[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60"width="60"]خميس التوبي[/author]
على وقع الحرب التجارية المستعرة بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والصين والهند وغيرها، تتدرج واشنطن في سياسة خلق العقبات وإيجاد أجواء مفخخة تارة، وفي الاشتباك السياسي والإعلامي الموحي بأن مواجهة عسكرية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية على وشك الوقوع تارة أخرى، على خلفية الانسحاب الأميركي المنفرد من الاتفاق النووي الموقع بين طهران والمجموعة الدولية المعروفة بـ"5 +1".
التصعيد الأميركي بعد الانسحاب المنفرد الذي يقوده الرئيس دونالد ترامب ومن ورائه اللوبي اليميني والصهيوني لم ولن يخرج عن السياق العام لتطورات الأحداث في المنطقة جراء ما سمي زورًا بـ"الربيع العربي" والتي أفرزت نتائج كارثية على شعوب المنطقة ودولها وثرواتها، وبالتالي لم يخرج التصعيد الأميركي عن الهدف الأول والأكبر وهو تأمين بقاء كيان الاحتلال الإسرائيلي قاعدة عسكرية متقدمة للولايات المتحدة ولحلف شمال الأطلسي ولمشروعات وأجندات استعمار المنطقة إلى الأبد، لما تمثله هذه المنطقة من حيوية لكونها مصدرًا ضخمًا لموارد الطاقة والثروات الطبيعية الأخرى التي تحرك تروس اقتصادات تلك الدول.
وبعيدًا عن المبالغات السياسية أو العسكرية، فإن قبول الولايات المتحدة التفاوض مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ على خلفية برنامجها النووي والوصول إلى الاتفاق التاريخي الذي وقعته طهران مع الدول الأعضاء الخمس في مجلس الأمن الدولي زائد ألمانيا عام 2015م ـ جاء ليس اعترافًا بأن إيران أصبحت قوة إقليمية فاعلة وصاعدة فحسب، وإنما أضحت لاعبًا وقادرة على التأثير في ملفات قضايا المنطقة الساخنة، بدءًا من ملف الأزمة السورية، حيث شكل الحضور الإيراني الداعم أحد متاريس الصمود السوري، وأحد مداميك نجاح المواجهة الأسطورية التي قادتها سوريا "شعبًا وجيشًا وقيادةً" ضد أكبر مؤامرة إرهابية تستهدفها، وتهدف إلى تفتيتها وتدميرها وتحويلها إلى كانتونات طائفية؛ فنجاح المؤامرة سيعني تفكيك محور المقاومة وعزل إيران، وحزب الله، والمقاومة الفلسطينية، ووصولًا إلى ملف القضية الفلسطينية، حيث وصفة التصفية كانت جاهزة والمسماة بـ"صفقة القرن". بالإضافة إلى مواصلة إيران مراكمة إنجازاتها العسكرية والتكنولوجية. ومن هنا جاء الاتجاه الأميركي إلى خيار التفاوض مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتوقيع الاتفاق النووي، بحيث يكون بديلًا للمواجهة السياسية والإعلامية وحتى العسكرية، وتنويم إيران في العسل لمدة عشر سنوات وبموجب بنود الاتفاق الموقع.
والسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان الاتفاق النووي جاء إثر قناعة وتسليم بدور إيراني في المنطقة، فضلًا عن عدم قدرة الولايات المتحدة على شن حروب جديدة بعد حربي أفغانستان والعراق، فلماذا يعلن الرئيس ترامب انسحابًا منفردًا من الاتفاق النووي؟ معروف عن ترامب أنه وفريقه في الإدارة أكثر انحيازًا لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ويحاول جاهدًا توظيف منصبه إلى أقصى حد لخدمة هذا الكيان الغاصب، ويعد ما يسمى بـ"صفقة القرن" أسمى هدية تقدمها الولايات المتحدة لحليفها الاستراتيجي، كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأضحى الحضور الإيراني الداعم لسوريا ولقوى المقاومة في لبنان وفلسطين أكبر عقبة أمام الصفقة. لذلك تحاول أميركا عبر ترامب ممارسة نوع من الابتزاز والضغوط على طهران بالانسحاب المنفرد من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية عليها، ومحاصرتها اقتصاديًّا، للحصول منها على تنازلات، سواء منها ما يتعلق ببرنامجها النووي وببرنامجها الصاروخي، أو ما يتعلق بملف القضية الفلسطينية والمقاومة وسوريا، وكذلك العراق.
وفي تقديري أن هذه المحاولات الأميركية ـ الصهيونية المستميتة تبدو كالحرث في الماء، وذلك من خلال ما برز على الساحة السياسية والاقتصادية من تطورات لافتة عنوانها الأكبر "الحرب التجارية" التي يقودها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشعار "أميركا أولًا". فكل الجهود الأميركية الساعية إلى محاصرة إيران وتضييق الخناق عليها لم تثمر بعد، بل على العكس من ذلك تشي برد فعل عكسي. فترامب لا يزال يتهدد ويتوعد الدول الرافضة للتفاوض حول الاتفاقات التجارية مع الولايات المتحدة بأنها سوف تدفع أموالًا باهظة رسومًا على وارداتها. وقد كتب في تغريدة عبر حسابه بموقع "تويتر": "إذا بقيت الدول على رفضها للتفاوض فسوف يدفعون لنا مبالغ هائلة في شكل رسوم...سوف نربح في كلتا الحالتين"، مضيفًا أن "الرسوم ستجعل بلدنا أكثر ثراء، ونحن نستخدمها للتفاوض لأجل اتفاقات تجارية منصفة".
وسيرًا على القول الشهير "مصائب قوم عند قوم فوائد"، ثمة ما يؤكد عدم فعالية التحرك الأميركي تجاه محاصرة إيران اقتصاديًّا، بناء على الحرب التجارية بشعارها "أميركا أولًا"، فها هي الممثلة العليا للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني تؤكد يوم الجمعة الماضية في كلمة لها في سنغافورة: "نعتزم الاستمرار وحتى زيادة التعاون الاقتصادي، والتفاعل الاقتصادي المشروع مع إيران، حتى لو قررت الولايات المتحدة استعادة العقوبات في انتهاك لالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني". أما الصين فقد أعلنت على لسان المتحدث الرسمي باسم خارجيتها، جين شوان، الجمعة الماضية، أن الصين وإيران تفيان بالتزاماتهما الدولية بشكل كامل، والتعاون بين البلدين قانوني وشرعي، ولا يوجد فيه شيء يستحق الانتقاد. وقال شوان في مؤتمر صحفي، ردًّا على سؤال حول رفض بكين تقديم تنازلات للولايات المتحدة والحد من شراء النفط الإيراني: "نحن نجيب بشكل منتظم على مثل هذه الأسئلة، لا تنتهك الصين وإيران التزاماتها الدولية، ونحافظ على اتصالات وتعاون طبيعيين، وهذا أمر عادل ومنطقي ومشروع ومعقول، لا يوجد شيء في هذا يستحق الانتقاد". وأضاف بأن "الصين تعارض دائمًا الإجراءات الانفرادية وفرض سياسة أي دولة على غيرها من الدول، وهذا الموقف واضح ولم يتغير، يجب أن تكون الحقوق والمصالح المشروعة للصين مصانة". وفي إطار الحرب التجارية المستعرة بين وأميركا والصين، جاء في بيان لوزارة التجارة الصينية: "وفقًا لقانون التجارة الخارجية، وغيره من القوانين التشريعية الصينية ومبادئ القانون الدولي الأساسية، اتخذت لجنة التعرفة الجمركية في مجلس الدولة الصيني قرار بفرض رسوم إضافية بقيمة 25 و20 و10 و5 بالمئة على 5207 سلع مستوردة من الولايات المتحدة بقيمة (سنوية) حوالي 60 مليار دولار". في حين اتخذت الهند قرارًا مماثلًا يوم السبت الماضي، مؤكدة أنها ستبدأ تطبيق رفع التعريفات الجمركية على بعض السلع المستوردة من الولايات المتحدة في 18 سبتمبر وذلك بعد تأجيلها في وقت سابق. وتشعر نيودلهي بغضب من رفض واشنطن استثناءها من تعريفات جديدة.
لذلك، وأمام دخول العالم عبر قواه الكبرى في حروب اقتصادية، تفقد الحرب الأميركية على إيران سياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا قوتها، وستتراجع، لأن الدول المستهدفة أميركيًّا بالحرب التجارية لن ترفع الراية البيضاء للولايات المتحدة وتخرب اقتصادها بأيديها، وتخسر مصالحها الاقتصادية والتجارية مع إيران من أجل إرضاء حفنة من الصهاينة في أميركا أو كيان الاحتلال الإسرائيلي، فضلًا عن أن طهران لا تزال تدير المعركة بذكاء واقتدار.