[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]
إن تراجع أعداد اليهود في العالم داخل بلدانهم الأصلية يعود إلى استمرار ميل الاندماج وسط يهود العالم، إلى درجة اعتبر فيها مراسل صحيفة (هاآرتس) في واشنطن اليكس سوميخ في العديد من تقاريره التي بدأ بنشرها منذ العام 1998، بأن عدد اليهود في العالم سينخفض إلى النصف، مستندا في ذلك إلى المعطيات المتتالية التي يبثها ويقدمها مركز الكونجرس اليهودي العالمي...

جاء "قانون القومية" والإصرار على مقولة "يهودية الدولة" في "إسرائيل" بعد أن بات الحديث عن التطورات الديمغرافية السكانية على أرض فلسطين التاريخية هما كبيرا وملازما للحياة السياسة داخل الكيان الصهيوني، ومصدر قلق وتوتر شديدين لدى صناع القرار. مضافا إليها مسألة التناقص في أعداد اليهود في العالم داخل بلدانهم ومواطنهم الأصلية. فقد بات هذان الهمان يقضان مضاجع الحركة الصهيونية والمنظمة اليهودية العالمية. فقبل فترة سنوات قليلة خَلَت أصدر يوسي بيلين الذي يُعَد من أبرز المفكّرين الصهاينة الذين كتبوا عن مستقبل الكيان الصهيوني بشكل استشرافي، كتابه المعروف "موت العم الأميركي" وفيه يرتعب ويتملكه الخوف من المستقبل انطلاقا من جملة مؤشّرات تصب في النهاية في مصلحة اضمحلال ما أسماه "الدياسبورا اليهودية" ويقصد بالطبع يهود العالم، وعزوف غالبيتهم عن التوجه إلى فلسطين المحتلة، مُعلنا صرخته التي يقول فيها "أشعر بنوع من الهيستيريا والخوف إزاء ذوبان الشعب اليهودي في الشتات".
ففي الوقت الذي أصبحت فيه الأمور تنحو نحو انكسار المشروع الصهيوني التوراتي، وتراجعه بفضل نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية، وصمود الشعب الفلسطيني وثباته من تبقى منه فوق أرضه التاريخية، بدأت مصادر القرار في الكيان الصهيوني تنظر إلى تحوّلات وتطورات المسارات السكانية باعتبارها عاملا مؤثرا في ميزان القوى الاستراتيجي على أرض فلسطين المحتلة بين اليهود والشعب العربي الفلسطيني، وتاليا مع البلدان العربية خصوصا منها المحيطة بفلسطين. مضافا إليها التحولات الجارية في المسارات السكانية المتعلقة بوجود المجموعات الإثنية اليهودية داخل بلادها الأم، وفي نوع العلاقات بين الكيان الصهيوني ذاته وما يسمى بـ"يهود الشتات"، إلى درجة بدأت فيها الشكوك تساور بعض أقطاب عتاة اليمين الصهيوني حول ما تسميه مصادر اليمين ذاته بمسألة "الوجود اليهودي" في المستقبل في ظل المعطيات الرقمية التي تشير إلى تناقص عدد اليهود في العالم بشكل لم يسبق له مثيل. كما في تأثير الأوضاع السياسية المتفجرة في المنطقة والأزمات الدولية ذات العلاقة بالصراع العربي مع الاحتلال على اليهود في فلسطين المحتلة، واليهود عامة، منطلقين من تناول اليهود بالجملة، ووضعهم في سلة واحدة باعتبارهم "شعبا واحدا وأمة قومية" (وهو ما يخالف حقيقة الواقع؛ فاليهودية دين وليست قومية). فـ"القومية اليهودية" والإيمان بأن أعضاء الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم هم في واقع الأمر شعب عضوي مرتبط ارتباطا عضويا وحتميا بأرض "إسرائيل" التاريخية بات أمرا مليئا بالهراء بنظر العالم وحتى قطاعات من اليهود أنفسهم.
لقد نوقشت وأشبعت نقاشا كل المفاهيم والفرضيات السابقة في الدورات المتتالية لمؤتمر هرتزليا السنوي ومؤتمر "مستقبل الشعب اليهودي"، بتنظيم من "معهد تخطيط مستقبل الشعب اليهودي"، ومشاركة كافة القيادات "الصهيونية" العليا ونخبة من السياسيين والأكاديميين اليهود في العالم، حيث يجري عادة تسليط الضوء، على واقع انتشار اليهود الديمغرافي في العالم، والحديث بالتفصيل عن ما يسمى بـ"التهديدات الجغرافية السياسية المركزية التي تُعرّض وجود الشعب اليهودي للخطر"، والميزان الديمغرافي وسوى ذلك من الأخطار المُفترضة، واليهود والجغرافيا السياسية، والقيادة اليهودية، ومستقبل الجاليات اليهودية، والهوية والديمغرافيا اليهودية.
وفي سياق الأعمال والمؤتمرات الدورية في هرتزليا، وما نتج عنها، فضلا عن الأبحاث التي تراكمت خلال الفترات الماضية، تشير الإحصاءات المدققة والمعطيات الرسمية المختلفة ومنها التي وزعها ونشرها ما يسمى بمعهد تخطيط سياسات "الشعب اليهودي" الذي أسسته الوكالة اليهودية إلى أن أعداد اليهود في العالم ككل آخذة بالتراجع والانخفاض لأسباب مختلفة.
ففي الثلاثين عاما الأخيرة انخفضت أعداد اليهود خارج فلسطين المحتلة بـ(2.3) مليون نسمة، في حين بات يبلغ الآن وفق تقديرات الوكالة اليهودية (7.76) مليون فقط، أي أنها قد انخفضت خارج فلسطين بنحو الربع منذ العام 1970. ويظهر من المعطيات، التي عرضها البروفيسور (سيرجيو ديلا جولا) من الجامعة العبرية أن (7 ملايين و760) ألف يهودي يعيشون اليوم خارج فلسطين المحتلة، في مقابلة أكثر من (10 ملايين في العام 1970). لنجد بالمحصلة النهائية أن أعداد اليهود في العالم بما في ذلك فلسطين المحتلة في تراجع عام، حيث بلغت أعدادهم بحدود ثلاثة عشر مليون نسمة مع نهاية العام 2006، بينما كانت تتعدى سبع عشرة مليون نسمة عام 1970.
إن تراجع أعداد اليهود في العالم داخل بلدانهم الأصلية يعود إلى استمرار ميل الاندماج وسط يهود العالم، إلى درجة اعتبر فيها مراسل صحيفة (هاآرتس) في واشنطن اليكس سوميخ في العديد من تقاريره التي بدأ بنشرها منذ العام 1998، بأن عدد اليهود في العالم سينخفض إلى النصف، مستندا في ذلك إلى المعطيات المتتالية التي يبثها ويقدمها مركز الكونجرس اليهودي العالمي، حيث تبلغ نسبة الزواج بين اليهود وغير اليهود في العالم إلى (50%) وأحيانا إلى (80%) في بعض المدن الأميركية. فالزواج المختلط والذوبان في المجتمعات الأصلية المحلية بات عاملا مؤثرا جدا في تناقص أعداد اليهود في العالم، حيث تدل المعطيات أن نسبة الذوبان في روسيا وصلت إلى (70%) وفي أميركا الشمالية إلى (50%) وفي أوروبا الغربية إلى (45%)، حيث أمست مصادر الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية تتحدث عن إشارات عدة لترك اليهودية وهم يخشون حتى من اضمحلال يهود أميركا. وقد قدمت اقتراحات عدة لمواجهة مسألة الزواج المختلط والحد منها والتخفيف من زواج شباب وشابات الديانة اليهودية من أبناء الديانات المغايرة، حيث اقترح مدير عام ما يسمى بـ"معهد مستقبل الشعب اليهودي" افينوعام بار يوسيف تشجيع الهجرة إلى فلسطين المحتلة لوضع الشباب والشابات اليهود أمام بعضهم البعض وتضييق حرية الاختيار أمامهم، ويقترح أيضا الشخص المذكور "تخفيف حدة الشروط للتهود"، فضلا عن القيام بنشاطات دولية بهدف تعميق شعور الشبان اليهود في بلدانهم الأصلية بالانتماء للكيان الصهيوني وتوثيق علاقتهم به.
وبالنتيجة، نحن أمام تحوّلات حقيقية، طبيعية، تلقائية، تجري على أرض فلسطين التاريخية، وهي تحوّلات تعاكس الرغبة والإرادة "الإسرائيلية الصهيونية"، لذلك نستطيع تفسير هذا الركض الكبير في مواقف الأحزاب "ألإسرائيلية" وخاصة اليمينية منها لتبني ما يسمى "قانون القومية" و"يهودية الدولة".