[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2017/03/rajb.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. رجب بن علي العويسي[/author]
في ظل ما يعيشه عالمنا المعاصر من تحولات فكرية باتت تلقي بظلالها على منظومة بناء الإنسان وهويته وثقافته الوطنية وجوانب الوعي لديه وقناعاته حول وطنه وشعوره بما يقدمه له، في ظل تأثير قوي للإعلام الإلكتروني البديل وشبكات التواصل الاجتماعي والفضاءات الكونية التي نافست إعلام الحكومات بما تقدمه من سرعة في الطرح وتنوع في طريقة تقديمها للمعلومة واستيعابها من قبل المشاهد أو المتابع أو القارئ، مما يستدعي البحث عن موجهات أكثر رصانة وأقرب إلى ثقه المواطن وملامسة لواقعه في سبيل بناء مواطن المواطن وخلق مساحات أكبر للتناغم بينه وجهود الدولة عبر مؤسساتها ومشروعاتها التنموية وبرامجها، وبالتالي تطرح هذه التحديات تساؤلات حول كيف يمكن للدولة أن تؤسس ثقافة المواطن والموجهات التي يجب على الدولة أن تعمل على تحقيقها في سبيل بناء ثقافة مواطنيها في ظل تعدد مصادر هذه الثقافة وتنوعها ودخول منافسين آخرين يفوق دور الدولة ومؤسساتها في قدرتها على الدخول إلى فقه المواطن وثقافته وتغيير مزاجه ومسارات التفكير ونمط الدوافع لديه للانخراط فيها وتبنيها، والأبعاد التي يجب أن تكون حاضرة في أنشطة الدولة المقدمة لمواطنيها بما يضمن التزام المواطن ثقافة وطنية متوازنة قادرة على التكيف مع الأحداث الخارجية والمؤثرات السلبية، وتمتلك قدرا كبيرا من الوعي الداخلي بأولويات ومحددات العمل الوطني بما يجنبها شطط الدخول في متاهات التغريب للأوطان، خاصة إذا ما نظرنا إلى طبيعة الاحتياج لدى جيل المستقبل وجوانب الاهتمام لديه واتجاهاته والقناعات والأفكار التي يحملها حول الكثير من القضايا الوطنية، فهو ـ إن صح التعبير ـ جيل لا ينتظر ما قد ينتج عن المشروعات التنموية، كما أنه لا يهتم بالتبريرات والمسوغات التي تساق له حول الخطط التنموية والبرنامج الزمني المعد للتنفيذ، وفي الوقت نفسه قليلا ما يؤمن بمسألة الأولويات الحكومية والمصلحة العامة ويتجه بتفكيره إلى الأنا والمصلحة الشخصية في تقييمه لحجم التأثير ونواتج العمل المتحققة، وسقف التوقعات التي يؤمن بها حول قضاياه الشخصية ورغباته الذاتية وطموحاته التي يجب أن تلقى الاهتمام والعناية.
عليه تبرز في ظل في الإجابة عن التساؤل المطروح الذي يدور حوله المقال جملة من الموجهات الرئيسية التي سيكون لها تأثيرها المباشر أو غير المباشر على ثقافة المواطن والتزامها أطر الدولة ورؤية عملها، تأتي من بينها: بناء استراتيجية وطنية متكاملة لتربية المواطن على سلوك المواطنة وقيمها وفق مسارات تعليمية وتثقيفية وتوعوية وفكرية وترويحية تعمل على تمكين الوعي لدى المواطن وحضورها المستمر في واقعه المعايش وعبر تأمين مساحات المشاركة الفاعلة له في أجندة التنمية، بما يضمن وصول صوت الدولة بمشروعاتها الضخمة وبرامجها التطويرية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية والتعليمية التي تستهدف أمنه واستقراره وسعادته وتحقيق مستويات العيش الكريم والحياة المطمئنة له، مما يؤكد الحاجة إلى إعادة التجديد في لغة الخطاب الوطني وإدارته بالشكل الذي يضمن قدرته على استحواذ اهتمام المواطن وحرصه على جعل رسالته طريقه لتحقيق أهدافه ووضوح أدواره ومتطلبات المرحلة التي يعيشها، وما تستدعيه منه من بناء مسارات الثقة والمسؤولية والالتزام والإرادة نحو ذاته والتسويق لقدراته والتعريف بما يمتلكه من مهارات واستعدادات، فيؤصل لديه قوة التقدير لجهود الدولة والاعتراف بحجم الفرص التي عليه أن يبحث عنها ويدخل في المنافسة للحصول عليها، على أن فاعلية أثر البيئات التشريعية وتحديث القوانين ومراجعتها في بناء الأمن والسلام الاجتماعي الداخلي وخصوصية الأفراد في ظل المعايير والقيم والأخلاقيات مع المحافظة على حرياتهم المدنية، سوف يؤسس في ثقافة المواطن ملامح القوة الشخصية في التعامل مع قضايا الواقع، والمهنية في إدارة متطلبات الحياة العملية الشخصية والأسرية، ورقابة الضمير وتربية النفس النابعة من صدق التوجه المصحوبة بعدالة أنظمة المحاسبية والمساءلة المشروطة، وقدرة المؤسسات القضائية والأمنية والعدلية من خلق حوار مع القانون والتجاوب معه تحقيقا لإنتاجيته، بالشكل الذي يؤصل لديه خُلق الجاهزية في التعامل مع المستقبل والتكيف مع كل المتغيرات الحاصلة فيه مع ثبات على المبادئ وصدق في العمل.
على أن نجاح هذا التحول في ثقافة المواطن مرهون أيضا بالإدارة المتوازنة للسياسات الإعلامية عبر خلق مساحات أكبر للتقارب الفكري مع المواطن بما يضمن مزيدا من التأثير والاحتواء له، في ظل تزايد قنوات الاتصال والفضائيات ومصادر تلقي المعلومة والوصول إلى فرص تضمن مستويات أفضل للتعاطي مع محتوى الرسالة الإعلامية الوطنية، عبر دخولها في قاموس المواطن اليومي ومتابعته الشخصية لها، بالشكل الذي يمنحها الثقة والمهنية والشعور بقيمتها في حياته، لتكون في قائمة اهتماماته وأولوياته، إذ إن مسؤولية الإعلام الوطني اليوم تتعدى تعريف المواطن بجهود الدولة وما قدمته من مشروعات تطويرية، إلى تمكين المواطن من الاستفادة من هذه البرامج والمشروعات وتوظيفها في خدمة واقعه الاجتماعي، وكيف يبني من خلالها مسارات التحول في جوانب الوعي والمسؤولية والاحترام والتقدير للمنجز، وكيف يمكن أن يصنع منها منطلقا لابتكارات قادمة وتوجهات تعكس مساحات الرضا والشعور بما تحمله من قيمة مضافة في حياته، وبما يضيف عليها مساحات إنجاز أكبر وأعمق، في ظل منحى الاستثمار في الإعلام وصناعة القدرات والمواهب الشابة، وتمكين ظهورها في محطاته الإعلامية والإعلانية المختلفة؛ فإن الوصول إلى هذه النواتج المؤسسة لثقافة المواطن بحاجة إلى إدارة إعلامية واعية تصنع من الفرص والمنصات الإعلامية فرصا استثمارية أكبر للتسويق والترويج للخبرة الوطنية والثقة في القدرة العمانية وتوجيه الأنظار إليها، ويقع على الإعلام مسؤولية إبراز قصص النجاح الواقعية التي يصنعها المواطن في مختلف المجالات، والتحديات والإشكاليات التي تواجهه في بلوغ جودة الهدف، على أن حالات القلق والاضطراب وسرعة إصدار الأحكام والشائعات التي يبرزها واقع الشباب، بحاجة اليوم إلى منظومة إعلامية متفاعلة مع الواقع ومستجداته، قادرة على إيصال صوت المواطن إلى المؤسسات، وتقديم إجابات مقنعة، ونماذج واضحة ترصد هذا التحول وتقف شاهد إثبات لتأسيس نجاحات أكبر في حياة المواطن.
كما تبقى مسألة ثقافة المواطن مرهونة أيضا بقدرة المؤسسات على تأسيس مواطنة المواطن، بما يضمن تعزيز جودة الخدمة المؤسسية وترقيتها للمواطن واستشعاره عظمة الدولة وقوة الهدف المتحقق من وضوح الإجراءات ومرونة الأداء وفاعلية الأدوات، في ظل ما يشير إليه الواقع المعايش من تأخر في الإجراءات وبيروقراطية في الأداء المؤسسي، والتي تستدعي بناء موجهات ضبطية واضحة تنقل العمل المؤسسي من كونه مجرد تأدية مهمة دون النظر إلى تأثيرها على هوية المواطن وثقافة الوعي لديه، كونه عملا وطنيا يقترب من المواطن ويتفاعل معه ويستمد قوته من رضاه وإعجابه وارتياحه، فيعزز فيه شعور الإيجابية والتفاؤل، ويؤسس لمستويات أعلى من المرونة في سبيل تنفيذ الخدمة والكفاءة في طريقة تقديمها، فإن المطلوب اليوم جهد رقابي وطني فاعل يضع حدا لكل الممارسات التي باتت تسيء إلى جهود الدولة التنموية، وتتجانب مع سعيها نحو التيسير على المواطن واختصار الإجراءات، والحد من الممارسات السلبية الناتجة عن ردات الفعل والقصور في المنجز المتحقق.
على أن رفع سقف التوقعات الوطنية للمواطن في توظيف مواهبه وقدراته واستعداداته وابتكاراته وخلق بيئة العمل المناسبة له، وتوجيهها إلى البحث والاستكشاف والتحليل والاستفادة من الإحصائيات ومؤشرات النجاح، بما يضمن إعادة هندسة أساليب ممارسة الابتكار الحالية ووضع الجهود المؤسسية ضمن منصة ابتكارية واحدة والتعامل مع مفاهيمه وطريقة تدريسه وتوجيه نحو صناعة التحول في الممارسة القادمة التي تتم في المداس والجامعات والمناهج والأنشطة والبرامج التدريبية التخصصية، بالإضافة إلى التشريعات الداعمة لتحقيق هدف الابتكار وممكناته في الواقع، وفي هذا الشأن تأتي مسألة صناع القدوات بالمجتمع وتعظيم حضورها كمنطلق لضمان تحقق نواتج ثقافة المواطن وتمكينها من القيام بدور مؤثر في التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والدينية، بحيث يأخذ في الحسبان فلسفة التعليم وأنظمة الحوافز والمحاسبية، ومستوى تمكين المواطن من بناء مسارات تعلمه بنفسه وترقيتها وضبطها وفق موجهات محددة، لتضيف إلى هذا البعد الوطني في تأسيس ثقافة المواطن أبعادا أخرى أكثر نضجا ووعيا يترجمها في واقع حياته، سوف يضع ثقافة المواطن أمام تحولات عميقة في فهم مداخل التغيير التي يجب أن يتبناها لحمل مشروع الوطن الحضاري ورؤية الدولة في مواجهة كل حالات التشويه والإقصاء الفكري التي يتعرض لها الإنسان المعاصر.
من هنا وجب العمل في مسار الدفع بهذه الموجهات في خط متوازٍ مع جهود البناء الفكري للمواطن في سبيل تأسيس ثقافة المواطنة لديه، واستيعابه للتحولات التي يمر بها ومساعدته في توظيف نواتج هذه الثقافات والأفكار والقراءات والمواقف والنظريات والتعليميات والمفردات التعليمية والثقافية والسياسية التي يتعرض لها في فهم أعمق لجهود الدولة وآليات العمل، بالشكل الذي يصنع منه عنصر دعم وتأييد للمنجز فيقترب من قناعاته ويمده بفلسفة الاختيار فيقرب مفاهيم التنمية له ويحركها في مشاعره ويبسطها له في منظومة التفاعلات والعادات والضوابط والقوانين والتشريعات واللوائح، عبر نقل مسارات العمل من خلال المواطن نفسه فيصنع منها علامة فارقة تظهر نواتجها في رصانة ثقافته وامتلاكه مصادر إثرائها وقوتها وعناصر إنتاجها وإعادة هيكلتها لصالح أهداف الوطن وغاياته السامية.