دمشق ـ من وحيد تاجا:
يُعرف الباحث والمفكر السوري د. عبد النبي اصطيف الاستشراق بقوله: إن "الاستشراق معرفة موضوعها الشرق، ينتجها غالباً غير الشرقي عن هذا الشرق الذي يضيق فيقصد به "الشرق العربي" الذي يشمل الوطن العربي وبعض دول الجوار من مثل تركيا وإيران، ويتسع فيشمل الشرق الأدنى والأوسط والأقصى. ويؤكد في حديث شيق مع " أشرعة": ان الاستشراق سلطة معرفية ينبغي أن نواجهها بقوة المعرفة. وعما إذا كان الاستشراق قد تقاعد أو هل في حالة ركود فيقول: " ان الاستشراق معرفة مقاومة للانقراض، متحولة باستمرار، واستشراق اليوم استشراق متطور أفاد من التطور المعرفي من العلوم الإنسانية الذي شهدناه مؤخرا.
والباحث الدكتور عبد النبي اصطيف من مواليد عام 1952م، وهو أستاذ الأدب المقارن والنقد الحديث والترجمة في جامعة دمشق. وقد تسلم مرتين منصب وكيل الشؤون العلمية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، كما تولى رئاسة قسم اللغة العربية وآدابها، وشارك في تأسيس الهيئة العامة السورية للكتاب. فضلاً عن إسهاماته في الموسوعة العربية، وموسوعة الأدب العربي الصادرة بالإنجليزية؛ صدر له ثمانية عشر كتاباً بالعربية والإنجليزية، حول قضايا النقد المقارن ونظرية الأدب والاستشراق الانكلو ـ أميركي .
اهم اصداراته: ـ صورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتابات الأنكلو أميركية.و ـ نحو استشراق جديد، بالإنكليزية. و ـ من المركز إلى المحيط: النقد المقارن للأدب على مشارف الألف الثالثة. ونحن والغرب: من صدام الحضارات إلى الشراكة المعرفية.

* : ما هو تحديدك لمصطلح الاستشراق؟
مصطلح الاستشراق المستخدم في العربية الحديثة هو ترجمة للمصطلح الإنجليزي orientalismوللمصطلح الفرنسيorientalisme . وغيرهما من المصطلحات المشابهة من اللغات الأوروبية الأخرى. وأغلب الظن أنه دخل العربية أول ما دخل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أو نحو ذلك. وأن المعاجم العربية لم تلتفت إلى هذا المصطلح وتُدرجه في مساقاتها إلا في نهاية العقد السادس من القرن العشرين، وقد كان ذلك على يد صاحب معجم "متن اللغة" الشيخ أحمد رضا الذي أورد صيغة " استشرق " وشرحها على النحو التالي: "طلب علوم أهل الشرق ولغاتهم "مولدة عصرية"، يقال لمن يعنى بذلك من علماء الفرنجة". وكان ذلك عام 1959 (وربما سبقه إلى إيراد مادة تتصل بالاستشراق معجم "المنجد في اللغة" الذي ترد فيه كلمة مستشرق بمعنى "العالم باللغات والآداب والعلوم الشرقية").
وبعد النظر إلى مفهوم الاستشراق لدى منتجيه، ولاسيما برنارد لويس في دراسته المعنونة "مسألة الاستشراق"، و جاك واردنبرغ في موسوعة الإسلام وغيرهما من أئمة المستشرقين؛ وبعد استعراض مفهوم الاستشراق لدى موضوعه، أو لدى الباحثين العرب والمسلمين والشرقيين عامة، ولاسيما في الموسوعة العربية العالمية ولدى إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، يمكن اقتراح التعريف التالي: "الاستشراق معرفة موضوعها الشرق، ينتجها غالباً غير الشرقي عن هذا الشرق الذي يضيق فيقصد به "الشرق العربي" الذي يشمل الوطن العربي وبعض دول الجوار من مثل تركيا وإيران، ويتسع فيشمل الشرق الأدنى والأوسط والأقصى وما بينها من أمصار تقع إلى الشرق من أوربة الغربية التي نظرت إلى نفسها على أنها مركز العالم وجعلت توزّعه إلى قارات ومناطق وتتدبره معرفياً قبل أن تتدبره عملياً ولا سيما في قرني المدّ الإمبريالي. والحقيقة أن للاستشراق صوراً متنوعة تنوع اللقاءات الإنسانية، وغنية غنى الحياة الإنسانية ذاتها، ولذا فإن من الطبيعي أن يختلف الناس في تعريفه وتحديد طبيعته ووظيفته وصلاته بنشاطات الإنسان الأخرى، وقد انعكس هذا تفاوتاً ملحوظاً في ضيق واتساع آفاق تعريف الاستشراق لدى الباحثين المعنيين بشؤونه في الشرق والغرب معاً، مثلما انعكس تبايناً عجيباً في المواقف تجاهه، فمن مكبر لشأنه وشأن العاملين فيه إلى منكر له ومنكر لجهود العاملين فيه.

*بالتالي متى نلجأ إلى استخدام هذا المصطلح (الاستشراق) ؟
يستخدم مصطلح الاستشراق عادة للدلالة على أشياء ثلاثة: الكتابة البحثية في مختلف أنواع المعارف والعلوم التي أنتجها المتخصصون بدراسة الشرق أو من كانت له صلة ما كالدبلوماسيين والرحالة وموظفي دوائر الدول الغربية التي استعمرت مختلف أقطار الشرق لفترات متفاوتة وبدرجات مختلفة.
نزعة انتشرت في فن الرسم الأوروبي قامت على استلهام الشرق باتخاذه موضوعا فنيا أثيرا لديها ومثيرا لها. وهذه النزعة جزء من الثورة الرومانسية الأوروبية التي ضاقت بهيمنة الكلاسيكية الجديدة في مختلف الفنون الجميلة ومن بينها الرسم مثلما تجده في لوحات جيروم ولويس و ارنست وهنت.
اتخاذ الشرق موضوعا للمؤلفات الأدبية او الهجرة إلى الشرق على الورق كما نجده لدى غوته في ديوانه المعروف ((الديوان الشرقي للمؤلف الغربي)) الذي أحسن عبد الرحمن بدوي بترجمته إلى العربية واستلهم الشرق في المؤلفات الأدبية يمت بصلة للنزعة الرومانسية أيضا.
وبالطبع فان هذه المعاني الثلاثة للاستشراق متصلة فيما بينها ومتبادلة التأثير أيضا وجميعها يعبر عن انشغال الثقافة الأوروبية بالآخر الذي هو الشرق في هذه الحالة بدوافع مختلفة ولأهداف متنوعة لكنها جميعها تشير الى معرفة ما أنتجه الآخر عن الشرق أي عنا. والمعرفة قوة وسلطة ولذلك عانينا من عقابيلها على نحو من الانحاء لأنها وظفت في أثناء مواجهة الآخر لنا في القرنيين الآخرين بشكل خاص لتسهيل سيادته وبسط نفوذه وإرادته على بلادنا ومقدراتنا وخيراتنا.

* : ومن هو المستشرق؟
هو الباحث الجامعي الذي يدرس الشرق او يدرسه او يبحث في شأن من شؤونه أو يكتب عنه فهو الرحالة الذي يستهويه الشرق فيحج إليه بحثا عن مصدر الهام يمنحه فرصة تقديم كتاب ممتع ومفيد لقارئه مثلما فعل داوتي وبلغريف وغيرهما.
وهو الفنان التشكيلي الذي يتخذ من الشرق موضوعا له بحثا عن الجديد والمثير والخيالي والعجيب ليرضى جمهوره (دو لاكروا على سبيل المثال).
هو الكاتب الذي يهاجر إلى الشرق في أدبه ويكتب عنه مستفيدا من المعرفة الاستشراقية المتيسرة له على نحو من الأنحاء مثل الشاعر السويدي غونر ايكيلوف. وهو الآخر الذي يمارس نشاطا ما تكون حصيلته معرفة ما عنا يقدمها أساسا لمجتمعه.
بمعنى اخر أن المستشرق رجل يطلب الشرق معرفياً أو عملياً: معرفياً بدراسته والقراءة عنه ثم الكتابة عن شأن من شؤونه، وعملياً بالسفر إليه واختباره والعيش فيه لأيام أو شهور أو سنين ثم الكتابة عنه أو عن وجه من وجوهه انطلاقاً من هذه الخبرة العملية المباشرة.
ويمضي بعضهم أبعد من ذلك فيتحدث عن طلب يتجاوز المسعى المعرفي والمسعى العملي في آن معاً، ليبلغ الرغبة في حيازة الشرق وتملكه أو احتوائه والسيطرة عليه والتحكم بمقدراته، ثم العمل بالتالي على تحقيق هذه الرغبة بشتى الوسائل بصرف النظر عما يحمله هذا التحقيق للشرق من قهر واغتصاب للحرية وللوطن ولثرواته، والحياة في نهاية المطاف فيه حياة العبودية في كنف السيد الغريب القادم من الغرب.
* : هذا يدفعنا للسؤال عما اذا كان هناك اكثر من استشراق؟
بالطبع فالاستشراق معرفة إنسانية ينتجها البشر ولذا فانه يمكننا القول بل هناك استشراقات بعدد المستشرقين، لكن الاستشراق من جانب آخر معرفة متصلة بجملة من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، تعنى بالعلاقة ما بين مختلف فعاليات المجتمع الآخر والشرق. وهذا ما جعل هذه المعرفة تأخذ طابعا مؤسسيا. ولما كانت هذه المعرفة قد ولدت ضمن عالم مشحون بالإحساس بالمواجهة بين الشرق والغرب فقد وظفت لصالح الآخر في هذه المواجهة عبر القرون. ومع ذلك فان هذا التقليد الثقافي الذي نشأ عن تنامي المعرفة الاستشراقية عبر القرون وخاصة القرنين الماضيين مثله في ذلك مثل أي إنتاج إنساني يخضع لسنة التطوير وقد شهد في العقود الأخيرة تحولات هامة تسوغ الحديث عن نوعين أساسيين من الاستشراق قديم وجديد وقديم ما زال مسكونا بحس المواجهة الذي ذكرت وجديد يرى ان هذه المعرفة ينبغي ان توظف ففي فهم الآخر وبالتالي إقامة علاقة اكثر إنسانية معه.
ولابد من الإشارة الى أن أشكال المعرفة الاستشراقية متنوعة أيما تنوع، ولكن مواصفاتها البارزة تكاد تكون موحدة، وأهمها أن الاستشراق معرفة مقاومة للانقراض، متحولة باستمرار. ذلك أن أهم ما يميز هذا التقليد الثقافي/ أو المعرفي/ المسمى بالاستشراق هو قدرته على البقاء من خلال تحولاته الداخلية الدائبة، من الاستشراق التقليدي باتكائه المسرف على فقه اللغة من جهة واعتماده الإسلام محدداً أبدياً لكل ما يتصل بالشرق وأهله؛ إلى دراسات المنطقة والدراسات البينية؛ ويمثل جوهر الإسهام الأميركي في عملية التطوير المنهجي التي خضع لها هذا الحقل المعرفي في القرن العشرين، إلى الدراسات الدولية (أو العولمية)؛ إلى الدراسات ما بعد الاستعمارية التي تُشكِّل الاستشراق البديلَ أو الاستشراق المضاد، والذي وضع أسسه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق الذي صدر عام 1978م. ولكن بصرف النظر عن كل هذه التحوّلات فإن الاستشراق بكل أشكاله (ولاسيما الاستشراق الكامن أو المضمر، والاستشراق الناعم) حيّ يرزق يُطل علينا في مختلف الإنتاج الثقافي والمعرفي والفكري والفني الغربي بوصفه بنية عميقة تحكم السلوك الغربي وما ينجم عنه من قول أو فعل تجاه الشرق وأهله.

* : وماذا عن الصور التي كونتها المعرفة الاستشراقية عنا؟
المعرفة الاستشراقية هي معرفة أنتجها الآخر عنا وهي معرفة دنيوية اذا ما استخدمنا مصطلح المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد بمعنى انها على صلة وثيقة بالعالم الذي أنجبها وهي لذلك مشروطة بجملة الشروط المكونة لهذا العالم. وثمة دراسات وافية عن صورتنا في هذه المعرفة الاستشراقية يخلص قارئها الى امرين :
أولهما: ان المعرفة التي أنتجها الآخر عنا وهو مسكون بحس المواجهة تنطوي على صورة بائسة للعرب وللمسلمين وللشرقيين فهم العدو والنقيض لكل ما يمثله الغرب. وسبب ذلك بسيط جدا. إذ ينبغي لك إذا ما أردت ان تهزم عدوا في مواجهة لك معه ان تهون من شأنه أولا و ان تسوغ كل ما ترتكبه بحقه ثانيا وان تضع نفسك على المدى الطويل بأحقية ما تقوم به أخلاقيا وحضاريا وسياسيا لتكفل الغطاء الأيديولوجي لسيادتك التي تفرضها عليه ثالثا. وهذا كله لا تحققه الا المعرفة التي توظف لصالح المواجهة. وهذا حال الاستشراق القديم لأنه معرفة أنتجت ونشرت بغرض تدجين الشرق ومن فيه وما فيه ووضعه ضمن النفوذ الأوروبي وإخضاعه للإرادة الأوروبية.
ثانيهما: ان المعرفة التي ينتجها اليوم المستشرقون الجدد الذي يوظفونها لصالح فهم الآخر تنطوي على صورة إنسانية للعرب وللمسلمين وللشرقيين أي صورة أقرب إلى واقع حال هؤلاء من الصور الملفقة التي نجدها لدى الاستشراق القديم.

* : أي الصورتين هي السائدة اليوم؟
الصورة الأولى بالطبع وخاصة في أجهزة الإعلام الجماهيري التي تميل إلى بذل اقل الجهود في تحصيلها للمعرفة المستخدمة وبالتالي تعتمد على الصورة القديمة البائسة التي تظل أكثر إثارة وجاذبية وسحرا. وإذا ما كنت أوربيا ولا تحب ان تفكر كثيرا فيما تراه وتسمعه فإنك بالتأكيد تفضل التعامل مع عربي يقفز إليك من عالم ألف ليلة وليلة من ان تتعامل مع كائن حي مثلك له شروط حياته الخاصة وظروفه وتاريخه وعاداته وتقاليده ومشاعره وأحاسيسه وحياته الفنية المعقدة التي تماثل حياتك انت.
بالطبع الصورة الثانية لها حضورها المتواضع والمتنامي في الوقت نفسه. ونحن للأسف غالبا ما نقف موقف المتفرج مما يجري وربما عززنا الصورة القديمة بحضورنا المزري ثقافيا وفكريا في العالم المعاصر.

* : الى أي مدى طورت المعارف الاستشراقية إدراكنا لذاتنا أو معرفة الآخر بنا ؟
المعرفة الاستشراقية التي استخدمت لتسهيل سيادة الغرب على الشرق معرفة تنبئك عن صاحبها اكثر مما تنبئك عن موضوعها وهي تخبرك كما بين ادوارد سعيد أساسا عن هذا الشرخ الانتولوجي في حياة الغرب والذي عبر عنه كبلنغ الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا لذلك نجد ان هذه المعرفة غالبا ما تغربنا فنحن موضوعها لكننا لا نكاد نميز نفسنا فيه فالاستشراق كما يقول سعيد مجرد(حقل) معرفي لا يوجد معادل مطابق له في الشرق. ومادامت هذه المعركة قائمة على تمثيل الشرق على نحو يسوغ السيادة عليه فإنها لم تسهم كثيرا من إغناء معرفة الأوروبي بنفسه فالمعرفة المغرضة لا يمكن ان تكون أساسا لفهم الذات أو الآخر وهذا حال الغرب مع المعرفة الاستشراقية من هنا نجد هذا التململ في صفوف المستشرقين الجدد من الطريق المسدود الذين وجدوا أسلافهم قد وضعوهم فيه ومحاولتهم الجادة للبحث عن البدائل. والحقيقة ان المؤشرات الإيجابية على محاولاتهم هذه واضحة لكل دارس للاستشراق الجديد.

* : لكن هل الاستشراق برمته شيئا سيئ؟
بالطبع بما ان الاستشراق معرفة وظفت لصالح الآخر في مواجهتنا له. معرفة عانينا الكثير من عقابيل استخدامها لفرض إرادة الآخر علينا فهو فيما يبدو للكثيرين منا تقليد بغيض كله سوءات. ولكن الحقيقة غير ذلك فأنت تتعلم حتى من عدوك. ولا ننس ان الاستشراق معرفة تتمتع بحد أدنى من التماسك والمصداقية وشروط البث الأولية وينتجها المجتمع له مؤسساته التي تظل لها معاييرها ومقاييسها التي لا تستطيع آية إرادة فردية تجاهلها بسهولة. فالمستشرق لا يستطيع الا ان يقوم بالحد الأدنى من متطلبات البحث العلمي وبشروطه حتى يقبل المجتمع ما يقدمه هذا المستشرق من معرفة. ولذلك فقد قام المستشرقون بتطوير المنهج للتحقيق المخطوطات العربية غدا أنموذج احتذاه العرب ونقحوه وصقلوه إلى ان بلغوا به درجة تقرب من الكمال. وخذ أعمال محمود شاكر- شكري فيصل – عبد السلام هارون مثلا على ذلك. وكذلك قاموا بالأعمال البيلوغرافية التي لم نستطع حتى يومنا ان نتجاوزهم فيها وبأعمال الفهرسة للمخطوطات العربية وللدوريات الاستشراقية لا نجد لها نظيرا بالعربية. والمحاولات الحديثة للتاريخ للأدب العربي هي أيضا مستلهمة من أعمال المستشرقين الأوائل. ودعك من كل هذا وانظر في الموسوعة الإسلامية (بلغاتها الثلاثة) فهذه مؤسسة لم يستطع العرب حتى يومنا هذا نقل حصيلتها إلى العربية أو إنتاج بديل عنها.إذن المدرسة الاستشراقية قدمت الكثير مما يمكن ان يحتذى من النواحي المنهجية والتي ما زلنا نجهد لنبلغها ما نحن بالغوها الا بشق الأنفس.

* : هل نستطيع القول ان الاستشراق قد تقاعد اليوم ام أنه في حالة ركود الان؟
طبعا لا ..الاستشراق لم يتقاعد ابدا ..وهو ليس في آلة ركود أيضا. فالمجتمعات الحية لا تنسى أي وجه من وجوه الإنتاج الثقافي والفكري لديها دون تطوير. واستشراق اليوم استشراق متطور أفاد من التطور المعرفي من العلوم الإنسانية الذي شهدناه مؤخرا. استشراق اليوم أفاد في النقد الموجه إليه من داخله وخارجه وهو أفاد من الانفتاح الهائل على موضوعه نتيجة ثورة الاتصالات الحديثة وكذلك من إسهامات العرب أنفسهم فيه. وقد أفاد أيضا من التطورات التنظيمية والمؤسسية التي لحقت الجامعة الأوروبية وخرج علينا بمؤسسات مهنية جديدة وبدوريات ومنشورات وروح جديدة تحاول ان ترقى بالمعرفة الاستشراقية لتبلغ درجة المعارف الإنسانية الأخرى. لذلك نلاحظ فيه ميلا كبيرا إلى التخصص النوعي من جهة والى النضج المعرفي مع المادة المدروسة من جهة أخرى واليوم يتحدث الناس عن الاستعراب وعن الدراسات العربية وعن الدراسات الشرق – اوسطية والدراسات الأندلسية ولكن كل ذلك لا يرضي بالنسبة لنا نحن العرب وتسألني لماذا؟ أجيبك نحن أولى بثقافتنا - تاريخنا - أدبنا – تراثنا وبكل شان من شؤون حياتنا من الآخرين. ينبغي ان نتولى كل ذلك معرفيا لا ان نعتمد فيه على الآخرين. ينبغي ان يشكل ما نقوم به المجرى الرئيسي للمعرفة المتصلة بنا وان تبقى الجهود التي يبذلها الآخرون مجرد روافد لا اكثر. وهذا بالطبع بحاجة إلى عمل مضن و شاق وطويل وحاد ومدروس فلنعمل على تحقيق ذلك لان الانتماء الحق إلى العالم المعاصر لا يكون فيما يبدو لي الا معرفيا فالمعرفة قوة ولا سبيل باستعادة دورنا الحضاري الا بها.
*بالتالي ماذا عن مواصفات الاستشراق الراهن؟
يتميز الاستشراق الراهن بـ: التمكن من لغة موضوع دراسته؛ والانفتاح على موضوع هذه الدراسة؛ والاهتمام بجوانب أوسع من موضوع الدراسة، وتدبرها على نحو أعمق، وعلى نحو أدق. غير أن الحقيقة المرة هي أن البنية العميقة للاستشراق لم تتغير كثيراً، ولم تتغير جوهرياً. وهي ماعبر عنه سعيد بمصطلح الاستشراق الكامن، أما بنيته السطحية فهي متحولة باستمرار مثل كل شيء في الحياة الغربية، وهي ماعبر عنه سعيد بمصطلح الاستشراق الظاهر".
و معنى هذا أن ثمة حاجة ماسة لإنشاء تقليد ثقافي بديل عن المعرفة الاستشراقية الذي لا يرقى بوضعه الحالي إلى الطموحات الإنسانية في معرفة النفس أو معرفة الآخر، ولاسيما أن المعرفة الإنسانية لا تكون معرفة حقيقية جديرة باسمها دون أن تكون مؤسسة على الشراكة بين الأنا والآخر. وبعبارة أخرى ثمة حاجة ماسة إلى "استشراق جديد" يستند إلى أسس تحكم إنتاجه من جهة مثلما توجه مقاصده من جهة أخرى.