[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
إن الآداب والثقافات عامة يجب أن تحتفظ بهامش خاص للجمال كي تبقي على شيء من جاذبيتها للقارئ أو المشاهد، وبعكسه، علينا أن نتوقع ردة فعل شبابية عنيفة ضد الكتاب والنقاد الاجتماعيين، المفرطين في الجدية، قد تكون هي ردة بدرجة من العنف أنها تنفي عوالم الكتاب والآداب والفنون بعيدا إلى جزر معزولة غير مأهولة يبقى الفنان فيها ينشد وحده ولكن دون جدوى.

على الرغم مما كان قد تطلبه عصر الثورة الصناعية في بريطانيا القرن التاسع عشر (العصر الفكتوري)، من كتاب كبار قادرين على تشكيل الرأي العام عبر أدوات النقد الاجتماعي، وأقصد هنا كتاب من عيار توماس كارلايل Carlyle وجون رسكن Ruskin ووليم موريس Morris، من بين آخرين، إلا أن جوانب قبح المدينة الصناعية وما رافقها من ظواهر الفقر المدقع والفوضى وغياب الجمال، لم تمنع تبلور جماعات ثقافية فكرية حاولت النأي بأنفسها عن "عالم الماكينة" الكريه، بعيدا نحو "عالم جمالي" منغلق على ذاته، عاش مشكلوه على أبراج عاجية منعزلة لا تغسل أمواج محيط الحياة الهائجة حافات تلك الأبراج.
ولكن على الرغم من اختلاف تلك البيئة، بيئة الثورة الصناعية، جذريا عن بيئتنا في العالم العربي المضطرب اليوم، أتساءل، بكل شجاعة: هل يحتاج عالمنا العربي اليوم إلى حركات فكرية وثقافية "جمالية" المشارب والأغراض لتمنح هذا العالم المضطرب الهابط سريعا نحو القبح في مجالات متعددة، هنا وهناك، أقول: هل نحتاج إلى هذا النوع من الحركات إضافة على الحركات الفكرية والثقافية المتشبثة بالإصلاح والتوجيه الاجتماعيين؟
وإذا كان الرعيل الأول من الكتاب والمفكرين العرب (عبر القرن الماضي وما سبقه من سنين) قد انحازوا تماما إلى الاتجاه الإصلاحي والتعليمي الجاد في الثقافة والآداب والفنون، إلا أن للمرء أن يستشعر حال "نقص الجمال" البائن بوضوح على مدننا وعلى أريافنا، بل وحتى على بوادينا! وللمرء، في هذا السياق، أن يعلن بوضوح أن شبيبتنا ونشئنا قد ملّوا "ثقافة الإملاء"، و"ثقافة التوجيه" القسريتين، كما يملُّ أي شاب من كبار السن الذين أدمنوا النصيحة والتوجيه، أي ذلك النوع من كبار السن الذين لا يتوقفون عن المواعظ، أدينية كانت، أم حياتية عامة! حتى "هاملت" الشاب بطل مسرحية شكسبير في الأبرز من بين مسرحياته المسماة باسمه كان يتجنب الالتقاء بشخصية "بولونيوس"، والد حبيبته "أوفيليا" لذات السبب، أي لأن الأخير لا يحتاج لسوى ثوانٍ كي يبدأ بإلقاء مواعظه ونصائحه على مسامع هاملت درجة إشعار الأخير بالغثيان حتى بولونيوس قضى على أيدي هاملت طعنا بالخطأ!
إن الآداب والثقافات عامة يجب أن تحتفظ بهامش خاص للجمال كي تبقي على شيء من جاذبيتها للقارئ أو المشاهد، وبعكسه، علينا أن نتوقع ردة فعل شبابية عنيفة ضد الكتاب والنقاد الاجتماعيين، المفرطين في الجدية، قد تكون هي ردة بدرجة من العنف أنها تنفي عوالم الكتاب والآداب والفنون بعيدا إلى جزر معزولة غير مأهولة يبقى الفنان فيها ينشد وحده ولكن دون جدوى.
إن الجمال ضروري، وعلى أصحاب القيادات الثقافية وأولي الأمر أن لا يغمطوا الجمال والتمتع به بحقهما، وإلا سيهجر النشء والشباب الثقافة الحقة نحو البذاءة والخلاعة وقلة الذوق، كما نلاحظ ذلك جاريا الآن في العديد من أجزاء عالمنا العربي على قدم وساق، لبالغ الأسف. بل إن علينا أن نتذكر دائما ذلك النوع من الثقافة التعليمية والتوجيهية التي غالبا ما تمرر إلى المستهلك الثقافي بغلاف جمالي مغرٍ، إذ أطلق على هذه الطريقة عنوان طريف، هو "الحبوب المغطاة بالسكر": هي حبوب دواء مرّة ولكنها تعالج الأمراض مقبولة ذوقيا لأنها مغطاة بطبقة من السكر، وإن كانت طبقة خفيفة!