وإن كان ناشئا عن رابط / روابط من خارج دائرة الحكاية. لكن في الثقافة الجمعية العمانية القديمة، أخذت بعض المظاهر سمة التجذر والحضور - في زمنها الأقدم- لينشأ عنها ميل عام للتعاطي معها على أنها نوع من الأسطورة، وهذا ينطبق على الفنون الشعبية في صلتها بالقصيدة، وفقا للفهم الجمعي في تلك المرحلة، وهو ما لم يتعامل معه المكان بصفته تراكما واعيا، بل بصفته سلوكا غريزيا مدعما بكمال الانتشاء الحركي واللعبة اللغوية الشعرية التي انساق الإنسان العماني القديم وراءها، بمختلف شرائحه، وفق طقسية لا يمكن النظر إليها إلا من بوابة الاعتياد والتوق والشغف والاكتشاف المحفز لاستمرار الشعور العميق بفرادتها وخصوصيتها.

مخيّلة شفاهية
إذا كانت الشفاهية ومساحة المخيلة الواسعة هو ما يصنع الأسطورة في شقيها التراكمي موضوعا والتصاعدي مخيالا، فقد نسج المجتمع العماني القديم مستوى من الأسطرة السلوكية الخاصة به، وفق قانونه الوجداني، من خلال ما يرويه عن ثنائية الإيقاع والنص وصلتها بالفنون الشعبية المغناة، فكلما كان انغماسه فيها يزداد، كلما نتج عن ذلك مستوى عميقا يجعله ينفتن أكثر بتلك الثنائية، المتأسسة يقينا على الشفاهية، وما ينتج عنها من تأثير على تفاصيله اليومية، ارتباطا بطقوسية الفنون الشعبية.
ببساطة، يمكن القول إن ما كان يتعايش معه المجتمع العماني القديم - من واقع مرئياته للفنون الشعبية - نتجت عنه حكايات مختلفة، تتناقلها الشفاه، وازدادت حماسة الرواة لما سمعته أو رأته أو عايشته، وبالتالي أصبح لدى الأفراد والجماعات خارطة ذاكرية مؤسطرة حول فنونه، مبنية على منشأ المخيلة التي قامت ببناء أثر القصيدة من ناحية، والفنون الأدائية المرتبطة بها من ناحية ثانية، لتصل إلى مستوى يتحقق - من خلاله - تناغما بين الشفاهية والقصيدة والفنون، ويسرد المجتمع واقعه المختلف والاستثنائي، بطريقة لا يستوعبها غيره، ومع ذلك يتعامل معها بحس غريزي ذي طابع جمالي منتش.

انثيالات المعنى
من واقع أن الطرب من زاوية الفنون الشعبية العمانية مبني على ركنين، هما المعنى والمغنى، فإن الجانب المتصل بالأول منهما له صلة وطيدة بنوع جزئي من الأسطرة التي أنشأها المجتمع العماني القديم عن ذاته، من خلال صلته الطربية بالشفاهية التي تصنع المعنى، فالمعنى له أهميته في البنية الطربية، كيف ذلك؟
يبدأ المعنى مسيرته من الفكرة التي تلامس الفرد أو المكان أو الأفراد ذوي الصلة المباشرة أو غير المباشرة بالفكرة/الحدث، ولكي ينصنع المعنى سيحتاج ألفاظاا معبرة عنه، وهي - في هذه الحالة - ليست إلا النسق اللهجوي الذي ينتمي إليه الشاعر- منشىء الفكرة- تمهيدا للوصول إلى ما ينشأ عن اللفظ من معنى واحد أو عدة معان، طبقا لما ترمي إليه الدلالة المستكنة وراء اللفظ.
الثقافة الجمعية العمانية القديمة كانت تجد في ذلك المعنى مستوى مختلفا من الأسطرة، يمكن فهمه من عدة زوايا :
البناء اللفظي في سياق المكان الذي ينتمي إليه. المخيلة الواسعة التي تستعين بخبرة التعاطي مع أنساق الكلام.
التجديد اللفظي الذي لا يفضي إلى معنى محدد واحد بالضرورة، ولكنه يسهم في تكوين مفهوم عام للمعنى ، قابل للتعدد، من دون أن يفقد التركيب بريقه وتأثيره. يبدو - من خلال الزوايا التي ذكرناها - أن انثيال المعنى، وقدرته على توليد معان ذات أفق ممتد في الزمن، و متجانس مع التحولات، ومرن في التأثير على الأجيال المتعاقبة، منحه - أي المعنى - قدرة على أن يتأسطر في الذاكرة، لكي يتناقله الناس، عبر المرويات التقليدية، أو ضمن طقوس الفنون الشعبية، مما يجعله مختلفا في الذاكرات التي كانت تتعاطى معه، ولهذا شكلت تلك الانثيالات مستوى أسطوريا في الجانب الطربي الشعبي.

جماليات المغنى
هل يمكن أن نقرن بين المغنى من جهة، والروح التي تمنحه ألقا وتحقق انتشاءه من ناحية أخرى؟
الإجابة على هذا السؤال متصلة بالمعايشة المباشرة والمقارنة بين المغنى في الفنون الشعبية العمانية قديما، وبين ما آلت إليه في الفترة الحالية، فهناك فارق جوهري في العلاقة الناشئة بين المغنى والمؤدين المرتبطين به، سواء كان على المستوى النغمي، أو على المستوى الحركي المترافق مع النغمي، كانسجام يضبط ما بينهما إيقاع خارجي هو الطبل، وإيقاع داخلي هو التقطيع الصوتي الآتي من نشوة الأداء. عندما ينشأ ما يمكن وصفه بـ روح المغنى، يبرز على السطح مستوى ساحر من الجماليات، ولا يمكن القفز على هذا التأثير، لأن رؤيته متحققا بين جمع المؤدين، وانسجام الناظرين بصريا إلى واقع ذلك المغنى، يثير أسئلة كثيرة، حول الكيفية التي يتحقق من خلالها ذلك التأثير، والماهية التي تفرضها سياقات المغنى على الحضور، وانتقال ذلك التأثير وصفيا من زمن إلى زمن آخر، لتبدو نلك الجماليات واضحة في النبرات الصوتية الساردة، التي تمنح الصورة الذهنية الواصفة بعدا سحريا، لا يلبث أن تتناقله الأفواه سماعيا، لتنصنع منه أسطورة المغنى.

شرفة الحِياب
لكل حدث طربي شعبي في البيئة العمانية القديمة جمهور، يسمونه (لحْياب)، وهو مكون من شريحتيّ النساء والأطفال، وعادة ما يكونون على الأرض، في مشهد فرجوي مختلف، حيث (الليسُوّات/الِكسُوتُوّات) بألوانها البهيجة، وفي أحيان معينة، وبحسب جغرافيا الحدث، فإن نوافذ البيوت (الدرايش) تخفي خلفها من يشاهدن في صمت وترقب وتعايش وانطراب، وبخاصة في المناسبات الدينية والاجتماعية، بينما في (الرمسات) يكون الجمع المتفرج من شريحة الرجال فقط، ولكن لا يسمونهم (لحْياب)؛ وبناء على ذلك فإن هذا الجمع الخليط من النساء والأطفال، هو أحد عناصر النقل الأساسية لمجريات الأحداث، وهو الذي من أجله يأتي الشعراء والمؤدون، وإذا حصل وكان (لحْياب) بمستوى عددي غير مُرضٍ، يمسك بعض الشعراء الحاضرون عن فتح باب سليقتهم الشعرية، وربما لا تزيد مشاركتهم عن الحضور في الجمع ذاته، وكأنهم يستمدون الطاقة الجوهرية لتشكيل قصائدهم بمعنييها الظاهر والمضمر من تلك الجموع، التي تترك مساحة فاصلة بينها والساحة.
لا يمكن إغفال دور (لحْياب) في الإسهام الترويجي الاجتماعي لما حصل، فضلا عن التقاط مشهديات معينة، تظل في الذاكرة؛ وإذا كن ذوات ذاكرات وصفاء ذهن، فإن المقول الشعري يظل في المفكرة الدماغية لديهن، ليتم نقله صوتيا في التحلقات الاجتماعية، وبحسب ظروف طرح الصيغة الاسترجاعية للأحداث الطربية، وهو ما يسهم في أسطرة البعد التأثيري معنى ومغنى، ورفد الزمن بمتواليات سردية، لن تلبث أن تصبح أيقونة أحاديث ليال وسمرات وضحْويّات لامتناهية.

خاتمة
من واقع ما حاولنا مقاربته هنا، سنجد أن البيئة العمانية القديمة، حاولت - عبر علائقياتها بأحداثها الطربية المختلفة- رفد الذاكرة الجمعية بأسطرات ذات أبعاد معبّرة عن الخصوصية، وناقلة إياها من مرحلة زمنية إلى أخرى، زيادة أو نقصانا أو موضوعية، مما تدرك به تلك التجمعات تأثير المعنى والمغنى والحياب في تحقيق الجسرية والتعددية - في آن - للتعبير عن دهشتها وانذهالها بما رأت.