[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
ينبغي التوقف أمام حالة التعاطف الشديد مع هؤلاء الصبية الجانحين, لأنها تحمل دلالات وإشارات ورسائل غاية في الخطورة، وتدق ناقوس الخطر بشأن تأثير الأوضاع الاقتصادية على قطاعات عريضة من المجتمع، وربما تدفعهم لحالة من اليأس والإحباط واختلال المعايير الأخلاقية التي تجعل التهريب والممارسات غير القانونية مبررة ومشروعة, وتجعل الرشوة "تفتيح مخ" والفساد "أكل عيش", والسرقة حل للبقاء على قيد الحياة.

ضجت مواقع التواصل الاجتماعي وبرامج "التوك شو" في مصر الأسبوع الماضي بقضية "أطفال التهريب" بعد بث فيديو على الموقع الرسمي لإحدى المحافظات الساحلية التي يوجد بها منطقة تجارة حرة, يظهر فيه مجموعة من الأطفال والمراهقين تم ضبطهم "متلبسين" بتهريب ملابس جاهزة من الميناء إلى خارج المدينة, وظهر في الفيديو مذيعة تعمل لدى إذاعة محلية تقوم بتعنيف الصبية والتحقيق معهم وهم مكبلون في الأصفاد عن سبب قيامهم بهذه الجريمة, ورغبة في التوعية والانتشار, قامت المحافظة ببث الفيديو على الـ"فيس بوك".
وانقسم الناس بين مؤيد لعقاب الصبية لردعهم وردع غيرهم عن ممارسة جريمة التهريب التي تضيع على الدولة ملايين الدولارات, وبين معارض للعقوبة ومتعاطف مع الصبية الفقراء، وملتمس العذر لهم لممارستهم هذا النوع من الأعمال ـ وهم الفئة الأكثر عددا ـ معتبرين التهريب خطأ يسيرا لا يستوجب العقاب, وأن هؤلاء الصبية ليسوا مجرمين, بل ضحية لإهمال الأسرة والمجتمع, وأن المجرم الحقيقي هو المهرب الكبير الذي استخدمهم كأداة لارتكاب جريمته، مستغلا ظروفهم الاجتماعية لتحقيق الثراء والإفلات من العقاب والمساءلة.
وصل الأمر لإشادة كثير من المتصلين بسلوك الصبية ورغبتهم في العمل وكسب المال للصرف على أنفسهم ومساعدة أهاليهم حتى لو كان هذا المال عن طريق التهريب.
بل إن أحد الصبية الموقوفين تحول إلى بطل على الـ"فيس بوك" بعد أن تصدى للمذيعة ـ التي نصحته بممارسة عمل شريف حتى لو كان بأجر قليل ـ عندما رد عليها متحديا: بأنها لا تشعر بمعاناة البسطاء من الغلاء الذي أفقد "الفلوس" قيمتها وطلب منها البحث عن "الحيتان الكبيرة" التي تهرب بضائع بمليارات بمساعدة موظفين فاسدين, بدلا من التشهير بهم وفضحهم جراء تهريب قطعتي ملابس مقابل جنيهات معدودة.
وسارعت برامج "التوك شو" الليلية لاستضافة الفتى وإفساح المجال له للحديث عن شجاعته ونشأته وسيرته الذاتية ومسقط رأسه وأسرته, وسط حفاوة بالغة من المتصلين الذي دعا أحدهم الصبية والشباب للاقتداء بهؤلاء الفتية الشرفاء وممارسة التهريب للحصول على المال, دون النظر للحلال والحرام ولا المبادئ والأخلاق التي يقوم عليها المجتمع, ضاربين عرض الحائط بالقانون والنظام العام, وحجتهم في ذلك بأن "الضرورات تبيح المحظورات" وأن هؤلاء الصبية ضحية إهمال المحافظات التي نزحوا منها لعدم وجود فرص عمل, رغم الوعود المتكررة التي قطعتها الحكومات المتعاقبة بتطوير هذه المحافظات وإعطائها نصيبا عادلا من المشروعات والفرص التنموية.
الناشطون في مجال حماية حقوق الأطفال أكدوا أن القانون والدستور والمواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر ومعظم الدول العربية تحمي الأطفال الجانحين، وتمنع تطبيق العقوبات الجنائية عليهم ما داموا لم يصلوا لسن الثامنة عشرة, حتى لو ارتكبوا جرائم تستوجب الإعدام كالقتل أو الاغتصاب, ولكن عدم وجود مراكز رعاية اجتماعية كافية للجانحين في مصر يغل يد القاضي ويدفعه في قضايا كثيرة لإصدار عقوبات بالحبس في السجون العادية، خصوصا في حالة تكرار الجريمة.
ويرى الناشطون أن المسؤولية عن الجرائم التي يرتكبها الأطفال الجانحون تقع على الأسرة والمدرسة وكافة مؤسسات المجتمع, كما أن هناك عوامل نفسية وبيولوجية تساعد على جنوح الأطفال والمراهقين, فيما يشبه الحالة المرضية التي تعفيهم من العقوبة الجسدية, وأنهم في حاجة لرعاية وعلاج وإصلاح حتى يستقيموا ويصبحوا أفرادا أسوياء.
وأكد المحامون أن هناك تعاملا قانونيا خاصا مع جرائم الأطفال, فلا يجب أن يتم احتجازهم في الأماكن التي يحتجز فيها البالغون, وأن يتواجد معهم أخصائي اجتماعي ونفسي، وأن القانون يحظر تصوير الأطفال أو وضع الأغلال في أيديهم أثناء توقيفهم، سواء أثناء التحقيق أو حتى بعد صدور أحكام بإدانتهم, لأن هذا يعد جريمة تشهير وإلصاق وصمة عار بالطفل تطارده في قادم عمره، وتمنعه من الاندماج مع المجتمع الذي لا يرحم حتى لو تاب واستقام وندم على ما اقترفه من جريمة في صباه.
ينبغي التوقف أمام حالة التعاطف الشديد مع هؤلاء الصبية الجانحين, لأنها تحمل دلالات وإشارات ورسائل غاية في الخطورة، وتدق ناقوس الخطر بشأن تأثير الأوضاع الاقتصادية على قطاعات عريضة من المجتمع، وربما تدفعهم لحالة من اليأس والإحباط واختلال المعايير الأخلاقية التي تجعل التهريب والممارسات غير القانونية مبررة ومشروعة, وتجعل الرشوة "تفتيح مخ" والفساد "أكل عيش", والسرقة حل للبقاء على قيد الحياة.
هذا التعاطف الشعبي مؤشر على أن الرهانات الحكومية على قدرة الشعب على التحمل والصبر، حتى يتم عبور هذه المرحلة الصعبة، لم تعد تجدي نفعا أو تلقى قبولا كبيرا من قطاع كبير من محدودي الدخل، الذين يعتقدون أنهم يدفعون وحدهم فاتورة الإجراءات الاقتصادية المؤلمة، بدلا من توزيع الأعباء على الجميع، خصوصا القادرين والميسورين وأصحاب الثروات الضخمة.
واقعة أطفال التهريب يجب أن تدق ناقوس الخطر للإعلام الحكومي أو الخاص, فالمحافظة أخطأت عندما قامت بتصوير الأطفال ونشر الفيديو, والمذيعة أخطأت عندما تقمصت دور المحقق, واستجوبت أطفالا لا حول لهم ولا قوة, مقيدي الحرية ووجهت إليهم الاتهامات قبل أن تثبت إدانتهم, وكان الأجدر بها البحث عن المهرب الحقيقي الذي يقف وراءهم واستغل حاجتهم.
القنوات الفضائية أخطأت عندما سارعت باستضافة الأطفال على شاشاتها, مهرولة وراء الانفراد والسبق الإعلامي, ودغدغة مشاعر الرأي العام المحتقن, ومستغلة حاجة الأطفال للمال بعرضهم أمام كاميراتها حتى ساعات متأخرة من الليل جريا وراء الإعلانات ونسب المشاهدة, بدلا من استضافة مسؤولين وعلماء اجتماع لمناقشة جذور وأسباب المشكلة والبحث عن حلول لمكافحتها ومنع استفحالها.