” .. لو أن مشروع قناة السويس لم يؤت سوى أن يعيد قيمة العمل وأهميته لدى المصريين لكفاه إنجازا. وربما تكون المشروعات الأخرى لدى القيادة المصرية أكبر وأهم، من استصلاح أراضٍ إلى إقامة وحدات سكنية، ويشعر المواطن العادي بفائدتها المباشرة بسرعة. لكن مشروع قناة السويس هو أيضا بداية لخطة طموحة لتطوير منطقة القناة وجلب استثمارات إليها...”
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حسنا فعل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي باختياره مشروع تنمية قناة السويس كباكورة المشروعات الكبرى التي وعد بها في حملته الرئاسية. وبغض النظر عن الأهمية الاقتصادية والتنموية لتفريعة القناة التي بدأ العمل فيها وتنجز خلال عام، فإن أهمية القيام بمشروع كهذا تتجاوز الجانب الاقتصادي المباشر إلى ما هو أهم. ومن خدم في كثير من الجيوش يعرف أن القيادة في أي وحدة عسكرية لا تستطيع ترك الجنود دون تدريب دائم للحفاظ على لياقتهم واستعدادهم الدائم لمشروعات القتال عند الحاجة. وهناك قصة شائعة بين المجندين في جيوش كثيرة وهي أن قائد السرية أو الكتيبة حين يستنفد التمارين والطوابير والتدريبات الروتينية يطلب من جنوده حفر بئر، وفي اليوم التالي ردمه وحفر بئر آخر في مكان آخر. وليس القصد الوصول إلى مياه جوفية بقدر ما هو الحفاظ على جاهزية القوات.
بالطبع ليس مشروع القناة الجديدة، أو’تفريعة‘ قناة السويس بطول 37 كيلومترا، مجرد "حفر بئر" بل هو مشروع ضخم يمكن إذا أحسن تنميته واستغلاله أن يكون إضافة هامة جدا للاقتصاد المصري. لكن المجتمع المصري كله بحاجة لنوع من "استعادة اللياقة" بعد ثلاث سنوات من الاحتجاجات سبقتها عقود من الركود والتردي. فلو أن مشروع قناة السويس لم يؤت سوى أن يعيد قيمة العمل وأهميته لدى المصريين لكفاه إنجازا. وربما تكون المشروعات الأخرى لدى القيادة المصرية أكبر وأهم، من استصلاح أراضٍ إلى إقامة وحدات سكنية، ويشعر المواطن العادي بفائدتها المباشرة بسرعة. لكن مشروع قناة السويس هو أيضا بداية لخطة طموحة لتطوير منطقة القناة وجلب استثمارات إليها ـ تضيف إلى الاستثمار المباشر في الاقتصاد المصري عموما. لكن مشروع الحفر ذاته كفيل بتوفير فرص عمل، ليس فقط لمن يعانون البطالة بل أيضا للشركات والمقاولين المحليين الذين ركدت أعمالهم في الآونة الأخيرة، وهذا بدوره ينشط الاقتصاد ويحفز النمو.
بالإضافة لما سبق، هناك أيضا أهمية أخرى لمشروع قناة السويس الجديدة وهي أهمية "تعبوية" إذا صح التعبير. فكما حفر أسلاف المصريين قناة السويس قبل قرنين، سيحفر أحفادهم قناة أخرى يتملكونها بأسهم وسندات تقتصر على المصريين كما أعلن الرئيس السيسي. هذا الحفر، والملكية، يمكن أن تعيد للمصريين ثقتهم في قدرتهم على الإنجاز وتحفز قدراتهم التي تراجعت في العقود الأخيرة. وبالطبع هناك مشروع التنمية المستند إلى القناة الجديدة بما هو مأمول فيه من صناعة خدمات للسفن والنقل البحري ونشاط تجاري عبر إعادة التصدير وغير ذلك من المشروعات المرتبطة بهذا الممر الملاحي العالمي. وتحتاج تلك المشروعات لاستثمارات هائلة لن تأتي إلا عندما يثق الخارج بالاستقرار في مصر. وسيعني قدوم تلك الاستثمارات، إلى جانب الفائدة المباشرة، تحسين مناخ الاستثمار لرجال الأعمال العرب والأجانب.
تواجه الرئاسة الجديدة في مصر مشاكل عديدة، بعضها متراكم منذ عقود وبعضها تطور في السنوات الأخيرة. ولأن النظام الجديد يعتمد على ما تبقى من هيكل الدولة المهترئة، فهو يعاني ايضا من أمراض متوطنة عليه مواجهتها. ولا شك ان هذا الهروب إلى الأمام بالبدء في مشروعات كبرى يمكن ان يكون مخرجا من كثير من تلك العوائق. لكن النظام بحاجة إلى تكاتف الجهود من كافة أطياف المجتمع، ويبدو ذلك صعبا الآن في ظل انقسامات تصل إلى حد التشرذم. حتى الإعلام، الذي يعول عليه النظام ليسند جهوده لاستعادة الاستقرار يبدو غير مفيد في تلك المهمة: فمن ناحية يخشى البعض أن يظهروا بمظهر "بوق السلطة"، بينما يترصد آخرون بها لأنهم لم يحظوا بقربها.
واتصور أن مشروعا كمشروع قناة السويس يمكن ان يكون فرصة أيضا ليسند النظام نفسه بتوجه إعلامي لا يسعه إلا أن يكون وطنيا "معبئا". بالطبع سيظل هناك من لا يرى في المشروع سوى إعادة تدوير لمقترحات قديمة، بل ويسخر البعض من الأمر كله لأنه "ضد حكم العسكر" بشكل عام. وربما يكون في مشروعات البنية التحتية ـ كشق الطرق وتحسين الموجودة منها ـ ومشروعات التنمية كاستصلاح الأراضي والمشروعات الخدمية كبناء المساكن فرصة لتعزيز توجه الالتفاف الشعبي حول استراتيجية النظام الجديد لإعادة البناء ـ أو على الأقل وضع أسس إعادة البناء تلك. وربما يكون في اهتمام النظام المصري الجديد بالاستثمار في البنية التحتية والصحة والتعليم فرصة لإقناع الجماهير بأنه فعلا يعمل على استعادة "الأمل" في المستقبل.
يبقى كل ذلك مرهونا، بما في ذلك مشروع قناة السويس، بتوازنات إقليمية ودولية في ظل إصرار البعض على ألا يكون في مصر سوى الإخوان وجهد آخرين لمقاومة عودة الإخوان إلى حكم مصر. ورغم شبه يقيني من أن الإخوان لن يعودوا لحكم مصر، والمس بنفسي تغير مواقف بعض من أيدوهم ورأوا تجربتهم في الحكم، إلا أن إصرار قوى اقليمية ودولية على ذلك يعني أن كل الاحتمالات تظل مفتوحة. فحتى لو استقرت الأوضاع في مصر يحتاج تنفيذ تلك المشروعات وان تحقق المرجو منها استقرارا في الإقليم يبدو صعب المنال حاليا إلى حد ما.

د.أيمن مصطفى
كاتب صحفي عربي