جمال النوفلي:
رامي لديه سيارة صغيرة وجميلة من نوع "شفروليه كروز"، لا شك أنه قد اهتم بها كثيرا لاستقبالنا وإيصالنا الى الفندق، كان شابا دمث الخلق مهذبا جدا ومبتسم الوجه دائما، وحسن الصورة والهيئة، عيناه خضراوان ووجه ابيض كالشمس، وهو يعمل الآن في الأردن في أحد البنوك الدولية الشهيرة، ولكنه مع ذلك لم يكن سعيدا جدا، أستطيع أن ألتمس ذلك خفيا في بحة صوته عندما يتحدث وفي كسرة عينه عندما يضحك، وما هي إلا دقائق من الحديث عن الأردن وعمّان وأحوال الطقس فيها، حتى بدأ يحدث جمال عن جانب من معاناته المختلفة، كان يهمس له بها بكل حرقة وألم همس الكتوم لصديقه الحميم الذي لا يفضفض لأحد سواه، وأكثر الظن أن كدره ذلك كان من النوع الذي لا يمكن لصديق أن يفعل فيه شيئا سوى الإصغاء وابداء الحسرة على ما وصل اليه الأمر، لكن تصرف صديقي جمال كان على نقيض على ذلك تماما لقد كان حقا شقيا وبليد المشاعر، فهو لا يفتأ يقاطع رامي ويحمله كل أسباب مشاكله ثم لا يكتفي بذلك ويصمت بل يشرع يوجه اللوم العنيف اليه وكأنه السبب الوحيد في كل ما يحصل له، ولعمري لو كان الإنسان هو المتحكم الوحيد في حياته ومستقبله ووضعه، لما رأينا حزنا ولا كدرا على وجه أحد، إن الله ترك قدرا كبيرا من الآلام في هذه الارض، ولكل نصيبه منها، لذلك لا أرى تجاوب جمال مع مشاعر صاحبه الا زيادة في ارباكه، وإمعانا في تضخيم الواقعة عليه، لذلك سألت رامي محاولا تبديل مسار الحديث، أخبرنا يا رامي كيف هي عمّان وكيف الحياة فيها؟
"والله يا شيخ الحياة صعبة في عمّان. كل شي صار غالي بالضعف ويمكن حتى اكثر من الضعف، الناس صارت ما بدها تعيش في البلد، انا ما بحكي عن شح الوظايف، لا، هذول طبعا من باب أولى، انا بحكي لك عن الموظفين والي مرتباتهم كويسة هذول ما قادرين يعيشوا ولا يتجوزوا من الغلا، إذا كان الواحد مرتبه على ٥٠٠ دينار وتكلفة زواجه تفوق ١٥ الف دينار كيف بده يتزوج هذا"
١٥ الف دينار كثير جدا!!
" انت ما بتصدق يا شيخ انه تكلفة الفستان والصالون لوحدها ١٠٠٠ دينار الى ١٥٠٠ فما بالك بالمصاريف التانية".
لا حول ولا قوة الا بالله
وأراد جمال ان يشاركنا الحوار فقال معلقا ومؤكدا: أكيد هذا بسبب الازمة، حتى معنا في عُمان الوضع صعب جدا بسبب الازمة الاقتصادية.
نظر رامي الى جمال باستغراب وقال:
"الأزمة اللي معاكم في مسقط لا شيء بالنسبة للأزمات الي معنا في عمّان، هو لأنه احنا الحين بالليل والناس نايمة فما راح تشوف سيارات كثيرة، بس اول تصحى الصبح راح تشوف الازمات كل مكان بشكل ما يتصور".
لم أفهم شيئا من حديثه، بينما أبدى جمال تفهمه واستغرابه للوضع المزري، وأنا متأكد من أنه لم يفهم شيئا البتة، ثم أعاد المحاولة بصياغة السؤال بطريقة عرضية فقال:
اعتقد ان سبب الأزمة هي الحكومات، فلو الحكومات أحسنت إدارة مواردها بطريقة جيدة وحازمة دون تبذير وتلاعب لما وصل الحال الى ما نحن فيه.
" بس الأزمة الي معكم في مسقط مش كثير زي معنا في الأردن، عدد سكان الأردن أكثر من ١٠ مليون نسمة، منهم الأردنيين واللاجئين والمهاجرين وغيرهم، معنا اكثر من مليون لاجئ، أما في مسقط اللي اذكره هي أزمة وحدة اللي هي في غلا وانت جاي من الانصب، رايح على البنك. بس ".
قال رامي ذلك وهو يتحدث بكل عنفوان وجدية ملوحا بيده للأعلى والاسفل مقارنا بين الازمة بين مسقط وفي عمّان، عندها ادركت أنه يقصد بالأزمة زحمة السيارت وليس ما تصورناه، وضحكت كثيرا وتركت جمال ضائعا في الحديث.
الفندق الذي اخترناه هو فندق ايبيس وهو أحد الفنادق الحديثة والجميلة في عمّان يقع بالضبط أمام مول عمّان في المنطقة التجارية، وقد جعلت لجمال حرية اختيار الفندق والمكان واختار لنا غرفتين في هذا الفندق، وعندما سألنا رامي عن رأيه في الفندق أهو جيد أم لا أجاب بأن ليس لديه أي دراية عن الفنادق فهو لا يعمل في قطاع السياحة، ولم يفكر يوما أن يترك منزله ويسكن في فندق في عمّان، بدا لي كلامه منطقيا بشكل كلي، نعم لماذا على المرء ان يترك منزله لينام في الفندق القريب، لكن في عمان الناس تعرف الفنادق جيدا !!
وصلنا في حدود الساعة الثانية صباحا الى الفندق، وكان في انتظارنا رجل ضخم يلف نفسه بملابس قطنية كثيرة اتقاء للبرد القارس، كان يقعد على كرسي بلاستيكي عند البوابة الخارجية للسيارات، أطفأ رامي إنارة السيارة وأشار له طالبا فتح البوابة إلا أنه ظل جامدا في كرسيه لم يتحرك، وكأننا لا أحد، او وكأنه تجمد من البرد فلم يعد قادرا على الحركة. على كل حال أضطر رامي ان يركن السيارة جانبا وأن يترجل ليتحدث مع الرجل ليفتح الباب حتى ندخل، ودخلنا وودعنا رامي وهو يمسك بيدي راجيا مني أن أقبل دعوته لنا بتناول وجبة عشاء في منزلهم الصغير بمحلة عرجان، وقال بأن لديه أما محبة، وأنها ترجو قبول دعوتها، وأنها تطبخ لنا وجبة المنسف وهي وجبة أردنية شعبية حتى أنه شرح لي جميع التفاصيل عن الطريق والمنزل وافراد عائلته والساعة التي نفضل ان يكون فيها العشاء والطريقة التي نفضل ان نأكل بها وماذا سوف يقدم بالإضافة الى المنسف وغيرها من التفاصيل الدقيقة التي عادة لا يتم الإفصاح عنها الا لإيضاح الغموض أو اللبس لدى المدعو، وبلا أدنى شك إنما هو يعرض علي كل هذا الرجاء ويمنحني كل هذه التوسلات لأن جمال أخبره بأنني رجل صعب المراس لا يقبل الدعوات، وكيف بربكم أقبل هذه الدعوة من رجل مثله تتربص به الاهوال وتحاربه الظروف، أليس قبولي دعوته هذه سوف يثقل كاهله وكاهل أمه المسكينة التي فقدت زوجها منذ سنين طويلة، وليس في حياتها غير هذا الفتى الرائع وأخته الذي تفيض روحه طيبة ورقة وكرما، خلافا لتكبده عناء سهرة في يوم عمل شاق، ونقله لنا من المطار الى الفندق وإضافة لقبوله صندوق الحلويات العمانية المصنوعة من التمر والمكسرات والحلوى الذي أهديته له لا يمكنني فوق ذلك كله أن أقبل منه جهدا وتفضلا، أليس الكرم مرهقا للغني فما بالكم بغيره، وأخيرا وبعد الحاح شديد منه وعدته أنني سأرسل جوابي اليه مع جمال.. .

اليوم الثاني:
صحوت مبكرا في اليوم التالي، وشعرت بتيبس في ظهري وكتفي، لا شك أنه بسبب البرد، مع أن درجة الحرارة هنا ليست منخفضة جدا، إنها تترواح بين ١٢ و ١٥ درجة، أمسكت هاتفي لأرى الساعة، هناك رسالة من أبو حازم: ( السلام عليكم ورحمة الله يا شيخ، الحمد لله على سلامة وصولك عمّان، نوّرت الاردن، سأكون في انتظارك في بهو الفندق عند الساعة ٨ مساء كما اتفقنا) رسالة أخرى من صديق لنا في عمّان اسمه بدر ( الشيخ لا تنسى تروح مطعم ابو جبارة تاكلوا فيه وروحوا بعد حبيبة تاكلوا حلويات وخبرني ايش رايك) تركت الهاتف وذهبت صوب الشباك أزحت الستارة، كان الضباب يملأ الارجاء وأشعة الشمس ضائعة فيه، استطعت أن أتبين تلا صغيرا مكسوا بالشجيرات الخضراء الصغيرة، لا شك أنها شجيرات الزعتر، وعلى رأس التل يتربع مبنى جميل متوسط الحجم جميل المنظر يستره الضباب، لعله كان منزلا لأحدهم..
وعند الساعة الثامنة نزلت الى بهو الفندق وجدت أبا حازم ينتظرني وهو بكامل بدلته وأناقته المعتادة، وعندما رآني ورأيته هالني منظره، فقد شاخ كثيرا عن آخر مرة رأيته فيها، يا إلاهي ماذا فعلت بك الأيام يا أبا حازم، لقد كان رجلا قويا عندما قدم إلينا في مسقط في بداية التسعينيات ليدير بعض أعمال العائلة، وكنت حينها فتى متطلعا الى مرحلة الشباب والعمل، وكان هو الخبير بالأعمال والتجارة من خلال تجاربه في الاردن والكويت ثم عُمان، وهذا هو الآن يقف على أعتاب الشيخوخة، تحدثنا طويلا وسألني عن الأهل والعائلة، بدت الغبطة والسعادة عليه، أكثر مما كنت متوقعا، وكان عاتبا علي أنني لم أسمح له أن يحجز لنا إقامة في فنادق أكبر حجما وأكثر فخامة، وأنني لم اسمح له باستقبالنا في المطار وغيرها من الافضال التي يعتقد أهل الأردن أنها من الواجبات واللائقات، طلبته أن يعذر لي ذلك، لكنه أصر مجددا أن يدعونا الى الافطار في مطعم في الجوار أسمه مطعم أبو جبارة يقدم الوجبات الاردنية الشعبية، وساورتني نشوة فرح فور سماعي لأسم المطعم، لأن الشيخ بدر لم يفتأ يذكرنا قبل قبل سفرنا بضرورة الذهاب الى مطعم ابو جبارة ومطعم حبيبة لتناول الطعام والحلويات، إلا أنني أبديت تمنعي بداية الامر، لأنه وإن ذهبنا فسوف نكون في موقف محرج مع ابوحازم لذات الأسباب التي تعرفونها، لكن في نهاية الأمر رضخت للأمر الواقع على أن أقوم بسداد فاتورة الإفطار وذهبنا معا في سيارته الى مطعم ابو جبارة، واتضح ان المطعم يقع قريبا جدا من الفندق على بعد ٣٠٠ متر فقط، وهو مطعم فخم جدا وكبير وشهير في الأردن ، فلا تكاد تسأل أحدا عن افضل مطعم في البلد الا دلك على أبوجبارة، وقد التحقت بنا هناك أخته وهي امرأة فاضلة تعمل في مجال الاغاثة وخدمة اللاجئين، وهو عمل جبار لا يقوم به الا أصحاب الهمم العالية، وهي بالاضافة الى ما تتحلى به من صفات قيادية ومعرفة شاسعة ومحبة كبيرة للمساكين وترؤسها لإحدى المؤسسات المهتمة بشؤون اللاجئين فقد كانت في غاية الجمال، وقد كان جمال يجلس قبالتها محدقا فيها وهي تحكي معاناة اللاجئين وعن التدخلات السياسية والدولية في شؤون اللاجئين، أما الطعام فكان شهيا جدا بدرجة لا تصدق، إنه من ذلك النوع من الطعام الذي يثير في فمك الشهية فيسيل لعابك وتبلعه حتى أنهم يحضرون لك فور جلوسك وعاء كبيرا مملوءا بالخبز اللبناني الساخن تفوح منه تلك الرائحة الدافئة للخبز الساخن عندما يخرج منتفخا من الفرن، ثم يتركونك دقائق لتستثير كامل شهيتك ثم يحضرون لك المائدة وكانت مائدتنا مكونة من صحن فتة وصحن فول بزيت الزيتون ومسبحة بزيت الزيتون وسندويتش حمام وفلافل وحمص ثم أرفقوا معها أنواعا من السلطات ثم ختموا كل ذلك بكؤوس من الشاي الأحمر. وقد شعرنا بالنشوة والامتلاء بعد هذه الوجبة الشهية ولو كان بإمكاننا أن نأكل أكثر من ذلك لفعلنا.
وبعد وجبة لم يتركنا أبو حازم بل أصر أن يأخذنا في جولة قصيرة في عمّان، زاعما أنه يريد ان يرينا أماكن سكناهم القديمة في عمّان عندما أجبرهم الاحتلال الصهيوني على ترك أراضيهم في نابلس.