عبدالله الشعيبي الصور ـ أرشيف الوطن:
مدخل
ما زلنا نعتقد بأن البيئة العمانية القديمة، على بساطتها وروحها المختلفة، كانت تصنع رؤيتها الخاصة تجاه ما تعتقد أنه أسطورة، وتضع فهمها الجمعي الخاص، وفق نسق ضمني، لتوصل المساحة المؤسطرة في وجدانها، وتتفاعل معها بطريقتها.
ما قادها لذلك هو (الطرب)، باعتباره محفزا داخليا للخروج عن الروتينات التي اعتادها، محققا سبيله الخاص التفاعلي، من بنية ثلاثية النص والإيقاع والجسد، مذيبا هذه الثلاث في نسق واحد، هو (الطرب)، ليكون الجميع واقعين تحت سطوة الطرب الشعبي، ومنقادين نحو سحر اللال، ودهشة الجهات الخفية في النفس ، التي تلامسها، فتحييها، فتحيا بها معها.
إذا كان (المعنى والمغنى والحياب) هي ثلاثية فهمنا منها تدفق الأسطرة الطربية في البيئة العمانية القديمة، فإن (القصيد والنّبّة والزّفّين) هي ثلاثية أخرى، ربما نفتح من خلالها تلك الكُوّة البعيدة في الزمن، التي ستجعلنا نفهم ما تعنيه المساحة الذهنية الجمعية، التي فعّلَت لدى العمانيين خصوصيتهم الطربية، الخارجة عن نطاق فهمنا في الوقت المعاصر الذي ننتمي إليه الآن.

بوصلة القصد
يُكثِر العمانيون القدماء من استخدام لفظة (يِقصِد) حين يريدون التعبير عن الشاعر، وهم لا يسمُّونه الشعر في لفظهم المحكي، بل يصفونه بقولهم (يقول كلام متعرفه مْنين ايّيبه)، وهو في داخلهم معناه المختلف والاستثنائي مقارنة بما لديهم من ألفاظ وحبكات تركيبية، تقودهم إلى أن ما يقوله الشاعر مبني على عدد من الأساليب والطرق التي تبدأ منهم (اللفظ)، ثم تستقل عنهم في (القصد)، ولذلك تنشأ بوصلة جديدة، هي التي ترفع من شأن (القصد/القاصد) أو (الشعر/الشاعر)، وهم لم يكونوا يخفون تلك الصفة الانسحارية المرتبطة بالسبك والمعنى الخفي، الذي لا يتعارض مع جمال الصياغة وصفة قولها في مختلف المواضع الاستشهادية في الحياة اليومية.
هنا يتركنا الشعر المتصل بالفنون الشعبية العمانية القديمة أمام نمط يتأسطر من خلال الزاوية التي كان ينظر إليها الناس، والمستوى الذي يربطهم بها، من زوايا مختلفة، منها: الفكرة، الصياغة/السبك، التركيب اللفظي ذي المحمولات الدلالية الخاصة، البناء الداخلي الذي هو أساس في نقل صفة الانسحار إلى الإيقاع الصوتي (الكاسر والرحماني) أو تمثلهما إلقاء، إلى الجسد الذي يتحرر ليذهب بعيدا في سياق ذهنيّ توقيّ شغفيّ خاص وخالص، تاركا العيون التي تراه تذهب خلف توقه.
البوصلة هنا لـ (القصد) الذي عَبّت الآذان من (القصيد) المشير إليه أو الخاطف الأذهان نحوه، في سياق نفهم جيدا أن مقاصد الألفاظ تبني معانيها وفقا لنسق كان المجتمع العماني القديم قد أوجد جسره المختلف معها، تاركا ذاته تجوس الترداد، بحثا عن الدلالات، وتوقا إلى تحقيق ما يتأسطر قصدا أو يتجذر معنى.

طارش النّبّة
في المناسبات الاجتماعية الكبيرة، التي يقوم فيها فرد بدعوة تجمعات بشرية كثيرة العدد، فإن (الطارش/الرسول) الذي يبعثه الشخص أو الجمع المعنيّ بإقامة المناسبة، هو الذي يقوم بِـ (رَدّ النابي/إيصال الخبر) إلى المدعوين لحضور تلك المناسبة، وعادة ما تكون زواجا أو ختانا، وأحيانا (حول حول/عيد ميلاد) عندما يُراد أن تتسع دائرة الفرح بشكل أكبر.
(طارش النّبّة) هو حاشد الجموع البشرية بين المجموعات السكانية، وعادة ما تصل الدعوة إلى كبير القوم، أما راسم فتنة الطرب التي ستكون ضمن حشد المناسبة الاجتماعية تلك فهو (العجيد/العقيد)، الذي يصبّ عنده التخطيط والتنظيم والتجهيزات المتصلة بجعل الحدث - منذ ما قبل وأثناء وبعد المناسبة - على أتم القدرة لترك الأثر الذي يليق به، بخاصة وأن التجمعات البشرية تحضر بتنافسية فيما بينها، على الرغم من تجانسها الظاهر في كونها جزءا من التفصيلات المكونة حدثها الأكبر بسمة التفاعلية، التي يستجيب لها الحضور (الحياب) ضمن نطاق طربي، يعي فيه البالغون (مقاصد) التفاصيل (معنى ومغنى)، اتكاءً على كون تلك الفعاليات الضخمة التي يؤمها (منبوبون) من مختلف الأماكن أشبه بالحدث الاستثنائي الذي لا يمكن تفويته ويقلّ تكراره.
تكمن الأسطرة هنا في الجموع والاحتشادات، سواء كانت على مستوى تعدد الطبول في (الدور الواحد) من ناحية، أو على مستوى المشاركين في (الزّيّ/الغَيِّة) من ناحية ثانية، أو على مستوى (الحياب) المشترك بين أصحاب المكان وزائريه من ناحية ثالثة، فحصول ذلك هو أشبه بإخراج الحدث من دائرة الاعتياد إلى دائرة (العود)، وهو وصف كفيل بجعل الأشخاص يتناقلونه عبر سنوات طويلة، ويتردد صداه في الذاكرة الجمعية.
إذا كنا نقول بفرضية أن الاحتشاد الاستثنائي في مناسبات اجتماعية في المكان الواحد هي مؤشر على أسطرة طربية مذهلة في البيئة العمانية القديمة، فأن التفاصيل الصغيرة التي تشكل تلك الاحتشادة، بطربيتها وجمالياتها وشغفها اللامتناهي وقدرتها على إفقاد المرء توازنه الطبيعي اليومي، هذه كلها بمثابة عناوين مذهلة في بيئة الوصف العاقبة على الحدث، والساردة مرئيات العينين المجردتين المختلطتين مع الوجدان الفردي الذاتي الواصف مشاعره في تلك اللحظة، مما يجعل اللغة الواصفة بمثابة سرد يفتح باب الواقعية والمخيلة الجمالية، لتصبغ الحالة والزمن المنتمية إليه، وهو ما لحظناه في سرديات (الشّيّاب) عندما يسترجعون المستكن المتجذر في الذاكرة عن تلك المشهديات، بما لا يدع مجالا للشك في الإحكام الوجداني السيطرة على ما يستعصي نسيانه والإفلات من إساره.

دراما الزفّين
(لا لي لا لي لا لي ييلا لي لال
لا لي لا لي لا لي ييلا لي لال)
بهذه الصياغة اللاليْة، طولا أو قصرا، تنبت شجرة القصيدة في فم شاعر يرتجلها، أو تنقدح في ذاكرة فرد يستذكرها، ليتم تبادل بيتيّ شعر بين فريقين، ثم يتحاور الطبلان (الكاسر والرحماني)، معلنان قيام (غَية/زِيّ)، وهذه الصيغة هي العابرة بالجسد من منطقة السكون إلى منتهى الشغف الذي ترتجيه.
يحصل أن تكتسي الفعاليات الطربية بتمظهرات مسرحية ذات بُعد درامي، والتي تتجلى في المناسبات الاجتماعية الكبيرة، التي يحتشد لها الناس من كل حدب وصوب، بين مشاركين فاعلين، ومشاهدين متابعين، وكلا الفريقين جمهور حقيقي لمشهد مسرحي تمثيلي استعادي، مكون من شخصين فقط، يختاران بقعة معينة من الساحة الدائرية التي تكون مقفلة من جهتين، الجهة الأولى وتمثل نصف دائرة تقريبا مكونة من المشاركين، والنصف الثاني مكون من المشاهدين، وفي الوقت الذي يكون فيه المشاركون متفاعلين مع الإيقاع والشعر الذي يرددونه بشغف، يكون المشاهدون منخطفين بصريا بين ما يقوم به المشاركون من ناحية، وبين ما يحصل في المشهد المسرحي التمثيلي الملفت من ناحية ثانية، وبخاصة شريحة الأطفال، التي لا يمكن لها نسيان ما تراه العيون، وما ينخطف به البصر، وتقتات منه المخيلة.
(زفّينان)، كل منهما يرتدي دشداشة، وفي وسطه خنجر، وفوق الخنجر (محزم)، على الرأس (مِصَرّ حيدريّ)، في اليد اليمنى(سلاح) وهو سيف طويل قابل للاهتزاز واللمعان تحت الشمس، وفي اليد اليسرى (تِرْس)، هذان هما شخصيتا تمثيل الحدث؛ أما الحدث ذاته فهو مبارزة بالسيف، يقومان بالدوران بشكل دائري، يتبعان الحلقة التي يؤمّها المشاركون والمشاهدون، وفي عينيّ كليهما تربص بالآخر، يلتقيان فيفصل بينهما شخص، ثم يدوران مرة أخرى في حلقة مشابهة، ثم يتقابلان، يتبادلان الطعن والصد، ثم يحصل أن يقوى أحدهما على الآخر، حتى يمدده على الأرض، لينزع عنه (مِصَرّه)، ويضعه على وجهه(وأحيانا بطول القامة الممددة كناية عن التكفين)، ثم يضع سيفه بالقرب منه، ويضع (الترس) على بطنه، تاركا إياه على هيئة مقتول بعد مبارزة، ومقدرا شجاعته بأن لا يسلبه مفردات بسالته وشجاعته؛ كل ذلك بحركات بطيئة، تصنع في المخيلة الذهنية التوقعات، وعندما ينتهي الدور يقوم من رقدته الجسدية، تاركا الانذهال في المحاجر المختلفة الأعمار، والمسرح خال من ممثلَيه.

خاتمة
ما نعتقد جازمين به، حول ما كانت تتركه الفنون الشعبية، عبر أفعال طربياتها الجمعية في البيئة العمانية القديمة، هو فكرة الأسطرة، عبر المختلف الذي تتركه في العمق تلك الممارسات الطربية، التي غادرت تفاصيلها بيئتنا الحديثة، وربما لم تعد تثير الدهشة في الجيل الحالي، ولكنها جديرة بالنبش والمقاربة وفقا لما نظنه.