[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
يتوقع أن يشهد المجتمع الدولي خلال الفترة القادمة المزيد من الفوضى والاضطراب في منظومة العلاقات الدولية, خصوصا في حال استمرار كل من الصين وروسيا وربما تدخل معها خلال الفترة القادمة بعض دول أميركا الجنوبية والشرق الأوسط في تحدي العقوبات الأميركية ضد إيران, كما أظهرت الدول الأوروبية الفاعلة مجتمعة نوعا من بوادر التراجع بعيدا عن القطب الأميركي...

انسحبت الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق الدولي المبرم مع إيران حول برنامجها النووي في العام 2015م أو اتفاق لوزان النووي بين إيران والدول الست (الصين، روسيا، أميركا، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا) بتاريخ 8/5/2018م, كما أنها وبالإضافة إلى ذلك اتجهت إلى فرض عقوبات أحادية الجانب على إيران بدا سريانها يوم الثلاثاء الموافق 7/8/2018م على أن تطبق الحزمة الثانية من تلك العقوبات في شهر نوفمبر من العام نفسه.
هذا الانسحاب وتلك العقوبات كان لها الأثر السلبي البالغ على استقرار العلاقات الدولية والقانون الدولي, فمن جهة ينظر إلى ذلك التصرف على أنه انسحاب لدولة عظمى لها وزنها وقوتها وثقلها السياسي من معاهدة قانونية دولية وقعتها قيادتها السياسية السابقة بالاتفاق مع دول أخرى مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وللأسف الشديد، إن هذا الانسحاب يعد انسحابا أحادي الجانب، حيث إن بقية الأطراف الموقعة على هذه الاتفاقية ما زالت محافظة على سريانها القانوني.
وما زاد الأمر سوءا في قضية التصرف الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني أن تلك العقوبات لم تنحصر في التعاملات الأميركية ـ الإيرانية, بل شملت معظم الدول المتعاملة مع هذه الأخيرة, وكأن الولايات المتحدة الأميركية تؤكد فكرة "شرطي العالم" و"القاضي الدولي" الذي يملك صلاحيات إصدار قرارات دولية نافذة على مختلف الوحدات السياسية الدولية, ويجب على هذه الأخيرة الالتزام بها وتنفيذها دون أي اعتراضات, حتى وإن كان ذلك يتعارض مع مصالحها السياسية والاقتصادية.
الأمر الذي بلا شك أثر كثيرا على ثقة المجتمع الدولي في بقية الالتزامات القانونية للولايات المتحدة الأميركية المستقبلية خصوصا, وعلى ثقة الدول الأضعف في تلك المعاهدات والالتزامات القانونية الدولية التي تبرمها الدول الكبرى معها تحت مظلة القانون الدولي. كما أنه ومن جهة أخرى قسم المجتمع الدولي إلى قسم شارك الولايات المتحدة الأميركية وجهة نظرها حول هذا الاتفاق, وقسم آخر عارض هذا الانسحاب، الأمر الذي رفع من درجة الفوضى والاضطراب في منظومة العلاقات الدولية المتوترة أصلا في الشرق الأوسط.
وبالفعل لم تمضِ أكثر من 48 ساعة على ذلك الانسحاب الأحادي الجانب من قبل الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق المبرم مع إيران حتى تحققت تلك المخاوف الأمنية والسياسية سالفة الذكر عبر ردود أفعال متفاوتة القوة, كانت مزيجا من التحدي والعمل الأحادي بعيدا عن الولايات المتحدة الأميركية.
كما تلاحظ أن تلك الردود عكست من جهة قوة ومكانة بعض الوحدات السياسية الرافضة لتصرفات القيادة والحكومة الأميركية تجاه الاتفاقية، خصوصا تلك الدول الفاعلة في المنظومة الدولية. أما من جهة أخرى فقد أوضحت استعدادا تاما لنفس تلك القوى للعمل الجماعي ضد القطب الأميركي, وهو ما يشير إلى تشظي النظام العالمي الراهن بعيدا عن المركزية الأميركية باتجاه نظام تعددي في أحسن الأحوال، نظرا لوجود قوى دولية قادرة على إبراز ردود أفعال لها جاذبيتها المركزية، ويمكن أن تؤدي بالفعل إلى استقطاب آخرين إليها خلال السنوات القادمة.
فعلى سبيل المثال أكدت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا أسفها للقرار الأميركي وأنها ترغب في العمل المشترك على اتفاق "أوسع" مع إيران. من جانبها عبرت روسيا عن "خيبة أمل عميقة لقرار الرئيس ترامب الأحادي الجانب, وأكدت رفضها التام والقاطع لهذا التصرف, معتبرة أن واشنطن تدوس على أعراف القانون الدولي. أما الصين والتي كانت آخر القوى الدولية الموقعة على الاتفاق والتي عبرت عن رأيها قائلة (إن بكين تعارض العقوبات أحادية الجانب. وأضافت أن التعاون التجاري مع إيران لا ينتهك أي قرارات لمجلس الأمن الدولي، مضيفة أنه ينبغي حماية الحقوق المشروعة للصين).
على ضوء ذلك يتوقع أن يشهد المجتمع الدولي خلال الفترة القادمة المزيد من الفوضى والاضطراب في منظومة العلاقات الدولية, خصوصا في حال استمرار كل من الصين وروسيا وربما تدخل معها خلال الفترة القادمة بعض دول أميركا الجنوبية والشرق الأوسط في تحدي العقوبات الأميركية ضد إيران, كما أظهرت الدول الأوروبية الفاعلة مجتمعة نوعا من بوادر التراجع بعيدا عن القطب الأميركي الذي طالما كانت أوروبا تقف خلفه لعقود طويلة.
يضاف إلى ذلك أن التصرف الأميركي الكامن في فرض تلك العقوبات أحادية الجانب، وبذلك الأسلوب الذي يفرض قوة وهيمنة المركز في مواجهة بقية أعضاء المنظومة الدولية وضع الولايات المتحدة الأميركية في موقف صعب, حيث يفترض عليها الآن معاقبة كل دول العالم التي ستتعامل مع الجمهورية الإيرانية, في وقت أعلنت فيه كل من روسيا والصين وهما مزيج من القوة النووية الثانية على مستوى العالم والاقتصاد الثاني الأكبر على مستوى العالم تحدي تلك العقوبات. وهما أصلا من القوى الدولية متوترة العلاقة مع الولايات المتحدة, وبينها الكثير من الشد والعقوبات السياسية والاقتصادية المتبادلة. فكيف ستكون ردود أفعال الولايات المتحدة الأميركية على تلك الدول الفاعلة، خصوصا وبقية دول العالم التي يمكن أن تنفلت بعيدا عن قوة الجاذبية القطبية للولايات المتحدة الأميركية.
على خلاف ذلك، فهناك دول عديدة في منطقة الشرق الأوسط ذات العلاقة المتداخلة جغرافيا وكذلك اقتصاديا وتاريخيا وسياسيا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولها معها أنشطة وتعاملات عديدة ومختلفة, ومن الاستحالة حلها أو التنصل منها, وستكون في مرمى العقوبات الأميركية في حال لم تبرز في الأفق بوادر تراجع في تصعيد الموقف الأميركي, وهو أمر سيشكل العديد من المخاطر حيال التعاملات السياسية، وسيرفع من الاضطراب والفوضى في منظومة العلاقات الدولية في الشرق الأوسط, وحتى في حال برز تغيير في الموقف الأميركي فإن ذلك سيعني من الناحية السياسية أن القوى العظمى العالمية يبدو أنها قد أصبحت ضعيفة وأن قراراتها لا تزيد عن كونها انفعالات سياسية, وما يمكن أن يعنيه ذلك في النظام العالمي الراهن.
إذًا يبدو أن المسرح العالمي أصبح قريبا من نظرية التشظي* التي طالما تحدثنا عنها في النظام العالمي المنهار "النظام المركزي" باتجاه نظام قائم على التشكل "نظام تعددي الأقطاب", إلا أن تلك الولادة المتوقعة ستكون عسيرة، وستشهد معها العديد من الاضطرابات والفوضى والصراعات العالمية, والتي سيكون مركزها كما اعتدنا منذ عقود طويلة منطقة الشرق الأوسط.
ملاحظة: لفهم أوسع حول نظرية التشظي في النظام الدولي أنظر مقال تشظي النظام الدولي بصحيفة الوطن العمانية بتاريخ 12/يونيو/2017م