علي بن سالم الرواحي:
إنّ الإنسان بطبعه يحتاج إلى بني جنسه في أموره حياته ودينه, فلا بد للإنسان أن ينادي أخاه, أو جماعته للقيام بشيء ما, كما أن الله سبحانه وتعالى ـ ولله المثل الأعلى ـ قد فرض على الإنسان تكاليف عمران الأرض وهي الأمانة التي حملها الإنسان بعد قبوله لها, مما جعل منه سيداً على الأرض, مسخراً له كل ما فيها, فلا بد أن يتلقى الإنسان التعليمات الشرعية من ربه جل جلاله ـ وبإستخدام أسلوب النداء ـ لهدايته, ومن ناحية أخرى يدعو الإنسان ربه ويناجيه حتى يحقق له مقصوده, ونستخلص من ذلك, ضرورة النداء كأسلوب كلامي.
النداء اللغوي مصدر نادى بمعنى الدعاء وطلب الإقبال بأي لفظ كان، والنداء النحوي هو طلب المتكلم اقبال المخاطَب بواسطة أحد حروف النداء ملفوظاً أو ملحوظاً ناب مناب (ادعو).
إذان النداء إسلوب إنشائي لأنه طلبي, وتتكون جملة النداء, من حرف النداء, والمنادى, والغرض من النداء.
وأحرف النداء, هي (يا) و(أ) و(أي) و(وا), و(أيا) و (هيا) و(آ) و(آي), وقد يكون الحرف ملفوظاً به, وقد يكون ملحوظاً في سياق الكلام, وقد تدخل حرف النداء على غير منادى.
والمنادى إما مفرداً مبنياً على ما يُرفًع به المفرد وهو غير المضاف ولا شبيه بالمضاف, ويدخل في المفرد النكرة المقصودة, ومثال النكرة المقصودة كقولك:(يا طالبُ), وأنت تقصد شخصاً بعينه، أو يكون معرباً: كالمضاف, أو شبيهاً بالمضاف كأن يكون ما بعده معمولاً له, ومتمماً لمعناه, نجو (يا قارئاً القرآن), وكالنكرة غير المقصودة نحو (يا مجتهداً) دون تحديد أحد بعينه.
أما غرض النداء أو جوابه, وهو الجملة التي تعقب المنادى, وهي إما خبرية وتكون مؤكدة أو غير مؤكدة وإما جملة انشائية وهي الغالب لأن المدعو يراد منه الطلب أو الكف.
والقرآن الكريم اقتصر على (يا) في النداء لمميزاتها اللغوية الجميلة, فهي الأصل المكين في نداء القريب, وهي الأكثر استخداماً ويجوز استخدامها لنداء المتوسط أو البعيد, والنداء, وتقدر الأداة ـ في المنادى الملحوظ ـ دائماً بـ (يا), وحُذِفت الأداة استشعاراً بقرب المنادى وهو الله, فهو قريب سبحانه من الإنسان, واستعجالاً منه بحصول غرض النداء, وينادى المعرف بـ (يا) مرتبطاً مع (أي )المبهمة, و(ها) التنبيه, وفي استخدام القرآن هذا الأسلوب, لطلب القيام بالتكاليف الربانية من العباد فيه نكتة بلاغية, وهي أن الطلب المباشر فيه جفوة لكن لمّا دخلت (ها) لطفت تلك الجفوة واثارت انتباه المخاطَب, كما أن (أي) تعطي التدرج من الإبهام إلى الإيضاح.
ولقد اُستفتحت عشر سور بالنداء, فمنها ما اُستفتِح بـ (يا أيها الذين آمنوا) وهي المائدة والحجرات والممتحنة, ومنها بـ (يا أيها الناس) وهي النساء والحج, ومنها بـ (يا أيها النبي) وهي الطلاق والتحريم, ومنها بـ (يا أيها المدثر) وةهي المدثر, ومنها (يا أيها المزمل) وهي المزمل, ومنها بـ (يا أيها الكافرون) في سورة الكافرون.
وتكرر (يا أيها الذين آمنوا) في القرآن في 89 موضعاً, وتكرر (يا أيها الناس) في 20 موضعاً, وتكرر (يا أيها النبي) في 13 موضعاً, وتكرر (يا أيها الرسول) في موضعين, وتكرر (يا أيها الإنسان) في موضعين, وجاء (يا أيها الذين كفروا) في موضع واحد, وجاء (يا أيها الكافرون) في موضع واحد.
ومن ناحية العموم والخصوص في المنادى, هناك نداء العام للعموم, ويشمل الأطفال وغير العقلاء لأنهم خُلِقوا من آدم، وهناك نداء الخاص للخصوص، وهناك نداء العام للخصوص, لأن الرسل اثناء نزول القرآن إلا نبينا الكريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لذا تعين النداء له, وهناك نداء الخاص للعموم, فهذا الخطاب يشمل جميع أفراد أمته ممن يريد الطلاق.
ومن ناحية النطاق, هناك نداء الجنس ، وهناك نداء النوع، وهناك نداء العين، وهناك نداء المعدوم بـ (يا بني آدم) فهو خطاب للحاضرين اثناء نزول القرآن, ولمن يأتي بعدهم من المعدومين بعد نزوله.
وهناك نداء علامة ويكون لفظ المنادى علامة عليه أو اسماً للمسمى, مثال نداء الرسل غير سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, ونداء أقوام الرسل غير الأمة المحمدية، وهنالك نداء الكرامة ولا ينادى به اسم المسمى مباشرة, وإنما ينادى بلفظ يفوح بالتكريم, كما جاء لسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) أو لأمته, ويقول عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه:(إِذَا سَمِعْتَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فَأَصْغِ إِلَيْهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤتَى بِهِ أَوْ سوء تُصْرَفُ عَنْهُ) (رواه البيهقي في شعب الإيمان).
وأعظم المدعوين هو الله ـ جلّ جلاله ـ وأشرف المدعوين,(يا أيها الرسل) و(يا أيها النبي) و(يا أيها الرسول) و(يا آدم) و(يا موسى), و(يا نوح) و(يا عيسى), ويليهم شرفاً (يا أيها الذين آمنوا), و(يا عبادي), وجميع ما ذُكِر سابقاً, هي لنداء الله جل جلاله ولنداء العاقل, ثم يليها نداء غير العاقل من حيوان وفيه تشخيص, أو للجماد وفيه تجسيد، وأسوء النداءات، كما (قل يا أيها الكافرون) (الكافرون ـ ١)، وهناك نداء أفراد ونداء المثنى ونداء جماعات مثل (يا قوم) ونداء الواحد ويقصد به المثنى.
وهناك في القرآن نداء حقيقي, وآخر مجازي, فالحقيقي ما طُلِب منه الإقبال حقيقة من المنادى وهو الأصل من وضع النداء حسب تعريفه السابق, بينما المجازي ما فيه غير ذلك, وجاء النداء فيه محققاً فوائداً وأهدافاً بلاغية, ولقد فاق القرآن في أسلوب النداء كل كلام, واستخدمه لتحقيق غاياته في أجمل بيان, ومن هذه الأغراض البلاغية: المدح: نحو (يا أيها الرسول), (يا أيها الرسول), (يا أيها الذين آمنوا)، والذم: نحو (يا أيها الكافرون), (يا أيها الذين كفروا)، والتنبيه: نحو (يا أيها الناس)، وكذا هناك التهديد، وأيضاً التعظيم كتنزيل المنادى القريب منزلة البعيد, أو بمناداته بصفة عظيمة نحو:(يا أيها الرسول)، والتفجع والتألم، والتحسر والحزن, والدعاء, والألتماس, والاستعطاف، والتحدي، والتشنيع والتقبيح, والتعجب، والإختصاص, والوعظ، والتحقير وقصد الانحطاط.
ويلاحظ في كل ما سبق الاعتناء بالمنادى, لتوجيه إليه الخطاب, وبالتالي لفت انتباهه لسماعه والحرص على ذلك.