مقدمة:
يقف الكثيرون في العالم العربي موقفا معاديا للسياسات الأميركية في المنطقة، وهم في هذا على حق لأن هذه السياسات ومنذ الرفض الأميركي لطلب مصر عبدالناصر تمويل السد العالي سياسات تتصف بالجهل بثقافة شعوب المنطقة وعدم الحساسية لأمانيها المشروعة مع التأييد الأعمى لسياسات إسرائيل العدوانية وأطماعها في الأراضي العربية.
ـــــــــ
يعتقد ميشال بوجنون موردان مؤلف كتاب أميركا التوليتارية: الولايات المتحدة والعالم....إلى أين؟ أن الولايات المتحدة قوة احتوائية تريد امتلاك مجمل مكونات الكيان الذي تعيش فيه، وهي أي الولايات المتحدة مدفوعة بهاجس السيطرة على العالم وأمركته. ويجوس الكاتب لإثبات هذه الرؤية في التاريخ والضمير الأميركي، ويرصد بنظرة عابرة ولكن ثاقبة لحظات تكونهما التي أخرجت ما يعرف بالأمة الأميركية إلى الوجود، الأمة المختارة باختيار القدر فحسب، الأمة المفعمة بالعقيدة الكالفينية، فيقول المؤلف عن هذه العقيدة إنها تقرر ما يلي "لئن كان الله قد سمح بأن يجتمع في أرض الولايات المتحدة شعب من رجال ونساء مميزين، فذلك لأنه منح هذا الشعب رسالة حكم العالم ذات يوم". ويقول بوغنون إن استيطان الولايات المتحدة كان يجري في الأصل في سياق أيديولوجي ثنائي القطب، أولا: الاغتناء المادي، وثانيا: تمجيد الإنجاز الإلهي. فالأمة الأميركية كما يعكسها الكتاب ورجال الكنيسة والمثقفون الأوائل هي شعب الله المميز الذي جاء على قدر، فوليام مستوغتون (1631-1701) يرى أن الله اختار مواطني الولايات المتحدة بعناية، فغربلهم كما تغربل الحبوب لفصل البذرة الصالحة عن غيرها. وجون وينثروب حاكم مستوطنة ماساشوستس عام 1629 م ذهب إلى وصف نفسه وأصحابه بأنهم في خدمة المسيح وأنهم يرتبطون معه بميثاق، وأنهم أعضاء جسم فريد موحد، وهم شعب الله المختار. وقال كوتون ماذر إن الولايات المتحدة كانت قبل مجيء المهاجرين الأوائل لأرض الشيطان، وإنه أي الشيطان سيستعمل كل حيله للحؤول دون استيطان المستوطنين. وبهذا تكونت صورة الهندي الشرير والبربري المسكون بالشيطان، في مقابل الرجل الأبيض المختار المسكون بالخير المتصف بالتحضر. وأيضا في مقابل الأسود الجاهل الذي لا يجيد التمتع بالحرية "كما هي في الولايات المتحدة". ويقودنا الكتاب إلى أن الشعب الأميركي مسكون بحقيقة مفادها أنه يجسد أمرا إلهيا قاده إلى الاستيطان وإبادة الشعب الأميركي الأصلي واستعباد الشعب الأسود، ثم دفعه لبدء السيطرة والهيمنة على العالم.
ورأى بنيامين فرانكلين أن الولايات المتحدة ستكون مولدة لمجتمع عالمي، وان المؤسسات والعادات والمبادئ الأميركية جاهزة للتطبيق في كل مكان. ومع هذه الوظيفة الفريدة تلازمت ضرورة التوسع في الأراضي، فالولايات المتحدة في رأيه أنه ليس لأرضها القومية سوى حدود غامضة متحركة قابلة للتوسع باستمرار اعتماداً على ثنائيتها الأيديولوجية: أنموذجية شبه صوفية غازية من جهة، ومحو البنى السياسية والاجتماعية والثقافية لكل كيان غير أميركي من جهة ثانية. ومر توسعها في دوائر ثلاث. في الأولى ضمنت الولايات المتحدة بواسطة الإبادة الخالصة للهنود الحمر، وبالاستعباد الاجتماعي والسياسي للسود، دائرة أولى تمكنها من الانطلاق نحو غزو أوسع. ومن أهم تواريخ التوسع في هذه الدائرة، تعاظم "الأمة حين ابتاعت لويزيانا من نابليون"، عام 1908. وفي العام 1823 حدد الرئيس مونرو المبدأ الذي يحمل اسمه، مبدأ الحياد ذي الطابع الدفاعي الموجه ضد أي تدخل أجنبي في شؤون القارة الأميركية، واستعملت هذه العقيدة لاحقا لتعميم التوسع الإقليمي، وأن للولايات المتحدة وحدها حق حراسة الأميركيين، والتي كانت تعني بكلمات واضحة "خضوع الولايات المتحدة اللاتينية لمصالح الولايات المتحدة ثم لقراراتها". و في الدائرة الثانية بدأ غزو الولايات المتحدة لاميركا اللاتينية في منعطف القرن الثامن عشر، ضمن مشروع تحرير اميركا اللاتينية، اما الدائرة الثالثة فهي الفترة التي نمت فيها الولايات المتحدة على حساب الصراع الأوروبي-الأوروبي الذي كلف أوروبا خسارتها لكثير من مستعمراتها ومواقع نفوذها، ففي الحربين العالميتين الاولى لم يتورع الأميركيون عن تزويد المتحاربين بالأغذية والأسلحة والمنتجات مقابل المال، مما زاد من حصتها التجارية في التعامل مع عدد من الدول الأوروبية، ولم تتدخل في الحرب إلا للمحافظة على التوازن العالمي وللدفاع عن التجارة البحرية التي هددتها الغواصات الألمانية. وقد جنت الولايات المتحدة الكثير من الأرباح والفوائد من الحرب، بينما كانت مذبحة لأوروبا فدفعت الثمن من دمائها واقتصادها. ان الفوضى التي نتجت عن الحرب الثانية شملت اليابان والصين والاتحاد السوفياتي وأوروبا، فقد أصاب هذه الدول الانهيار في جميع المجالات وعانت من العجز والبحث عن عمل والتضخم، فالحرب وضعت هذه الدول على حافة الإفلاس، بينما كان لها أثر معاكس في الولايات المتحدة. فقد أنهت الأزمة الاقتصادية وامتصت البحث عن عمل وكشفت طاقات إنتاجية غير متوقعة.والأمر هكذا فقد استطاعت الولايات المتحدة أن تستثمر تفوقها في الحرب وازدهارها نتيجة لها، واستفادت من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي لاقتياد الدول الأوروبية إلى توقيع معاهدات ستؤدي "تدريجيا إلى نسج شبكة عنكبوتية سياسية اقتصادية مالية استراتيجية ودبلوماسية، ستوقع فيها واشنطن العالم الحر الأوروبي على مراحل". ويرى الكاتب أن بنية صندوق النقد الدولي كانت تؤسس لهيمنة أميركية لا رجوع عنها، فالولايات المتحدة تمتلك فيه حق النقض وأكثرية فعلية يسمحان لها بألا يجري التصويت إلا على ما تريد تمريره. وكذلك في المصرف الدولي الذي يتلخص دوره بتأمين الانتقال من الاقتصادات الوطنية إلى الاقتصاد المعولم، والولايات المتحدة تهيمن عليه وتملك الأغلبية فيه. وعلى الصعيد العسكري، فإن الحلف الأطلسي يقوم برقابة عسكرية على أوروبا، وكان قد بدأ في العام 1949 كأي حلف كلاسيكي يتساوى فيه الأعضاء، غير أن الولايات المتحدة فرضت نفسها كقائد وحيد للحلف بما كانت تقدمه من مساعدات ولاحتكارها السلاح النووي.
لم تكتف الولايات المتحدة باحتكارها للقوة المسلحة من خلال الحلف الأطلسي وقبعات الأمم المتحدة الزرقاء، وباحتكارها للاقتصاد من خلال المؤسسات الدولية الخاضعة لتقلبات السوق التي تتحكم بها الولايات المتحدة، إنما احتكرت أيضا وسائل الاتصال الجماهيري، ويقدر المؤلف بأن الوكالات الأميركية للأنباء قادرة "على مراقبة 90% من الإعلام المبثوث". والإعلان يدين للولايات المتحدة بأنها جعلت منه سلاحا فعالا، للتلاعب بعقول الجماهير وللغزو السياسي والثقافي والاقتصادي، ومعظم أجهزة التلفزة تحاكي البرامج الأميركية. أما في مجال السينما فإنه لا طاقة لأوروبا في الصمود في مواجهة مدفعية هوليود، فقد تلاشى معظم إنتاجاتها الوطنية "في هاوية الصناعة السينمائية الأميركية". فضلا عن ذلك فإن الولايات المتحدة أجادت استخدام التكنولوجيا وتسيطر على معظم محركات الاتصال في العالم، وتخضع الإنترنت لشركاتها العملاقة، وذلك في الوقت الذي أساءت فيه أوروبا "استعمال التنمية التكنولوجية".

الامبراطورية الأميركية وأطماعها في العالم العربي:
قال اوباما في خطابه أمام قادة وممثلي 193 دولة الاعضاء بالجمعية العامة للأمم المتحدة "ان الولايات المتحدة اصبح لديها من التواضع ما يجعلها تنىء بنفسها وبقدراتها عن التدخل فى تحديد مصير الأحداث داخل بلدان أخرى " واضاف اوباما "إن فكرة الامبراطورية الأميركية قد تكون دعاية مفيدة، ولكنها لا تحرك السياسة الأميركية الحالية أو الرأي العام." يبدو أوباما هنا، مثله مثل الكثير من المفكرين والسياسيين الأميركيين، يتحاشى، أو على الأصح لا يستسيغ توصيف الولايات المتحدة بالامبراطورية، لأن ذلك يستتبع الاعتراف بأن لديها مشروعاً امبراطورياً. وربما يخشى أوباما أن يلتصق بالولايات المتحدة ما علق بالامبراطوريات الكلاسيكية السابقة من إرث شديد السلبية وقائم، وفق ما تعيه الذاكرة الجماعية للخبرة الإنسانية، على السلب والنهب والقتل والتدمير.صحيح أن الولايات المتحدة غير مثقلة بإرث استعماري، إلا أن لديها من المقومات ما يجعلها امبراطورية قال عنها الكاتب والناقد الأميركي لورانس فانس إنها ستجعل كل من تربع على عرش الامبراطوريات التي عرفها التاريخ، من الإسكندر والقيصر وأغسطس وجنيكز خان إلى السلطان سليمان والامبراطور جوستنيان والملك جورج الخامس، فخوراً وحاسداً. وما يميز الامبراطورية الأميركية، ليس سيطرتها المباشرة على أجزاء مترامية من الكرة الأرضية أو تجمعاتها السكانية الكبرى، بل هيمنتها على العالم بشكل غير مسبوق. على سبيل المثال يتمركز أكثر من نصف مليون جندي أميركي في أرجاء مختلفة من العالم ويتبع البنتاغون، في داخل الولايات المتحدة وخارجها، أكثرُ من نصف مليون منشأة ومبنى موزعة على اكثر من خمسة الاف موقع، و يدير البنتاغون حوالى30 مليون هكتار في مختلف أنحاء العالم. بالأضافة الى وجود أكثر من 700 قاعدة عسكرية أميركية موزعة على 63 بلداً في العالم، و ترتبط الولايات المتحدة في اتفاقيات أمنية ثنائية في أكثر من 35 دولة، ولها وجود عسكري تحت مسميات مختلفة (تسهيلات، تدريب وحماية أو تموين) في أكثر من 156 دولة في العالم. وهذا يعني أن نفوذ القوات الأميركية موجود في اكثر من 75% من دول العالم. ووفقاً للاقتصادي والمؤرخ الأميركي روبرت هيجز، تنفق الولايات المتحدة عملياً على الدفاع ما يقارب تريليون دولار، أي ما يعادل نصف الإنفاق العسكري لدول العالم و تسيطر الولايات المتحدة بأساطيلها البحرية المنتشرة على معظم الممرات المائية في العالم وخطوط الملاحة، وهي قسمت الكرة الأرضية إلى مناطق جغرافية، تخضع كل منطقة منها لقيادة عسكرية خاصة بها ومزودة بالسفن الحربية والطائرات العاملة في منطقة مسؤولياتها. وهذه القدرة العسكرية الكبيرة تستند الى قاعدة اقتصادية متينة كانت بعد الحرب العالمية الثانية مسؤولة عن حوالى 57% من الإنتاج العالمي، بالإضافة إلى اعتماد عملة الدولار كأساس للتبادل في النظام النقدي العالمي، مع ترسيخ الانطباع بثبات واستقرار نموذجها الاقتصادي للنظام الرأسمالي العالمي الجاذب للودائع والاستثمارات الآمنة. بالأضافة الى سيطرتها على وسائل الإعلام، وانتشار سلعها وابتكاراتها ونمط معيشتها الاستهلاكي الجذاب، علاوة على انفتاحها لاستقبال اليد العاملة الاحترافية المهاجرة إليها، وسمعة جامعاتها المرموقة، وصولاً إلى مطاعم الوجبات السريعة. بعبارة أخرى قدمت الولايات المتحدة صورتها إلى العالم بأنها بلد الفرصة السانحة لجني الثروة وتحقيق الحلم الإنساني بالتقدم والنجاح الفردي، رغم كثرة مشكلاتها الداخلية التي لا تعد ولاتحصى. وقد ساعد في ذلك الموقع الجغرافي للولايات المتحدة وانهماك شعبها بدورة اقتصادية معيشية استهلاكية مرفهّة قياساً ببقية العالم، بعيداً عن الانخراط في هموم السياسة والسياسيين.
فسر الساسة الأميركيون دوافع التدخل الأميركي في الشؤون الدولية، وخاصة المنطقة العربية، بأنها من أجل حماية المصالح الحيوية للأمن القومي الأميركي؛ وخير مثال على ذلك ما ادعاه وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر في تبريره الحرب على العراق عام 1991 بحماية فرص العمل في الولايات المتحدة. فالنفط يشكل العجلة التي تسيِّر الاقتصاد العالمي، وتستهلك الولايات المتحدة بمفردها ربع الإنتاج العالمي، رغم أن تعداد سكانها لا يتجاوز 5% من سكان العالم.
لقد حدد المشروع الامبراطوري الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية جملة من الأهداف الثابتة في الوطن العربي تضمنت السيطرة المطلقة على مخزونات الطاقة، والتحكم في عملية الإنتاج وتحديد الأسعار، وحماية طرق الإمداد. واحتواء النفوذ السوفياتي أو المد الشيوعي والحيلولة دون بروز نفوذ دولي وإقليمي منافس لهيمنة الولايات المتحدة. وحماية إسرائيل وضمان أمنها والحرص على تفوقها العسكري النوعي. ويندرج تحت هذه الاهداف الكبيرة عدد من الأجراءات التي تساعد في تحقيقها، على سبيل المثال: ضمان ولاء وتبعية النظام الرسمي العربي، وإقامة قواعد عسكرية وتقديم تسهيلات لوجستية للقوات الأميركية وتهميش دور مؤسسات العمل الإقليمي المشترك، أو أية ترتيبات أمنية أو اتحاد أو تعاون إقليمي، إلا إذا كانت بمبادرة أو رعاية أميركية ولخدمة أهدافها، والتهديد والتلويح بمشاريع الإصلاح والتغيير ونشر الديمقراطية كوسيلة ضغط وابتزاز للنظام الرسمي العربي؛ حرمان البلدان العربية من تطوير برامج نووية، واتخاذ أية محاولة باتجاه مثل هذه البرامج ذريعة للتدخل العسكري تحت عنوان الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل. مر المشروع الامبراطوري الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية بثلاث مراحل:
ـ مرحلة الحرب البادرة حتى انهيار الاتحاد السوفييتي:
انتقلت الولايات المتحدة تدريجياً من الاعتماد على بريطانيا للقيام بدور الشرطي في الوطن العربي إلى لاعب رئيسي بعد الانسحاب البريطاني شبه الكامل من المنطقة عام 1971. وتخلل هذه المرحلة تنسيق بريطاني ـ أميركي ميداني مشترك لمواجهة ما اعتُبر تهديداً من موسكو بالتمدد إلى المنطقة، واعتمدت فيه واشنطن سياسة الاحتواء والردع، التي طرحها جورج كينان، ومارست استعراض قوتها البحرية في المتوسط عام 1946 لمواجهة الضغوط السوفييتية على تركيا، بالإضافة إلى إقامة قاعدة بحرية دائمة للأسطول الأميركي في البحرين. وعملت على تشكيل وتشجيع الأحلاف الإقليمية، مثل حلف بغداد وبعده حلف السنتو، للوقوف بوجه الحركات التحررية، مثلا عبدالناصر في مصر ومصدق في أيران، بتدخلها في لبنان عام 1958. ومع تغير ملامح المشروع الأميركي في حرب فيتنام، حاول الرئيس الأسبق نيكسون إيجاد مخرج من ورطة فيتنام بتطوير مبدأه القائل بتقديم الدعم والعون العسكري إلى حلفاء الولايات المتحدة، وتوفير مظلة الحماية لهم، شرط أن يوفروا القوة البشرية اللازمة لحماية أنظمتهم. وتركز دعم نيكسون في المنطقة بالدرجة الأولى على السعودية وإيران، لصلتهما المباشرة بمخزون النفط. وشكّل الغزو السوفيتي لأفغانستان ونجاح الثورة الإيرانية محطة أساسية في تعديل عناصر المشروع الأميركي، خاصة بعد نشوب أزمة احتجاز الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران. وأعلن الرئيس كارتر في عام 1980 مبدأ مفاده «إن أية محاولة من قبل قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج ستعتبر اعتداءً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وستجابه بكل الوسائل المتاحة، بما فيها القوة العسكرية». وتم آنذاك تشكيل قوات التدخل السريع التي تحولت في ما بعد إلى القيادة الوسطى لتشمل منطقةُ عملياتها مساحة جغرافية تمتد من باكستان إلى مصر. واستطاع كارتر أن يبرم بين مصر وإسرائيل اتفاقيات كامب ديفيد، وشجعت واشنطن صدام حسين على مجابهة نية النظام الثوري الجديد في طهران للتمدد الإقليمي، فكانت الحرب العراقية ـ الإيرانية التي استنزفت مقدرات البلدين البشرية والاقتصادية وأضعفتهما. أعقبتها حرب تحرير الكويت التي أعتبرها البعض علامة بارزة على انحسار النفوذ السوفيتي الذي عجز عن القيام بدور في لجم الاندفاع الأميركي، أو إيجاد مخرج للعراق يحفظ له هامشاً للمناورة، أو يثبت للاتحاد السوفيتي دوراً في حماية نفوذه مع حلفائه في الوطن العربي. في المجمل، يمكن وصف مرحلة الحرب الباردة بأنها مرحلة اعتماد المشروع الأميركي بصورة أساسية على أدوار وظيفية مرسومة للدول الإقليمية. وفي الوقت نفسه، عززت واشنطن انتشارها العسكري عبر إقامة قواعد، والحصول على تسهيلات مختلفة على امتداد الوطن العربي، وخاصة في منطقة الخليج، وصولاً إلى تدخلها العسكري المباشر في حرب «تحرير الكويت».
ـ مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حتى هجمات سبتمبر 2001:
تميزت هذه المرحلة بلجوء الولايات المتحدة في عهد الرئيس كلينتون، بصورة خاصة، إلى المزج بين نزعة التدخل العسكري واستراتيجية الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، ومواصلتها ممارسة سياسة الضغط والحصار والعقوبات والتلويح بالتدخل العسكري. وقد شهدت تلك الحقبة تدخلاً عسكرياً في الصومال (بين عامي 1992 و1994)، بالإضافة إلى توجيه ضربات جوية وصاروخية إلى العراق (في الأعوام 1993 و1996 و1998)، وإلى أفغانستان والسودان في العام 1998. ولكن إدارة كلينتون حاولت تسويق استراتيجية تعتمد على ضمان الأمن الاقتصادي وتسخير التفوق العسكري والتقني للولايات المتحدة لخدمة هذه الاستراتيجيات.
ـ مرحلة ما بعد هجمات سبتمبر 2001:
شكّلت هجمات 11 سبتمبر 2001 منصة لانعطافة جديدة في المشروع الامبراطوري الأميركي، وسرعة في وتيرة إنجاز مخطط المشروع الأميركي للقرن الجديد، الذي يتمحور حول استخدام فائض القوة العسكرية والتقنية للولايات المتحدة لصوغ نظام عالمي جديد تتفرد فيه الولايات المتحدة بعرش النظام الدولي إلى أقصى مدة ممكنة، عبر التحكم في مصادر مخزونات الطاقة، والحيلولة دون تمكين أية دولة أخرى من منافسة الولايات المتحدة عسكرياً واقتصادياً. ومن اللحظة الأولى، لم تنشغل إدارة بوش الابن بالإعداد لضربة انتقامية ثأرية ضد ما اعتبرته حاضنة الإرهاب لتنظيم القاعدة في أفغانستان فقط، بل شرعت أيضاً في عملية الإعداد لغزو العراق تحت ذريعة تطويره أسلحة دمار شامل وتعامله مع تنظيم القاعدة.وساهمت هجمات سبتمبر في إعادة صوغ استراتيجية الأمن القومي الأميركية، لتوسع من نطاق تفسير مفهوم الدفاع عن النفس ضد الأخطار المحتملة، وصولاً إلى صوغ ما عُرف لاحقاً بـ «مبدأ بوش»، الرامي إلى منح الولايات المتحدة حق شن الحروب الاستباقية على ما يمكن اعتباره خطراً قادماً محتملاً، وإن لم يكن وشيكاً أو فعلياً. ووفق ذلك، يكفي أن تُتَّهم أية دولة عاصية على طاعة الولايات المتحدة بأنها تعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل لتكون عرضة للغزو العسكري والتدمير وتغيير النظام. وانتشرت مقولات « من ليس معنا فهو ضدنا، ولن ننتظر حتى نهاجَم داخل أراضي الولايات المتحدة كي نتحرك، بل علينا نقل المعركة إلى أراضي الخصم». ولم تكشف الوقائع اللاحقة لغزو العراق زيف وبطلان كل الادعاءات حول تطوير العراق أسلحة دمار شامل أو امتلاكه هذه الأسلحة فقط، بل تبين أيضاً أن نائب الرئيس تشيني كان قد ناقش في اجتماع خاص مع مسؤولي شركات النفط الأميركية خرائط ومخططات ذات صلة بالسيطرة على احتياطي النفط العراقي، وذلك قبل هجمات سبتمبر. الا أن مشروع بوش تعثر مما حدى به الى طرح بدائل سياسية في محاولة لتثبيت الهيمنة الاميركية، مثلا فرض تسويات منفردة للصراع العربي ـ الإسرائيلي وجذب فائض العوائد النفطية للبلدان العربية إلى الاقتصاد الأميركي، وتشجيع عمليات الخصخصة، وإحداث إصلاحات اقتصادية مغايرة لحاجات شعوب المنطقة، وتقديم المعونات السخية إلى المنظمات غير الحكومية (تحت ستار نشر ثقافة الديمقراطية والحكم الصالح الرشيد وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة...)، واختراق الكثير من الوسائل الإعلامية العربية. ولكن إدارة بوش الابن اصطدمت بعجزها عن تقديم نظام بديل مقْنع، ولم تتمكن، و إفراز نظام مستقر لا ينخره الفساد والرشوة والمحاصصة الطائفية والعرقية، عدا عن عدم القدرة على تلبية الحاجات الأساسية. ومع تعثر مشروعها وبداية تذمر حلفائها الأوروبيين والعرب معاً من حصاد المغامرة العراقية البائسة، واتهامها بأنها لا تهتم إلا بالسيطرة على مقدرات العراق النفطية، توجهت مرغمة نحو إطلاق مبادرة الشرق الأوسط الكبيرللتغطية على فشلها وإظهار جديتها في السعي إلى إحداث تغييرات جوهرية في المسرح العربي ـ الإسلامي. وجاء خطاب الرئيس بوش الابن في نوفمبر 2003، مؤشراً على طرح ما سمّاه «استراتيجية التقدم نحو الحرية في الشرق الأوسط». وقال بوش أن هذه المبادرة تحاكي ما أقدمت عليه الولايات المتحدة في هلسنكي عام 1975 لتشجيع الإصلاحات الديمقراطية في أوروبا الشرقية. واعترف بوش بأن الولايات المتحدة لم تكن جادة في المضي بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، مشيراً إلى «أن ستين عاماً من تقديم الغرب للتبريرات أو التغاضي عن غياب الديمقراطية لم تجعلنا أكثر أماناً، إذ لا يمكن في المحصلة النهائية شراء الاستقرار على حساب الحرية». هذه اللهجة الجديدة عكست اعترافاً ضمنياً بأن المبادرة التي أطلقها وزير الخارجية آنذاك كولن باول، في ديسمبر 2002 بعنوان «مبادرة الشراكة الشرق الأوسطية» لتشجيع برامج الإصلاح في البلدان العربية، لم تؤد الغرض المطلوب. ورمت المبادرة، التي طُرحت في فبراير 2003 (أو مبادرة منطقة التجارة الحرة الشرق الأوسطية ـ الأميركية)، إلى الإيعاز بتحقيق جملة أهداف منها: تعزيز دور المجتمع المدني؛ اتخاذ مبادرات للاستثمار في مشاريع اقتصادية؛ توسيع قاعدة المشاركة السياسية؛ تعزيز حقوق المرأة. لكنها أيضاً عكست قناعة أيديولوجية لفريق المتشددين من المحافظين الجدد، الذين كثيراً ما روّجوا لضرورة اعتماد مبدأ تغيير الأنظمة بكل السبل الممكنة، وخاصة القوة العسكرية، للبدء بتقديم مبررات جديدة للشعب الأميركي عقب تنامي قلقه وتشكيكه بالأهداف المعلنة للغزو الأميركي للعراق، واعتبار نشر الحرية والديمقراطية في العالم العربي والإسلامي هدفاً حيوياً ضرورياً لتعزيز الأمن القومي الأميركي، وأن نشر الديمقراطية في المنطقة هو الطريق الوحيد للقضاء على الإرهاب والتطرف. أن فشل بوش في العراق وأفغانستان وانهيار شعبيته داخلياً دفعه الى استخدام نغمة نشر الحرية والديمقراطية، لأنها ستكون أكثر قبولاً لدى الشعب الأميركي. وتوظيف النهج الجديد في ممارسة التهديد والضغط على الدول العصية على الطاعة الأميركية، والمحسوبة في معسكر المقاومة للمشروع الأميركي، بغية تعديل سلوكها وتقديم حوافز اقتصادية وسياسية ومعنوية لها ورفع العقوبات عنها. والتجاوب الشكلي مع تطلعات الدول الأوروبية، وخاصة الدول الأطلسية التي تشارك قواتها في أفغانستان، لتشجيعها على عدم التردد في إرسال المزيد من القوات التي يحتاج المسرح الأفغاني إليها. وكان لافتاً استناد المبادرة الأميركية في خلفياتها على خلاصة تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة بشأن الوطن العربي في عام 2002 ـ 2003. وهو التقرير الذي ركز على النواقص الثلاثة التي يشهدها الوطن العربي، حسب واضعي التقرير، وهي: المعرفة، والحرية، والحكم الرشيد، وفي تمكين النساء. وأدركت إدارة بوش، تحت ضغوط ردود الفعل العربية والأوروبية المختلفة المطالبة بضرورة التشاور وأخذ وجهات نظرها في الاعتبار، ضرورة إجراء تعديلات على المبادرة لا تقتصر على تغيير الأسم فقط. وأدى تسريب المسودة الأولى للمبادرة إلى حراك رسمي وغير حكومي في الوطن العربي باتجاه تطوير برامج وأفكار للإصلاح تكون مطروحة قبل قمة مجموعة الثماني المنتظرة في سي آيلاند في ولاية جورجيا الأميركية، في يونيو 2004. وكان أهم المبادرات الرسمية «بيان مسيرة التطوير والتحديث»، الذي صدر عن القمة العربية التي انعقدت في مايو 2004؛ إذ دعا البيان إلى استمرار الجهود وتكثيفها لمواصلة مسيرة التطوير العربية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، تحقيقاً لتقدم المجتمعات العربية النابع من إرادتها الحرة. كما دعا إلى تعميق أسس الديمقراطية والشورى، وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام في صنع القرار، في إطار سيادة القانون، وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين، واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير، وضمان استقلال القضاء. وبدت هذه المبادرة بتوقيتها محاولة للتأثير في ما يمكن أن يصدر عن مجموعة الثماني، ولإرسال إشارة إلى الشعوب العربية في الوقت نفسه بأن حكوماتها مهتمة بالإصلاح والتطوير بعيداً عن الإملاءات الخارجية. كما ظهرت بعض المبادرات من القطاع الأهلي مطالبة بالإصلاح، كان أهمها «إعلان صنعاء» في العام 2004، الذي تمخض عن المؤتمر الإقليمي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور المحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى «وثيقة الإسكندرية» التي صدرت عن مؤتمر «قضايا الإصلاح العربي، الرؤية والتنفيذ» في مارس من العام نفسه. وفي ختام مؤتمر مجموعة الثماني، الذي حضره بعض زعماء العالم العربي والإسلامي (أفغانستان، الجزائر، البحرين، الأردن، تونس، تركيا، اليمن، والعراق)، تم إعلان «مبادرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوسع» بعد تعديل الكثير من النقاط التي وردت في المسودة المسربة قبل شهور خلت. وتمت في المؤتمر المصادقة على وثيقة «الشراكة نحو التطوير والمستقبل المشترك»، بالإضافة إلى «خطة مجموعة الثماني لدعم الإصلاح». ومن أبرز ما تم تعديله النقاط التالية: الاعتراف بضرورة أن يكون دعم برامج الإصلاح في المنطقة يسير بالتوازي مع دعم عملية سلام عادل وشامل ودائم للصراع العربي ـ الإسرائيلي والتأكيد أن الإصلاح لا يتم بفرضه من الخارج، بل يعتمد على جهود الدول نفسها. وليس بالضرورة أن يتم تغيير الحكومات القائمة لتنفيذ الإصلاح والتغيير. ولا توجد معايير واحدة لعملية الإصلاح والتغيير، ويتوجب احترام تنوع وخصوصية كل دولة. و كل دولة تقرر بنفسها الوتيرة والمدى اللذين يمكن تحقيقهما من عملية الإصلاح.بعد مضي أكثر من عشر سنوات على إطلاق هذه المبادرة، تتبين لنا محدودية الأثر الذي تركته في تحفيز برامج الإصلاح والتغيير في الوطن العربي، وترمي إخفاقات تجربة العراق لبناء الديمقراطية، وتعثّر التجربة نفسها في أفغانستان، وعدم احترام نتائج الانتخابات التشريعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بثقلها السلبي على المشروع الأميركي برمته.ويبدو من التجربة العملية أن السعي إلى إقامة منطقة التجارة الحرة الأميركية ـ الشرق الأوسطية هي من الأدوات الرئيسية التي تختصر مقاربات الإصلاح والتغيير للمشروع الأميركي، بالإضافة إلى تهميش قوى المجتمع الحقيقية عبر تشجيع وتمويل بعض المنظمات غير الحكومية لعقد مؤتمرات ومنتديات حوارية، أو رعاية برامج تدريبية محلية تطاول شؤون رجال الأعمال ومؤسسات الإعلام ومنظمات المرأة، أو ترتيب الزيارات والوفود من هذه المؤسسات لحضور برامج تدريب في الولايات المتحدة.كما تتضح ماهية الأهداف الحقيقية من وراء تشجيع مختلف الأطراف على إبرام اتفاقات تجارية ثنائية، أو السعي إلى إيجاد منطقة مشتركة للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة؛ فهذه الاتفاقيات لا تؤمّن دخول ميسّر للبضائع الأميركية إلى الأسواق العربية فحسب، بل إنها تكبّل أو تعطل أيضاً مفاعيل الاتفاقيات التجارية العربية ـ العربية عندما تتضمن شروطاً وإجراءات تنتهك الاتفاقيات المحلية المشتركة. ومثال على ذلك أنه عندما وقّع الرئيس بوش الابن اتفاقية التجارة الحرة مع المغرب، أعلن رئيس اللجنة الفرعية المختصة في الكونجرس بيل توماس أن الاتفاق ينسجم مع توصيات لجنة التحقيق في هجمات سبتمبر، الرامية إلى تشجيع النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط كأولوية تخدم الأمن القومي الأميركي. وكان لافتاً أيضاً أن يعلن وزير التجارة الأميركي آنذاك روبرت زوليك أن اتفاقيات التجارة الحرة هي من الوسائل الضرورية لمحاربة الإرهاب.

أوباما والمشروع الأميركي
رغم أن أوباما لم يكن المرشح المفضّل لدى الديمقراطيين الا أن نجاحه اللافت في الانتخابات التمهيدية، جعله المرشح الأكثر قبولاً لتولي إدارة المشروع الامبراطوري الأميركي في مرحلة حرجة يتعثر فيها من الخارج وتهتز ركائزه الاقتصادية في الداخل. إن مجيء أوباما إلى سدة الرئاسة يؤكد توق الشعب الأميركي وحاجته الملحة إلى إحداث التغيير والقطيعة مع تركة الرئيس بوش الابن الثقيلة، إلا أن ذلك لا يعني أن في أميركا إجماعاً حول طبيعة حجم التغيير ومداه، وإن كان هناك إجماع على ما يتسرب إلى عقول الأميركيين وقلوبهم من حالة إحباط وفشل وقلق على المستقبل. حاول أوباما على ما يبدو استعادة هيبة ومكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي، بدءاً بإغلاق معسكر جوانتانامو، مروراً بإعادة ترتيب العلاقات الأميركية مع الأطراف والتكتلات الدولية الفاعلة، وانتهاءً باحتواء حالة العنف والكراهية تجاه أميركا في العالم و معالجة الزلزال البنيوي الداخلي الذي أحدثته أزمة الأسواق المالية، بهدف وقف التدهور، واستعادة الثقة بوضع الاقتصاد الأميركي على طريق الإنعاش، ومواجهة تعاظم الدورين الإيراني والتركي بعيداً عن إرادة واشنطن ورغبتها. يضاف إلى ذلك ملف أيران النووي، وإمكانية تغلغل النفوذ الروسي والصيني بأساليب مختلفة إلى حلبة الشرق الأوسط.
لا تبدو إدارة أوباما مهتمة بوضع أولويات الإصلاح ونشر الديمقراطية أو أجندة الحرية، التي روج لها الرئيس بوش الابن كثيراً في عهده الثاني، وهو ما دفع الأمر ببعض رموز المحافظين الجدد إلى اتهام أوباما بأنه يدير ظهره لهذه الأجندة، فأوباما يُتّهم بأنه مستمر في السياسة القديمة للولايات المتحدة، التي تفضل تكريس ميزان قوى قائم على تعزيز الاستقرار في المنطقة على حساب الحرية. ورغم إشارة أوباما في خطابه الشهير في القاهرة إلى قضية الديمقراطية بصورة عابرة، إلا أنها جاءت بلهجة مرنة ومطمئنة للحكومات العربية عندما ذكر [أننا] «لا نريد أن تفرض دولة ما على دولة أخرى نظام حكم معيناً. أميركا لا تفترض أنها تدرك الأصلح لكل شعب... وتدعم كل حكومة تحترم شعبها». أن النظرة الواقعية إلى المشهد الأميركي تدفعنا إلى عدم نسيان حقيقة أن أوباما إفراز لمؤسسة حاكمة، وأنه يمثّل فريقاً أو اتجاهاً في جناح هذه المؤسسة الليبرالي بالمقياس الأميركي، ولا يعود لدى تسلمه الرئاسة ممثّلاً لفريق أو جناح، بل هو محكوم بتجسيد مصالح النخبة الحاكمة وطموحاتها واستمرارها. ولو دققنا قليلاً في خطب أوباما لاكتشفنا، أنه يتبنّى المشروع الامبراطوري الأميركي، ولم يتخل عنه؛ فهو ما يزال ينطلق من هيمنة فائض القوة العسكرية الأميركية باعتبارها معطى ثابتاً لا يخضع للمناقشة أو المساءلة، ويعتبر أن مكمن الخلل في تعثر المشروع يعود إلى الاستخدام «الغبي» للقوة العسكرية الأميركية من قِبَل الإدارات السابقة، وخاصة إدارة بوش الابن، ويدعو إلى ضرورة إقلاع واشنطن عن استخدام القوة الخشنة المهيمنة بصورة منفردة على المسرح الدولي لتنفيذ استراتيجيتها الدولية، ويطالب باعتماد استراتيجية القوة الذكية من خلال المزج الخلاق بين القوة الخشنة والقوة الناعمة، فكأنه يعاتب أسلافه على عدم توظيف المروحة الكاملة لعناصر القوة الأميركية لخدمة أهداف الأمن القومي الأميركي. ويتوجب على أميركا، حسب وجهة نظره، أن تستخدم قوة الإذعان والإقناع معاً، ولا تنسى استخدام القوة في مجالات الاقتصاد، والدبلوماسية، والثقافة، والفنون، والإعلام... إلخ. لذلك يبقى المعيار الحقيقي لشعار التغيير في أن يتوصل أوباما والنخبة الحاكمة في واشنطن إلى قناعة راسخة بأن التكلفة الباهظة لاستمرار المشروع الامبراطوري ومخاطره تحتم الإقدام على إحداث انعطاف استراتيجي جوهري، يستند إلى البدء بإدارة عملية لتنظيم التراجع، والقبول بدور رئيسي لأميركا يكون وازناً ولكن غير مهيمن، فيؤدي إلى إعادة صوغ نظام دولي أكثر عدلاً وتوازناً. وتبدو مؤشرات العجز في تحقيق التغيير الموعود جلية، فما يزال وعده بإغلاق معسكر جوانتانامو عرضة للتأخير والتجاذب الداخلي، كما أن وعده بالانسحاب من العراق يكتنفه الغموض والتشكيك، لأن اكتفاءه بإعادة الانتشار العسكري لا يعني إرخاء القبضة الأميركية المتحكمة بمفاصل القرار العسكري والأمني والسياسي في العراق تحميه قوة عسكرية مقلّصة العدد عن الوضع الراهن، ولكنها مغطاة باتفاقيات تشرّع بقاءها، على غرار كلٍّ من المثال الألماني والياباني والكوري الجنوبي. ورغم تصريحات أوباما المتكررة بأنه لا يوجد حل عسكري في أفغانستان، نراه يندفع باطراد نحو تصعيد الحملات العسكرية، ويتردد أمام اقتراحات العسكر لزيادة عدد القوات في المسرح الأفغاني ـ الباكستاني، في وضعية تذكّرنا بتجربة التدخل الأميركي في فيتنام. أما لدى تناوله قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي نجده يقدم الرواية الإسرائيلية لأساس الصراع، معتبراً أن التنازلات الرسمية العربية التي وفرتها المبادرة العربية ليست سوى نقطة بداية لما يطلبه أو يفترضه من خطوات لإغراء الجانب الإسرائيلي باستئناف المفاوضات. وما تزال إدارة أوباما تسوّق لمقايضة خاوية وخادعة تقضي بتجميد جزئي ومؤقت للاستيطان (أو بوعد بتجميده) مقابل انتزاع خطوات تطبيعية من الجانب العربي واستئناف المفاوضات. ويستمر في مطالبة الأطراف العربية بتقديم المعونة له في ملفات العراق وإيران وفلسطين ولبنان... إلخ.أما عملية الإنعاش الاقتصادي، فما تزال تراوح بين مؤشرات التفاؤل بتجاوز الأزمة وإمكانية انفجار متجدد، مصدره قطاع البطاقات الائتمانية أو سوق العقارات التجارية أو كليهما معاً. كما يبدو أن أوباما غير قادر على تحقيق التماسك والانسجام داخل فريقه للأمن القومي جراء عدة تحديات، منها استمرار الجدال الداخلي حول كيفية التعامل مع الوضع الأفغاني قائماً، وتضارب الآراء بين رموز إدارته، وعودة الصراعات الخفيّة بين الخارجية والدفاع والاستخبارات والكونجرس؛ وكلها مجتمعة تهدد أوباما بالشلل والعجز وتآكل رصيده الشعبي، كما تُظهر استطلاعات الرأي العام بشأن أدائه. تؤشر الفترة المنصرمة من عهد الرئيس أوباما أيضاً على أن الجسم البيروقراطي الأمني العسكري الذي ورثه عن سلفه ما يزال، في مجمله، يتّبع السياسات والمناهج السابقة، رغم التغييرات التي طاولت بعض رموزه في القمة.


محمد نجيب السعد - باحث أكاديمي عراقي
[email protected]