رؤية : طارق علي سرحان
منذ نشأتها عام 1947، بدأت وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي تعرف اختصارا بالـ"سي.أي.آيه"، بالتوغل في سياسة الدولة والتأثير عليها بشكل كبير، فيما تعددت صراعاتها مع أجهزة الاستخبارات الأخرى حول العالم.
ولعل أبرز تلك الصراعات وأطولها تاريخيا، الصراع مع جهاز الاستخبارات الروسي المعرف اختصارا بالـ"كي.جي.بي" . يقال إن الهدف الأساسي لإنشأء جهاز الـ "سي.أي.آيه" كان القضاء على الاتحاد السوفيتي. توسع الصراع بين الجهازين على مدار عقود طويلة، وتناقلته وسائل الاعلام وأجهزة الدولتين، ويعتبر استخباراتيون أن هذا الصراع وحده ساهم في تحديد مسار التاريخ.
ولأن هوليوود أحد الأسلحة الناعمة للولايات المتحدة، ظل هذا الصراع مصدر إلهامها، حيث هيمن على معظم أعمالها التي تطل علينا بين الفينة والأخرى لإعادة شحن بطارية الجماهير بالكراهية تجاه الأنظمة التي تعاديها.
ويعتبر فيلم اليوم خير دليل لهذه الرؤية، حيث تزامن عرضه مع التحقيق الذي يجريه المحققون الاميركيون حول "التدخل الروسي" المزعوم في الانتخابات وتورط حملة الرئيس دونالد ترامب مع روسيا.

العصفور الأحمر أو (Red Sparrow) : أحد تلك الأعمال التي تندرج في فئة افلام الجاسوسية والاكشن، مقتبس من رواية تحمل الاسم ذاته لعميل الـ"سي.أي.آيه"
السابق جيسون ماتيوس، ويحكي قصة فتاة روسية يتم تجنيدها لما يعرف بـ"معهد العصافير الحمراء" الذي يزعم أنه تم إنشاؤه في أعقاب الحرب الباردة وهو مختص لتدريب الفتيات لاستخدام أسلحتهن الناعمة لتجنيد العملاء والحصول على المعلومات. في الفيلم نرى كلا من الجنسين يتدربان داخله.
قام بإعداد السيناريو الكاتب جاستين هيث بينما أخرجه النمساوي فرانسيس لورانس الذي اسند اليه 3 اجزاء من سلسلة افلام مباريات الجوع أو "the hunger games" الشهيرة، لكن يبدو أنه لم يستغل قدراته الفنية التي شاهدناها في هذه السلسلة، حيث يؤخذ عليه استسهاله في معالجة الكليشيهات التي حفظناها في مثل تلك النوعية من الافلام، فالعمل مليء بأولئك الاشخاص المفترض أنهم يتحدثون الروسية بلهجة "غليظة نمطية"، أيضا مشاهد التعذيب بدت كانها قديمة ومهترئة.
ربما أٌجُبر مخرجنا على ذلك بسبب التزامه بما جاء في الرواية. لكنه في الوقت نفسه أجاد سرعة التنقل بين المشاهد الثرية بالمغامرات كما أبعدها عن الميلودراما والاستغراق.
تمكن فرانسيس أيضا من إظهار وحشية "كي.جي.بي" أمر يحسب له لكنه يستفزني، ليس لأنه غير صحيح، بل لأنه في المقابل حاول إظهار الجانب الاخر"سي.أي.آيه" وكأنهم ملائكة، دعاية غير متوازنة ليست بجديدة علينا اعتدناها في الافلام الاميركية.
سيناريو الفيلم يشوبه الضعف أيضا، حيث اهتم بحياة الجاسوسة وخلفيتها على حساب القضايا والاشكالات السياسية، كما جاءت العلاقة بينها وبين عميل الاستخبارات الاميركية سطحية نوعا ما اعتمدت على الاغراء فقط.
الفيلم من بطولة سيدة جميلات هوليوود جينيفر لورانس تجسد دور الجاسوسة الروسية أوالعصفورة الحمراء "دومينكا إيجوروفا"، في إداء متميز يعد إضافة هامة في مسيرتها الفنية المذهلة التي حازت خلالها على أوسكار أفضل ممثلة، برغم صغر سنها فهي لم تتجاوز الـ30. يشاركها البطولة الممثل البلجيكي ماتياس شونارتس ويجسد نائب رئيس جهاز الاستخبارات الروسي " فانيا إيجوروفا"، المتألق جويل إجيرتون ويقوم بدور عميل الاستخبارات الاميركي النشط "نات ناش"، الممثل جيرمي أيرونز يجسد الجنرال الروسي "كورشنوي" ، وأخيرا وليس اخرا الممثلة الانجليزية القديرة شارلوت رامبلينج وتجسد دور "مارتون" مشرفة المعهد، في أداء قوي لافت للانتباه.

...................................
نهاية وبداية
تنتهي المسيرة المهنية للباليرينا "راقصة باليه" الروسية دومينكا ايجوروفا، التي تقدم عروضها في مسرح البولشوي، بعد تعرضها لكسر عنيف في الساق جراء حادث نعلم لاحقا انه مفتعل. حيث تُجبر بعدها على العمل لصالح جهاز الاستخبارات الروسية عن طريق عمها فانيا ـ المنحرف جنسيا ـ والذي يستغلها بعد أن تقصده باحثة عن عمل، فتضطر الموافقة لتتمكن من رعاية والدتها المريضة بعد وفاة والدها.
تلتحق دومينكا ببرنامج سري يؤهلها لتصبح جاسوسة لكن بشكل مختلف، حيث تتدرب على غواية الأعداء ـ نفسيا وجسديا ـ للحصول على مبتغاها.
تبدأ دومينكا مسيرة مهنية جديدة، حيث يتم تكليفها بالتقرب من عميل المخابرات الاميركي نات ناش لمحاولة الكشف عن جاسوسه الروسي الذي يزود الولايات المتحدة بمعلومات حساسة. لتسافر الى بودابست، وهنا يبدأ فصل جديد من فصول الحكاية.

...................................
جاسوسة مزدوجة

تكشف دومينكا لناش عن هويتها وحكايتها، وتخبره برغبتها في العمل لصالح دولته كعميلة مزدوجة، ويبدأن معا قصة حب ـ أجدها سخيفة وسطحية جدا على المستوى الشخصي ـ، ليتم الموافقة على طلبها من قبل المسؤولين الاميركيين، حينها تتعرض للتعذيب في موسكو بعد شكوك حول ذلك، وبعد فترة تعود مرة أخرى لبودابست في فرصة أخيرة لإثبات ولائها وبعد تدخل عمها الذي يثق في قدراتها.
بصورة مفاجئة ـ لم يعالجها السيناريو جيدا ـ يقدم الجاسوس الروسي نفسه إلى دومينكا، لنجد انه جنرال كبير ويدعى كورشنوي، ويشرح لها اسباب فعلته تلك ـ في إطار دعاية تقوم بتشويه صورة روسيا بقوله "لقد كنت وطنيا وقررت التغيير بسبب الفساد"ـ ، وينصحها في الأخير لتبلغ عنه وتعيش في سلام.
حينها ينقلب السحر على الساحر، حيث تبلغ دومينكا رؤساءها عن هوية الجاسوس، وفي لحظة التسليم الاستخباري بين الطرفين، نكتشف أنها قامت بالابلاغ عن عمها فانيا بدلا عن الجنرال كورشنوي لتنتقم منه أشد انتقام، فقد أغُتيل قبل وصوله للاميركان، ويتم تتويجها بطلة وطنية.
العصفور الأحمر .. شريط دعائي بامتياز، يقدم دعاية سوداء لروسيا في مقابل دعاية بيضاء "تلميعية" للولايات المتحدة في إطار الصراع بين البلدين. يحاول توجيه الرأي العام نحو قضية "التدخل الروسي" المزعومة، من خلال إبراز النظام الروسي الحالي في تناوله لموضوع الاستغلال والابتزاز تحت مسمى "العمل لصالح الوطن".